سلسلة أيام في بلغاريا يدون ملاذ الزعبي لمحاتٍ من مشاهداته في موقع دير ريلا، و«مستودع الروح البلغارية» ومن نقاشات ثقافة التنسّك الدينية وآثارها السياسية في محطاتٍ من تاريخ البلاد. كنا نشرنا الجزء الأول أيام في بلغاريا (1)
لم يكن سهلاً بلوغ دير ريلا في وسط الجبال التي تحمل الاسم نفسه: ريلا، قادمين من العاصمة البلغارية صوفيا. امتدت الرحلة المضنية لساعات رغم أن المسافة لا تتجاوز المئة وعشرة كيلومترات. خطواتي الأولى، بعد ترجّلي من الحافلة، لم تذهب باتجاه عبور بوابة البناء الضخم للدير الشهير، فضلت الالتفاف يساراً في طريق ترابي للمشاة يخترق الغابة صعوداً، وما هي إلا دقائق حتى كنت أقف وحدي أمام قبر معزول بشاهدة رخامية سوداء للصحافي والناشط السياسي الأيرلندي جيمس بورتشييه.
قبر بورتشييه
كان بورتشييه أحد أبرز مناصري بلغاريا الغربيين في العقود المضطربة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأقام فيها قرابة 25 عاماً، ودعم حكومتها عبر الصحف وفي كواليس الدبلوماسية ومحادثات ومؤتمرات القوى الكبرى بُعيد حربي البلقان الأولى والثانية وعقب الحرب العالمية الأولى، حيث خسرت البلاد جزءاً هائلاً من أراضيها. وما كان دفنه قرب أعظم أديرة بلغاريا إلا دليلاً بالغاً على التقدير والامتنان اللذين حظي، وما انفك يحظى بهما، بين البلغار (يحمل شارع رئيسي ومحطة مترو في العاصمة اسمه اليوم).
ومع ذلك، لم يُشكل بورتشييه حالة استثنائية، إذ لعب نشطاء غربيون كثر دوراً هاماً في البلقان لعقود طويلة منذ أوائل القرن التاسع عشر، حيث دعموا بالأساس حركات التحرر الوطني، وذهب بعضهم للمناداة بالوحدة السلافية، ضمن السياق الواسع لنهوض الحركات الإصلاحية والتحررية في مجتمعات الغرب الأوروبي، وصعود الأفكار القومية، وشيوع المُثل الرومانسية والرؤى التنميطية للإمبراطورية العثمانية المريضة والموشكة على الانحلال.
تأثيرات سوريّة!
عدت أدراجي باتجاه الدير، عبرت البوابة هذه المرة، وهو ما كان كافياً لإدراك العظمة العمرانية للمجمع الكنسي: جدران داخلية بديعة وأقواس يتناوب فيها اللونان الأبيض والأسود مع شرفات وقبابٍ خشبية تحيط بفناء داخلي فسيح تزينه أشجار عملاقة، وتتوسّط الفناء كنيسة مخططة مزخرفة بلوحات جدارية ملونة. وفي خلفية كل ذلك تبرز قمم جبال غابيّة خضراء وأخرى تكتسيها الثلوج التي تظهر حيناً وتختفي حيناً آخر بحسب حركة السحاب.
دير ريلا
أوائل القرن العاشر، قرر راهب شاب يدعى إيفان ريليسكي أن يُصبح ناسكاً. توجه إلى هذه الجبال القاسية، حيث أقف أنا بحذائي الرياضي المريح مرهقاً من رحلة في الحافلة على طرق معبدة وممسكاً هاتفي الخليوي، وأمضى هو فيها بقية حياته في الصلاة والتعبد والتأمل، متخلياً عن متاع الحياة الدنيا ومستقراً في كهوف مجاورة وسط ظروف بالغة القسوة (تنخفض درجات الحرارة شتاء إلى 20 درجة مئوية تحت الصفر أحياناً). هكذا بدأت قصة هذا الدير. توفي إيفان ريليسكي عام 947، ولم يتأخر تطويبه قدّيساً باسم يوحنا الريلي، وبات الحامي السماوي للبلغار.
للمفارقة، أقرأ في كتاب عن تاريخ البلاد، أن التنسّك، وغيره من العقائد غير الرسمية والبدع والهرطقات، بلغ الأراضي البلغارية عبر رهبان ومؤمنين ومبشّرين سوريين وأرمن، سنوات قليلة بعد تحول بلغاريا إلى المسيحية عام 864، وسرعان ما انتشر بين الملتزمين دينياً.
