من رهبة الموت السوري الذي تربّع وسط ضجيج الحياة السورية كأنه أحد الحاضرين الذي لا يغيب عنهم، استمد الروائي السوري خالد خليفة عنوانه المؤلم لروايته “الموت عمل شاق”، التي تتحدث عن الموت السوري بالجملة، ذلك الحدث المفجع والقاسي والمتسلسل، الذي لا يشبهه الا الموت الفلسطيني، المتواصل، في هذا الهول الذي يعاني منه الفلسطينيون في غزة ليس فقط خلال الأشهر الثلاثة الماضية وحسب، ولكن منذ أن حل الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين.
الفكرة أن الموت الجماعي، السوري والفلسطيني، ليس موتًا عاديًا، كما أنه ليس حدثًا عاديًا، وحتى أنه لا يشبه الموت الناجم عن الزلازل والبراكين والأعاصير والفيضانات، فهو شأن آخر، إذ إنه ناجم عن فعل بشري، قصدي، فعل ما قبل تبلور أفكار الإنسانية وحقوقها، وهو فعل شرير بغايته وطريقته ووسائله، ويتنافى مع كل القيم الإنسانية، التي عمّر بها الإنسان الكرة الأرضية من عصور البدائية إلى ما بعد الحداثة.
أما باعتبار أنه عمل شاق، فذلك لأنه ناجم عن حقيقة مفادها أن الموت لا يحدث بطريقة عادية، وبمسارات عادية من موت وعزاء ودفن ومثوى أخير، فهذا المثوى قد يكون له بداية جديدة لموت آخر، يعود فيه القاتل ليقتل جثمان ضحيته، مرة وأخرى وثالثة، نعم فثمة مشاق في الطريق، فأنت بانتظار حدث الموت، تترقبه، أو تتوقعه، بين لحظة وأخرى، قبل الموت وبعده، في حادثة لا تحدث إلا في فلسطين وعلى أيدي قاتلهم الإسرائيلي، ومن دون أن تدري من أين سياتي، أو بأية طريقة سينال منك.
أنت في انتظار الموت إذًا، تحت القصف أو البحر أو البر، أو برصاصة قناص، أو بقذيفة دبابة، أو بقنبلة، أو بنتيجة اشتعال حريق في دارك، أو بسقف بيتك الذي انهار عليك، وربما تموت أيضا من العطش، أو من الجوع، أو الخوف والعتمة والضجيج.
الموت عمل شاق حقًا، إذًا، هذا ما نراه، وما نحسه في موت الفلسطينيين اليوم، كما كنا نحسه ونعايشة في موت السوريين بالأمس الذي لم ينته بعد…
الموت عمل شاق، أيضًا، ليس لأنه يتحول إلى شأن عادي، أو خبر مكرّر، محروم حتى مما يؤلم كاتبنا الذي يأسى لانعدام التعاطف في زمن الحرب، بل لأنه لم يبقِ جنازات تمر أو قبور تحتضن جثثها. يقول خالد خليفة: “مرور جنازة كان يثير تعاطف الجميع أيّام السلم، السيّارات تفسح الطريق، المارّة يتوقفون وفي عيونهم تعاطف حقيقي، لكن في الحرب مرور جنازة حدث عادي لا يثير أيّ شيء سوى حسد الأحياء الّذين تحوّلت حياتهم إلى انتظار مؤلم للموت”. ليتك هنا يا خالد لتخبرنا كيف هو الموت دون جنازة تحمله أو قبر ينتظر ساكنه؟
هكذا صار، على مرّ الأيام، الموت الفلسطيني المعروض على شاشات الدنيا، في أكبر منصة عرض في العالم، بمثابة حدث عادي، يثير الألم، والشجن، والتأسي، ويثير أحيانًا الحنق، واللعنة على هذه الدنيا والحكام، لكنه مع ذلك لا يخرج من إطار كونه حدثًا عاديًا، لكونه لا يخرجنا، أو لا يخرج أغلبيتنا، من الحياة العادية.
هكذا بات الموت الجماعي للفلسطينيين، حدثا عاديا، كما كان موت السوريين، مع فارق يتمثل باعتراف العالم بمقتلة الفلسطينيين، في مقابل التنكر لمقتلة السوريين، أو النأي بالنفس عن موتهم، بيد أن الموت هو الموت في الحالين، سوريين وفلسطينيين، طالما أنه لا يصنع فرقًا في حياتنا وفي شكل وجودنا كبشر.
فارق آخر لصالح الفلسطيني أنه يموت ليحيا، فهذا شرطه الخاص في مواجهة عدوه الخاص جدًا، في حين السوري يموت بانتظار حياة مرتجاة، تتيح له الخلاص من حاكمه. هذا ما يمكن استخلاصه من كلام محمود درويش شاعر الفلسطينيين في رثائه مذبحة كفر قاسم: “إنني عدت من الموت لأحيا، لأغني… إنني مندوب جرح لا يساوم علمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي وأمشي… ثم أمشي… وأقاوم!”، وقد أثنى عليه توأمه شاعر فلسطين سميح القاسم بقوله:
“يوم قالوا سقطوا قتلى وجرحى
ما بكيت
قلت: فوج آخر يمضي
ومن بيت لبيت
رحت أروي نبأ الغلة
في العام الجديد
ومن المذياع، أنباء عن العام المجيد:
أيها الأخوة… والنصر أكيد”
هذا هو قدر الفلسطيني سيما هذه الأيام، إذ يصنع بموته ولادته، فالولادة لا تموت، كأنه في صراع مع المستحيل، أو في صراع مع الموت الذي لا يموت.
لا يوجد حدود لأسى وفاجعة وألم الموت الجماعي، هذا ما اختبرناه في سورية لسنوات، وهذا ما نحسّه في هذا الموت الجماعي للفلسطينيين، في مواجهتهم للفاشية الإسرائيلية العنصرية، المتوحشة…
ولعل ما يغضب إسرائيل أن الفلسطيني لا يموت، أو يبدو لها كأنه يتمرد على الموت، أو كأنه عصي على الموت، يعيش بين الممكن والمستحيل، وبين البطولة والمأساة، وبين الحقيقة والخيال.
هي تعرف أنها قتلت فلسطينيين كثرًا، طوال قرن، وأنها اعتقلت مليون فلسطيني، محاولة جعلهم في موت، أو في محو مؤقت، منذ احتلالها الضفة وقطاع غزة (مثلًا)، لكن هؤلاء الفلسطينيين لا يموتون، أو لا يقتنعون بالموت، أو يرفضون المحو.
فكيف لشعب علمهم شاعرهم أن “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، والتي أصبحت مغناة لأطفالهم أن يموت؟ كيف لشعب يعيش بين الزيتون والبرتقال والزعتر والصبار أن يموت؟ لذا الموت عمل شاق للفلسطيني، في مواجهة الموت الذي يرفض أن يموت، وفي الموت الذي يحوله الفلسطينيون قيامة جديدة، تبعا لنشيد شاعرهم الأعز:
“يا دامي العينين والكفين!
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل!
نيرون مات، ولم تمت روما…
بعينيها تقاتل!
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل…!”
الموت الذي تولد منه الحياة، هو موت على الطريقة الفلسطينية، مسجل باسم شعبها، ووحده اليوم يسكنها كهاجس يؤرق قاتلهم الاسرائيلي أكثر مما يخيف الضحايا الفلسطينيين، الموت عمل شاق، لأن تبعاته لا نهاية لها، كما هي الحياة.
*كاتبة سورية.