لا يمكن قراءة اغتيال القيادي في حركة “حماس” صالح العاروري خارج سياق الحسابات الأميركية-الإسرائيلية حيال الحرب في قطاع غزة وتداعياتها الاقليمية، بحيث يخفي هذا الاغتيال في طياته محاولة اسرائيلية لمواءمة المصالح مع واشنطن أو ترقيع هذا التباين الأميركي-الإسرائيلي حول مدى الذهاب بعيداً في الردع الاستراتيجي لايران.
أولاً ليس هناك مفاجأة في طبيعة الهدف، إسرائيل تطارد العاروري منذ سنوات ومهدت لاغتياله مؤخراً عبر خطوات متتالية منها تسريب لصحيفة “يو أس إي توداي” الاميركية في 20 تشرين الاول(أكتوبر) بأن خطط اغتياله أصبحت اولوية قصوى. عملية الاغتيال شملت أيضاً مسؤول العمل العسكري لحماس في جنوب لبنان سمير فندي الذي وضعه الشاباك على قائمة الاغتيالات منذ شهر تموز(يوليو) الماضي، ومسؤول أنشطة “حماس” العسكرية الخارجية عزام الأقرع، اي الاستهداف كان أيضاً لانشطة حماس العسكرية في لبنان التي كانت علنية في الأيام الاولى من عملية 7 تشرين الاول(أكتوبر)، قبل أن يتم ضبط ايقاعها ويستلم حزب الله وحده زمام المبادرة العسكرية على الحدود اللبنانية. ايضاً بالنسبة لواشنطن البحث عن معلومات حول العاروري ليس جديداً بعدما وضعته على لائحة الارهاب منذ عام 2015 وخصصت مبلغ 5 مليون دولار لأي معلومات عنه عام 2018.
ثانياً، في سياق الهدف، العاروري ليس اول اغتيال يستهدف قيادات تربط بين مفاصل ما يسمى “محور المقاومة”، هو الرابط بين “حماس” وحزب الله” وايران. لم تتمكن اسرائيل لوحدها خلال العقد الاخير من تنفيذ عمليات اغتيال “عالية القيمة”. الإدارة الأميركية كانت وراء اغتيال قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني في كانون الثاني(يناير) 2020 في العراق، فيما اغتيال القيادي في حزب الله عماد مغنية عام 2008 في سوريا كان عملية مشتركة أميركية-إسرائيلية. لكن كان هناك تحول مؤخراً كأنه أخرج اسرائيل من الضوابط التي كانت مفروضة عليها بحيث استهدفت الشهر الماضي العميد في الحرس الثوري الإيراني رضي موسوي، أحد أبرز المستشارين العسكريين المسؤول عن تنسيق ودعم أنشطة هذا المحور، في ضربة جوية على منزله في نقطة استرايجية هي منطقة السيدة زينب في ريف دمشق. لكن مع اغتيال العاروري، رفعت اسرائيل من مستوى ونطاق الاستهداف بحيث نقلت الردع الهجومي لايران من سوريا الى لبنان في نقطة استراتيجية اخرى هي الضاحية الجنوبية في اول استهداف لهذه المنطقة منذ حرب تموز(يوليو) 2006.