مستودع الروح البلغارية
خلال النهار، استمر توافد الزائرين والمجموعات السياحية، وصلت حافلتان تقلّان مجموعتين من الطلبة والطالبات في ما يبدو أنها رحلات مدرسية. الأولى ليافعين ويافعات، والثانية تضم تلامذة ما زالوا في المرحلة الابتدائية، جميعهم أتوا لزيارة «مستودع الروح البلغارية» كما تصف الديرَ عباراتُ موقعه الرسمي. أفكّر وأنا أتجول هناك: أي مستودع مماثل للروح السورية؟ المسجد الأموي مثلاً؟ بالتأكيد ليس بالطريقة التي يُقدم بها حالياً كمكان يُشير إلى الغلبة أكثر مما يدل على الاستيعاب. ثمّ، هل من روح سوريّة أساساً؟.
كانت الأديرة المسيحية، وفي مقدمتها دير ريلا طبعاً، قد لعبت دوراً حاسماً في الحفاظ على الهوية واللغة والثقافة البلغارية خلال القرون المديدة للحكم العثماني (من 1393 إلى 1878)، والذي يُشار إليه عادة بـ«النير العثماني». فالأديرة والكنائس غالباً كانت الأماكن الوحيدة التي حُوفِظَ فيها على الممارسات الطقوسية البلغارية والأرثوذكسية، وكذلك على المخطوطات والنصوص الدينية والتاريخية والتقاليد الأدبية القديمة، وعبرها واصل صنّاع الأيقونات والرسامون البلغاريون العمل، وبالتالي حافظوا على التقاليد البلغارية في الفن الديني، بينما تحولت هذه المؤسسات الدينية إلى مراكز غير رسمية للتعليم ومحو الأمية السلافية، وفيها تعلم الأطفال القراءة والكتابة بلغة بلادهم من خلال النصوص المقدسة، بل إن بعض الأديرة تَحوَّلَت مدارس رهبانية متكاملة، مما مهد الطريق في نهاية المطاف لانتشار المدارس العلمانية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، تلك التي يُواظب طلبتها اليوم على زيارة دير ريلا.
جدران كنيسة الدير
وبالإضافة إلى كل الأدوار السابقة، تفرّد دير ريلا بالمساهمة برعاية مدرسة الرسم الديني المزدهرة التي كانت موجودة في منطقة صوفيا في القرن السابع عشر وما بعده، وفيه افتُتحت أول مطبعة في البلاد في الربع الأول من القرن التاسع عشر (وهي ما زالت ضمن قائمة معروضات المتحف الخاص بالدير الذي يضم أيضاً نماذج من الفنون والحرف الكنسية الأجنبية والبلغارية المبهرة كصليب رافاييل الخشبي).
أدوار وطنية
لم يقتصر إسهام الأديرة والكنائس في الإحياء والنهضة الوطنيين على الدور التعليمي المذكور آنفاً، مع التأكيد على الأهمية الجوهرية لهذا الدور وتشابكه مع أدوار سياسية واجتماعية أخرى، إذ غالباً ما دعم قادة الأديرة، من رهبان ورجال دين آخرين، فكرة الهوية الوطنية البلغارية، بالتضاد مع الإمبراطورية العثمانية، ولكن أيضاً بالتضاد مع الهيمنة اللغوية والثقافية والدينية لرجال الدين اليونانيين في بطريركية القسطنطينية، ودعَمَ العديد من القساوسة النضال من أجل كنيسة بلغارية مستقلة، وهو ما تحقق قبل سنوات قلائل من الاستقلال إثر تأسيس الأسقفية البلغارية عام 1870 إثر كفاح متقلب ومرير تحالف فيه رجال الدين والإنتلجنسيا والتجار.
وعموماً، لم يخض الدير نضالاً علنياً، بيد أنه دعم بتكتم الشخصيات الثورية والمصلحين التربويين، ودخل في صدامات أحياناً مع السلطات العثمانية، لا سيما بشأن حقوق الملكية والضرائب والشكوك حول التحريض القومي.
رُمِّم دير ريلا وأعيد بناؤه أكثر من مرة، وخلال النير العثماني، اكتسب بناء الكنائس وترميمها بعداً يتجاوز الأهمية الروحية، فمن جهة عكَسَ مشاعر الفخر والتضامن الوطنيين، وخاصة عبر إسهامات التجار البلغار في الشتات، ومن جهة أخرى أصبح أحد أشكال تحدي السلطة المُهيمنة غير المسيحية، وهو ما حدث بشكل مشابه نسبياً في بولندا خلال سنوات العهد الشيوعي في القرن العشرين.
