مريم شناوي، وسلمى مهاود (OCCRP) وهلا نصرالدين (درج)
تعهدت السلطة حينها بأن التحقيق سينجز خلال خمسة أيام، لكن مرت خمس سنوات على جريمة انفجار مرفأ بيروت ولا تزال العدالة في القضية معلقة. القرار الاتهامي شبه ناجز لكن هناك عراقيل دون إعلانه فما هي؟
خمس سنوات انقضت على الفاجعة التي شهدتها العاصمة بيروت. انفجار راح ضحيته ٢٢٠ شخصًا حُرموا من الحياة، فيما يبقى السبب الحقيقي وراء هذه الجريمة مجهولًا حتى اليوم. خمس سنوات من المماطلة وعرقلة التحقيقات في قضية انفجار المرفأ.
لا تزال الإهراءات شاهدة صامتة على هول الكارثة، ومعها مدينة تنهشها آثار الانفجار: شركة كهرباء لبنان لم تُرمَّم حتى اليوم، ومحال كثيرة ما زالت مكسورة الأبواب والنوافذ. غير أن الكسر الأعمق والأشد إيلامًا يبقى في قلوب أهالي الضحايا، فهم وحدهم يعرفون معنى الجرح الدامي، وكما يقول المثل اللبناني: “الجمرة لا تحرق إلا موضعها”.
إلّا أنّ ما وصف بـ”العهد الجديد” الذي بدأ مع انتخاب العماد جوزاف عون أعطى بارقة أمل لأهالي المرفأ، فمنذ استلام الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام مهامها في مطلع عام 2025 وبدء وزير العدل عادل نصّار عمله في الوزارة، أُعيد إحياء مسار التحقيق القضائي بانفجار المرفأ، بعد توقفٍ امتد لسنوات نتيجة التدخلات السياسية والعراقيل القانونية.
استؤنفت المحاكمات بعد تعهد السلطة السياسية بعدم التدخل، فشرع المحقق العدلي القاضي طارق البيطار باستدعاء عدد من المسؤولين والمدعى عليهم. في المقابل، واصل بعض المسؤولين السابقين، وفي مقدمهم النائبان غازي زعيتر وعلي حسن خليل المنتميان إلى حركة أمل، الامتناع عن حضور جلسات الاستماع أمام قاضي التحقيق. كما امتنع القاضي غسان عويدات عن جلسة التحقيق المخصصة له مرتين في تموز/ يوليو 2025، ورفض إعطاء أية شرعية للمحقق العدلي، ودوّن في بيانه ما يُعتبر رفضًا تامًا لمرجعية السلطة القضائية، ما دفع جهات حقوقية إلى المطالبة بتجريده من منصب الشرف القضائي.
أبرز المستجدات
في مقابلة خاصة لموقع “درج”، قال مصدر قانوني مطّلع على الملف أنّ القرار الظني قد يكون قريبًا، ولكن هناك ثلاث نقاط أساسية لا تتعلق مباشرة بعمل القاضي بيطار، لكنها تعيق تقدم التحقيق في قضية انفجار مرفأ بيروت:
أوّلًا: الاستنابات القضائية الدولية
صدرت استنابات من دول أوروبية وعربية (لم يُعلن حتى الآن ما هي هذه الدول) ولم يتم الرد عليها بعد. والمعلومات التي قد ترد من الخارج قادرة على تعزيز التحقيق المحلي وتوفير أدلة إضافية. تجدر الإشارة إلى أن طلبات الاستنابة تمر عبر مسار إداري طويل يبدأ من المحقق العدلي إلى النائب العام التمييزي، ومن ثم إلى وزير العدل، فوزير الخارجية اللبناني، ثم إلى وزير الخارجية الفرنسي، يليه وزير العدل الفرنسي وأخيراً إلى المدعي العام التمييزي الفرنسي ويردّ عليها بالطريقة نفسها.
ثانيًا: الدعاوى القضائية بحق القاضي بيطار
هناك نحو 50 دعوى مقدمة ضد المحقق العدلي القاضي طارق البيطار أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز في ما يتعلق بقضية المرفأ. تم البت في نحو 20 منها، فيما تبقى نحو 30 دعوى عالقة. من أبرز هذه الدعاوى، القضية التي رفعها المدعي العام التمييزي السابق القاضي غسان عويدات بتهمة “اغتصاب السلطة”، والتي يمكن أن تؤدي، في حال عدم البتّ فيها، إلى تعليق عمل المجلس العدلي ووقف تنفيذ القرار الاتهامي الصادر عن بيطار. ويشدد المصدر على ضرورة أن يقوم القضاء بدوره في البت بهذه الدعاوى حتى لا تتحول إلى عقبة أساسية أمام المحاسبة. فطالما لم تُحسم الدعاوى، يبقى احتمال توقف الملف قائمًا، وقد يظل معلقاً في المجلس العدلي لسنوات، ولو أصبح علنياً مع صدور القرار الاتهامي عن بيطار. يتساءل المصدر: “هل تُركت هذه الدعاوى عمداً لإضعاف التحقيق؟ إنه سيف مصلت على رقبة تحقيق المرفأ”.
