
يبدو أنّ كلّ الأطراف راضية عن “ترحيب” الحكومة بخطّة الجيش. وعلى رأس الفرحين وزراء الثنائي الشيعي الذين غادروا الجلسة. بل والأميركيون والإسرائيليون الواثقون من نزع السلاح في الجنوب. على الحكومة أن تكون أكثر صراحة مع اللبنانيّين، لأنّ السلاح لن يُنزع بالتراضي وسيبقى لإرهاب اللبنانيّين، وللتحرّش بسورية.
ما كنت أخشى أن تتراجع الحكومة عن قرارها بحصريّة السلاح لإرضاء “الحزب” والرئيس نبيه برّي. ولا كنت أخشى أن يتراجع الجيش عن جمع السلاح في جنوب الليطاني وحتّى قرار جمعه بين الليطاني والأوّليّ. بل كنت أخشى حدوث الذي حدث فعلاً: التأجيل شهوراً وشهوراً للجمع من بيروت الكبرى ومن البقاع، وبخاصّةٍ على الحدود مع سورية.
قالت إسرائيل إنّ “الحزب” يحتفظ بالكثير من الصواريخ البالستية والسلاح الثقيل، لكنّها لا تخشاه، وتستطيع ضربه حتّى قبل القدرة على إطلاقه باتّجاهها. الذي تخشاه إسرائيل هو التسلّل بالسلاح الخفيف والمتوسّط من على الحدود. لذلك جاء قرار النزع من الجنوب مثيراً لترحيب كلٍّ من إسرائيل وأميركا لتأكّدهما أنّ السلاح المضرّ سيتمّ نزعه في الشهور القليلة المقبلة.
هناك القوّات الدوليّة (10 آلاف) وأكثر من خمسة آلاف جنديّ لبناني. وثمانون في المئة من السلاح نُزع من جنوب الليطاني، والمهمّة الأهم هو النزع في ما بين الأوّليّ والليطاني. لستُ خبيراً عسكريّاً ولا أعرف ماذا حصل بالضبط، لكنّ ما أكتبه هنا هو ما ذكره الإسرائيليون قبل الأميركيّين.
قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب إنّه سيردّ لاحقاً على رفض “الحزب” تسليم سلاحه. فلماذا لا يخشى الرجل؟ لأنّ السلاح صار بعيداً جدّاً عن إسرائيل، وتظلّ أخطار وجوده على لبنان واللبنانيّين وحسب.
الرئيس نبيه برّي هذه وظيفته منذ عقود: تمثيل القبيلة تجاه الداخل والخارج وقيمته أنّه لا وسيط غيره، وأهمّيّته في هذه الوظيفة العجيبة التي تناقض مهمّاته في رئاسة مجلس النوّاب!
المشكلة اللّبنانيّة لم تُحلّ
أن تكون للجنوب الأولويّة في الخلوّ من السلاح المهلك هو أمرٌ جيّد لأنّه (هو) “بقرة جحا” التي يحصل عليها التناتش بين إسرائيل و”الحزب” وإيران. لكن بذلك لم تُحلّ المشكلة اللبنانية. إذ سيبقى فريقٌ يحمل سلاحاً بالداخل وهو مصمّمٌ على الاحتفاظ به لإرعاب اللبنانيّين كما فعل طوال عقود، ولأنّ الوظيفة الرمزيّة التي تريدها إيران باقية، إضافة إلى الوظيفة الجديدة لهذا السلاح، وهي إزعاج السلطات السوريّة الجديدة، الذي تريده إيران أيضاً.
سيقول الذين يقرؤون هذا الكلام: لكنّ النزع الشامل سيحصل خلال خمسة عشر شهراً(!). وأقول: إن رفض “الحزب” النزع هنا أو هناك خارج الجنوب، فهل يقاتله الجيش؟ بالطبع لا. بل سيحصل حوار ومفاوضات وقد يعود الحديث عن الاستراتيجية الدفاعية العظيمة، أو سيُقال: نضمّ كتائب من”المقاومة” إلى الجيش لتقوية الدفاع. لماذا لا نساعد أنفسنا والجيش بعشرة آلاف جندي سيكلّفون أقلّ من الضمّ أو إيجاد أعمال للعسكر المسرَّح من “الحزب”؟
الفكرة المقبلة مثل فكرة “الحشد الشعبي العراقي” الذي ما يزال قائماً بعدما صار الجيش العراقي هو الذي يلاحق “داعش”. أمّا الحشد “العظيم” فبنيته ما تزال قائمة، ويقبض مرتّبات، ونصف الذين يقبضون غائبون. أمّا الموجودون فهم للتحرّش بالأكراد والاستمرار في الهيمنة على المناطق السنّيّة.