ثالثاً، في البعد الاقليمي هناك تحول في المقاربتين الاميركية والاسرائيلية بدون ان يكون هناك بالضرورة تواطؤ مباشر بينهما في كل الملفات. بعد عملية 7 تشرين الأول(أكتوبر)، أصبحت “حماس” وقياداتها من أولويات الإدارة الأميركية من ناحية التعقب والعقوبات ووقف مصادر التمويل بحيث خصصت وزارة العدل الاميركية في 5 كانون الثاني(يناير) مبلغ 10 مليون دولار لمعلومات عن ممولي حركة “حماس”، لا سيما في تركيا والسودان. وبالتالي هناك مواجهة استخباراتية ومالية موازية ومستمرة مع إيران ووكلائها بغض النظر عن وقف اطلاق النار في غزة. ولا تزال الإدارة الأميركية في وضعية دفاعية لردع إيران عن سياستها التي تعتمد الضغط العسكري الإقليمي على القوات الأميركية لفرض وقف لاطلاق النار في غزة، وكان في هذا السياق الاستهداف الأميركي للقيادي في “حركة النجباء” مشتاق طالب السعيدي في 4 كانون الثاني(يناير) 2024 في العراق لردع المزيد من الهجمات على الأهداف الأميركية. في المقابل، مقاربة اسرائيل هي أكثر هجومية لتصفية الحسابات مع إيران ووكلائها. الوساطة الأميركية تحاول تهدئة الأجواء عبر ضمان عدم رد اسرائيلي على أي عمل حدودي محدود لـ”حزب الله” لتمر عملية قتل العاروري بأقل الاضرار الممكنة. الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصرالله قال يوم الجمعة الماضي ان الرد على قتل العاروري سيكون على الحدود اللبنانية، وبالتالي لا يوحي بتعديل جذري في قواعد الاشتباك.
رابعاً، في توقيت الاغتيال هناك أفق مسدود عسكرياً في حرب غزة. منذ أشهر تطلب إدارة بايدن من حكومة رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو الانتقال من القصف الجوي المكثف الى مرحلة ثانية تركز على قيادات بارزة في “حماس” وغارات مستندة الى معلومات استخباراتية وما يسمى العمليات الجراحية الدقيقة. اسرائيل لم تتمكن منذ 7 تشرين الأول سوى من اغتيال عضو المجلس العسكري الأعلى لكتائب القسام أيمن نوفل في غارة جوية في 17 تشرين الاول. هناك صعوبة ميدانية لاغتيالات “عالية القيمة” مثل محمد الضيف ويحيى السنوار، واغتيال قادة “حماس” في الخارج قد يؤدي الى تحديات دبلوماسية مع قطر او تركيا. وبالتالي العاروري كان الهدف الأسهل على لائحة الاغتيالات، لا سيما أن تحركاته صارت علنية في بيروت كما اتضح أن مكتب “حماس” في حي سكني وتجاري مكتظ في الضاحية الجنوبية لبيروت.
خامساً واخيرا، سر توقيت اغتيال العاروري هو في العلاقات الاميركية-الاسرائيلية، نتنياهو لا يعطي الضوء الاخضر بدون تقدير الحسابات السياسية لهكذا عملية. في ظل دعم أميركي غير مسبوق على كل المستويات لحرب اسرائيلية في غزة، بدأ التباين بين الطرفين حول الفترة الزمنية وطبيعة المرحلة التي تلي اعلان وقف اطلاق النار. يمكن اختصار الأمر أن اسرائيل تركز على استمرار الحرب اليوم فيما أميركا تركز على اليوم التالي من انتهائها. هذا التباين لم يصل بعد إلى مستوى فرض أميركا وقف لاطلاق النار في ظل غموض مرحلة ما بعد الاعلان عنه. منذ منتصف تشرين الأول الماضي، تناقش إدارة بايدن مسودة لاستراتيجية في غزة لكن اسرائيل قوضتها حين اعترض نتنياهو علناً على احياء دور السلطة الفلسطينية وتوسيعه الى غزة. ملامح سياسة ادارة بايدن تقترح حتى الآن ما لا تريده واشنطن في غزة أكثر من طرح ما تريده عبر لاءات خمس عبرت عنها نائبة الرئيس كامالا هاريس بالقول: “لا لتهجير قسري، لا لاعادة الاحتلال، لا حصار، لا تقليص في مساحة الارض، لا لاستخدام غزة كمنصة للارهاب”. نتنياهو حاول عبر هذا الاغتيال التودد الى البيت الأبيض واظهار التماهي معه في خطط المرحلة التالية من حرب غزة لايجاد قواسم مشتركة تحد من مخاطر تحول اضافي في موقف بايدن كما يسعى لاقناع ادارة بايدن بضرورة أخذ المواجهة الى ايران. التوقيت السياسي لاغتيال العاروري كان لنيل رضى أميركا وليس بطلب مباشر منها.