ثالثًا: دور النيابة العامة التمييزية
بعد الانتهاء من التحقيق لدى القاضي بيطار، يجب أن تطّلع النيابة العامة التمييزية على كامل الملف وأن تقدم مطالعتها القانونية وإبداء الرأي قبل تحويله إلى المجلس العدلي.
وبحسب ما علم “درج”، فإن التحقيق اللبناني يتضمّن كشف المعلومات كافة المتعلقة بالقضية، بما فيها الشحنة وظروف وصولها، مدعماً بالأدلة، وأنّ القاضي بيطار لم يحسم قراره بعد لجهة ما إذا كان سينتظر الردود على الاستنابات والبتّ في الدعاوى المقامة ضدّه قبل ختم التحقيق وإرساله في الظروف الراهنة. غير أن المصدر يعتبر أن ختم الملف في هذا التوقيت قد لا يكون في مصلحة القضية. علمًا أنّه على رغم مرور خمس سنوات على الانفجار، إلا أن التحقيق الجدّي لم يتعدَ في مجموعه سنة واحدة فقط، بسبب تجميد عمل القاضي البيطار والتعطيل السياسي الذي استمر لنحو ثلاث سنوات.
ويلفت المصدر إلى أن القاضي بيطار لم يتخذ حتى الآن إجراءات مباشرة بحق المتهمين، مفضلاً انتظار إنهاء التحقيقات والإجراءات كافة لاتخاذ التدابير القانونية بحق الجميع دفعة واحدة، وفق مبدأ المساواة في المعاملة القضائية.
وزير العدل عادل نصار
وهنا يقول وزير العدل عادل نصّار، في مقابلة لموقع “درج”، “أعتقد أن العامل الزمني ليس هو العامل الأساسي في هذا الملف. المهم أن يصدر القرار متكاملاً ويعالج جميع جوانب الملف، وليس أن نحدد فقط تاريخاً للإعلان بغض النظر عن استكمال التحقيقات. ما يحدد الوقت هو اكتمال الملف ذاته، وليس أي اعتبار آخر”.
يتابع نصّار، “حددت ثلاثة أهداف أساسية في عملي كوزير للعدل، وهي: إزالة العراقيل أمام التحقيق في ملف انفجار المرفأ، إجراء التعيينات اللازمة في المواقع القضائية وإقرار قانون يضمن استقلالية السلطة القضائية وتنظيم عملها… من الواضح أن الأجواء تغيّرت، فقد تراجع النائب العام التمييزي عن قرار النائب العام التمييزي السابق بعدم التعاون مع المحقق العدلي، وكان لهذا التراجع أثر كبير في إعادة إطلاق ديناميكية التحقيق”.
وأكّد نصّار أنّه أوضح للمحقق العدلي أنه يضع بتصرفه جميع الإمكانات والأدوات المتاحة ضمن صلاحيات الوزارة لتسهيل مهمته، كما بادر وزير العدل إلى التواصل مع الجانب الفرنسي، لتعزيز التعاون والتنسيق بين الجهات المختصة، بخاصة وأن هناك تحقيقات موازية تُجرى في فرنسا نظرًا الى وجود ضحايا فرنسيين من جراء الانفجار. علمًا أنّ وفدًا فرنسيًا كان قد حضر إلى لبنان منذ مدّة قصيرة والتقى جميع المعنيين، بمن فيهم المحقق العدلي والنائب العام التمييزي.
“أعتبر أن هذا الملف، إن لم يصل إلى خواتيمه ويُنجز حتى النهاية، فلن يكون بإمكاننا القول إن الدولة استعادت مقوماتها؛ إذ لا بإمكان دولة لا تحاسب المسؤولين عن الكارثة ولا توضّح الحقيقة لمواطنيها أن تدّعي امتلاك عناصر الدولة الفعلية. لهذا السبب، يهمني كثيرًا أن يُستكمل هذا الملف حتى نهايته، وأن يتمكن القضاء من أداء دوره كاملاً. فالمهم في نهاية المطاف، ليس سرعة الإنجاز، بل الوصول إلى الحقيقة، بعدها تبدأ مرحلة المحاكمة”، بحسب نصّار.
أين وصلت التحقيقات السابقة؟
في تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، رست سفينة الشحن MV Rhosus التي ترفع العلم المولدوفي في مرفأ بيروت، وكانت تحمل 2,750 طنًا من نيترات الأمونيوم. بحسب الأوراق الرسمية، كانت الشحنة متجهة من باتومي في جورجيا إلى بيرا في موزمبيق بناءً على طلب شركة المتفجرات الموزمبيقية FEM، إلا أن الوجهة الحقيقية للشحنة، والغاية الأصلية من استيرادها، والجهة الممولة بقيت جميعها غامضة. كان الوسيط في هذه الصفقة شركة Savaro Ltd، وهي شركة واجهة مسجلة في المملكة المتحدة وترتبط بأنشطة تجارية مبهمة أخرى. ظلّت Savaro Ltd بملكية مجهولة حتى تبيّن لاحقًا أنّ مدير الشركة هو فولوديمير هليادشينكو، أوكراني من مواليد 1976، تمّ تعيينه عام 2021، علمًا أنّ الشركة هي حاليًا تحت التصفية (in liquidation).