أمّا وظيفتهم الجديدة فهي التحرّش بالسلطات السوريّة الجديدة على الحدود تماماً مثل وظيفة “الحزب” على الحدود السوريّة لجهة لبنان!
كانت “المقاومة” دائماً صفقة رابحة لـ”الحزب” تجاه لبنان وسورية وحتّى تجاه إيران. لقد حوّل الطائفة الشيعية “المحتلة” إلى عصابة عالميّة امتدّت بين لبنان وإفريقيا وأميركا اللاتينية
المقاومة صفقة رابحة
كانت “المقاومة” دائماً صفقة رابحة لـ”الحزب” تجاه لبنان وسورية وحتّى تجاه إيران. لقد حوّل الطائفة الشيعية “المحتلة” إلى عصابة عالميّة امتدّت بين لبنان وإفريقيا وأميركا اللاتينية لغسل الأموال وتهريبها وصناعة المخدّرات وتصديرها. والقلّة من المقاتلين كان يمكن لهم لو تركوا وشأنهم أن يتعلّموا مهناً أُخرى. فقد كانت الطائفة الشيعية في الستّينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي تُنافس الفلسطينيّين في التعليم والنبوغ، ثمّ وقع شبّان الطرفين في قبضة ميليشيات المقاومة والتحرير!
إنّ الذي أراه أنّ على المسؤولين أن يكونوا أكثر صراحةً مع المواطنين ولا يجوز إيهامهم بأنّ المسار الحالي يؤدّي إلى نزع سلاح ميليشيا “الحزب”. لا شكّ أنّهم يشكون همومهم وخوفهم من النزاع الداخلي للعرب والأوروبيّين والأميركيين. لكنّ هذا لا يكفي.
بعد شهورٍ قليلةٍ سيبدأ كثيرون بالتذمّر من تخاذل أو عدم صراحة الحكومة بل والرئيس. إنّني أرى أنّ سكوتهم الآن يعود لانغماسهم في المعركة الانتخابية المقبلة التي ستقوّي من عضد الثنائي الشيعي المسيطر على الطائفة التي ما يزال فقراؤها الكثر يستفيدون منه في المناصب والمرتّبات والتعليم والاستشفاء، والاستمتاع بأوهام العزّة والكرامة كالذي يلحس المبرد!
ليس العجيب فقط تظاهر المسؤولين بالتفاؤل في مسألة نزع سلاح “الحزب”. بل العجيب أيضاً تفاؤلهم في القضايا الماليّة والمعيشية التي يعلمون أنّهم لم يقوموا بالكثير لمعالجتها أو حلِّها. ويعرفون أيضاً أنّ وجود السلاح سيصعّب الحصول على الدعم الخارجي للجيش وفي الشؤون الماليّة والاقتصادية.
المنطق الخائب
إنّما الأعجب من ذلك كلّه بالفعل هو هذا المنطق الخائب الذي يتمسّك به مسؤولو الطائفة الشيعية في الدولة وخارجها. لا نجد أحداً يمتلك الشجاعة للخروج من فساد السلاح والمال ولو بصمت. حتّى الذين كانوا يتظاهرون بالحياديّة أو بالنزاهة انضمّوا إلى صراخ القبيلة.
لنتصوّر المنطق السائد: نحن ضدّ نزع سلاح “الحزب” نكايةً بإسرائيل! طيّب يا جماعة، إسرائيل ما عادت تخشى هذا السلاح، وما دام موجوداً لغير قتال إسرائيل فإنّ أحداً لن يساعد لبنان على النهوض من كبواته. ما تفعلونه قلّة نزاهة ونكاية بوطنكم ودولتكم وليس بإسرائيل.
الرئيس نبيه برّي هذه وظيفته منذ عقود: تمثيل القبيلة تجاه الداخل والخارج وقيمته أنّه لا وسيط غيره، وأهمّيّته في هذه الوظيفة العجيبة التي تناقض مهمّاته في رئاسة مجلس النوّاب! أمّا كلّ الآخرين، بمن فيهم الوزراء في الحكومة، فهم يقولون كلاماً لا يقبله عقلٌ ولا نقل، وبينهم رجال دين!.