من طبيعة المكان
ودور سلبي؟
لكن، ثمة رأي آخر راج بين بعض المثقفين البلغار بشأن الأديرة وثقافة النسك التي تقف خلفها. فالتنسّك الذي يُعبر عن استعداد للزهد بالعالم ومشاكله والانسحاب منهما، كان منطلق تأسيس واحدة من أهم وأطول التقاليد الدينية المركزية في التاريخ البلغاري: البوغوميلية (نسبة إلى الكاهن بوغوميل الذي اشتهر في القرن العاشر).
بشّر البوغوميليون بزهد شامل يحبذ الفقر ويأمر بالعزوبة والنباتية والاكتفاء، وكان الرهبان المتجولون القلائل الذين التزموا بهذه المبادئ الصارمة يحظون باحترام كبير بين العامة نتيجة التباين بينهم وبين رجال الدين الرسميين. أشبع البوغوميليون بالمحصلة جوعاً روحياً لدى الفلاحين، وكان المتحولون حديثاً إلى المسيحية بحاجة لتفسير للظروف القاسية المتزايدة التي وجدوا أنفسهم فيها. ولأن البوغوميلية كانت في الأساس رد فعل على الضغوط الاجتماعية المتزايدة، فقد ازدادت شعبيتها في أوقات الشدة، وكان هذا أمراً مفهوماً، ففي أوقات كهذه يسهل الاعتقاد بأن العالم الدنيوي بالكامل من صنع الشيطان.
لاحقاً، وُجهت انتقادات قاسية إلى البوغوميلية باعتبارها سبباً في انحدار الدولة البلغارية الأولى وصولاً لانهيارها أواخر القرن العاشر، ورأى كتّاب أنها كانت بمثابة العامل الثقافي الأساسي وراء تأخر الأراضي البلغارية في القرون الوسطى، وحتى في إعاقة مناهضة العثمانيين، على اعتبار أن البوغوميلية، بإعلانها أن جميع المؤسسات فاسدة وغير قابلة للإصلاح، أدانت ضمنياً أي جهد لتحسين تلك المؤسسات، وكانت مذهباً سلبياً في جوهره ولم يُثر أي حركة إصلاحية أو تغيير فكري. بل وذهب البعض إلى القول إن هذه التقاليد الانسحابية رسخت في التفكير الجمعي البلغاري وأثّرت على رد فعل المجتمع وفاعليته خلال سنوات الشيوعية وحتى في الانخراط السياسي بعد انهيارها.
في هذا الصدد، يلفت المؤرخ المتخصص بتاريخ أوروبا الشرقية ريتشاد كرامبتون في خاتمة كتابه تاريخ موجز لبلغاريا إلى أن هذا البلد، وعلى عكس دول أخرى في الكتلة الشرقية، سواء في البلقان أو مناطق أخرى من أوروبا، لم يشهد محاولات جادة للاستقلالية عن الهيمنة السوفييتية، ويقول إن «هدوء بلغاريا (خلال الحكم الشيوعي) لم يكن ناتجاً ببساطة عن الحكم البوليسي وتحسن الرفاهية المادية فقط. ربما كان ذلك بدرجة ما نغمة حديثة على وتر الانفصال عن الشؤون الدنيوية القديم ذاته، وتأكيداً معاصراً للتقاليد الثقافية الطويلة التي ترفض العالم باعتباره ملوثاً وعابراً ورخيصاً».
من متجر صغير ملاصق لدير ريلا، اشتريت قطعة طازجة من الميكيتسا، وهي حلوى تقليدية عبارة عن معجنات مقلية تُقدم عادةً مع سكر البودرة (نسخة من فطائر البمبلوني التونسية)، وانطلقت مشياً على الأقدام باتجاه قبر قديس بلغاريا إيفان ريليسكي أو يوحنا الريلي الذي يبعد نحو أربعة كيلومترات. كانت هذه الرحلة الراجلة فرصة هائلة للتمتع بالطبيعة المذهلة للمنطقة بعيداً عن التفكير بالدين والتاريخ والهوية.. بعيداً عن العالم الدنيوي الذي نبذه البوغوميليون!
مقالات مشابهة