أُفرغت شحنة الأمونيوم عام 2014 في العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت. على مدى أكثر من ست سنوات، تم تجاهل الكثير من التحذيرات بشأن خطورة هذه المواد من الجهات الرسمية والقضاة. كما كشفت التحقيقات لاحقاً عن شبهات بسحب كميات من النيترات تدريجياً قبل وقوع الانفجار، وتبيّن أن الكمية التي انفجرت كانت أقل بكثير من الكمية الأصلية المخزنة، وربما لا تزيد عن خمسها فقط، بحسب تقديرات مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي (FBI).
بعد انفجار المرفأ في 4 آب/ أغسطس 2020، توجّهت الأنظار حينها إلى المواطن الروسي الأربعيني المقيم في قبرص، إيغور غريتشوشكين، بوصفه مالك السفينة. غير أن تحقيقًا أجرته منظمة مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) وشركاؤها، كشف عن تفاصيل إضافية، تبيّن من خلالها أن غريتشوشكين لم يكن المالك الفعلي للسفينة.
تشير الوثائق إلى أن غريتشوشكين لديه تاريخ في العمل كمسؤول إداري في شركات يديرها آخرون، كما أُدين في روسيا في منتصف الـ 2000 بتهمة سرقة لأسباب لم تتضح بالكامل. لكن على المستوى القانوني، لم يكن غريتشوشكين مالك السفينة، بل كان يديرها عبر شركة Teto Shipping المسجلة في جزر مارشال، والتي استأجرت السفينة من شركة Briarwood Corporation المسجلة في بنما.
اكتشف تحقيق OCCRP أنّ شركة Briarwood تعود ملكيتها إلى رجل الأعمال القبرصي شارالامبوس مانولي. وساهمت ثلاث من شركات مانولي الأخرى في حصول “روسوس” على العلم المولدوفي، وإصدار شهادات صلاحية الإبحار، بالإضافة إلى تقديم خدمات وسيطة للحفاظ على السفينة في الخدمة على رغم الأعطال الخطيرة التي تعاني منها.
تُظهر وثائق حصلت عليها OCCRP أن المصنع المستورد Fabrica de Explosivos de Mozambique هو جزء من شبكة شركات يرتبط بعضها بالنخبة الحاكمة في موزمبيق، وكانت محل تحقيقات سابقة حول تجارة غير قانونية بالأسلحة وتزويد متفجرات لجماعات إرهابية.
لا بدّ من التذكير أن شركة FEM (Fábrica de Explosivos de Moçambique) تعود 95 في المئة من ملكيتها الى عائلة البرتغالي الراحل Antonio Moura Vieira، من خلال شركة Moura Silva & Filhos. ورد اسم الشركة سابقًا في تحقيقات دولية بشأن تهريب أسلحة وتوريد متفجرات لعمليات إرهابية مثل هجمات مدريد.
وفي رسالة بريد إلكتروني، أفاد المتحدث باسم المصنع أنتونيو كونيا فاز، بأن الشركة طلبت نيترات الأمونيوم عبر شركة Savaro Limited البريطانية، ولم تلجأ لاسترداد الشحنة عندما لم تصل إلى موزمبيق، بل اكتفت بتقديم طلب جديد للشراء.
“هذا الملف يجب أن يصل إلى الحقيقة. هدفنا هو معرفة ما حصل، ومن هو المسؤول. لا يمكن القول إن المحاكم ستنصف الضحايا إلا إذا ظهرت الحقيقة، وأوافق على ذلك تمامًا. الحقيقة هي وحدها التي تنصف الضحايا. الضحايا هم المعنيون الأساسيون، ولكن جميع اللبنانيين معنيون أيضاً. إذا لم نعرف ما الذي حدث، ولم تحصل مساءلة ومحاسبة قضائية، فهذا يعني أن أسس الدولة مهددة. كيف يمكننا أن نواجه أنفسنا والأجيال القادمة إذا كان انفجار المرفأ قد وقع ولا نعرف عنه شيئاً؟ هذا أمر غير معقول، ولا يليق بدولة. فالدولة الحقيقية تقتضي حصرية القوة بيد السلطات الرسمية، وإذا فقد هذا العنصر الأساسي، ستنتقص أركان الدولة. الدولة التي تعجز عن إبلاغ مواطنيها بالحقيقة أو عن وضع المسؤولين أمام المساءلة، أو على الأقل تحديد المرتكبين بوضوح، تكون قد تخلت عن دورها”، وفقًا لوزير العدل عادل نصّار.
ساهم في إعداد هذا التقرير الصحافية ميان مساعد.