هل هذا هو اللُّبنان الذي ألفناه؟! هل هذا اللُّبنان، هل هذا اللُّبنان «منارة الشرق»؟! هل هذا «سويسرا الشرق»؟! هل هذا اللُّبنان «درّة الشرقيين»؟
إن هذا اللُّبنان الذي نعيش فيه حالياً ليس لُبناننا. لا نعرفه. هذا ليس لبنان الذي عشنا فيه بازدهار ورقي؛ بلد التعددية والتنوّع والانفتاح بكل موزاييكه الفسيفسائية الاجتماعية، وطوائفه الثماني عشرة، وحضاراته المتعددة: «وطن الرسالة» كما وصفه البابا القديس يوحنا بولس الثاني في عام 1997.
لبنان، هذا البلد الصغير في مساحة 10452 كيلومتراً مربعاً غير المرئي على خريطة العالم، ذو النظام الجمهوري، يقع في القسم الغربي من القارة الآسيوية، ويحيط به البحر الأبيض المتوسط من الغرب، وسوريا من الشمال والشرق، وفلسطين من الجنوب، ويتمتّع بتنوّع ديني يجعله فريداً ومميزاً في تركيبته وطبيعته؛ حيث تمتزج الطوائف برباط أُسري يمتاز بمزيج من معتقدات وتقاليد وعادات مختلفة، تخالطت وتزاوجت لتكوّن المجتمع اللبناني؛ حيث توالى على حكم لبنان كثير من الحضارات المختلفة (كـقدماء المصريين، والأشوريين، والبابليين، والفرس، والإغريق، والبيزنطيين، والرومان، والصليبيين، والعرب، والعثمانيين، والفرنسيين)، عبرت فيه أو احتلت أراضيه، وذلك لموقعه الوسطي بين الشمال الأوروبي والجنوب العربي والشرق الآسيوي والغرب الأفريقي، مما جعل موقعه هذا من أبرز الأسباب لتنوّع الثقافات؛ لكنه -وللمفارقة- يُعتبر من أهم الأسباب السلبية المؤدية للحروب والنزاعات التي عصفت بلبنان على مرّ العصور، تجلّت بحروب أهلية ونزاع مصيري مع إسرائيل.
ويعود أقدم دليل على استيطان الإنسان في لبنان إلى أكثر من سبعة قرون، وإذا عدنا إلى تاريخ لبنان فسنجد أن الآثار أثبتت أن البشر استوطنوا لبنان قبل عام خمسة آلاف قبل الميلاد، ومدينة جبيل هي إحدى المدن المرشحة لتكون أقدم مدينة مأهولة باستمرار، وكذلك تشير بعض البقايا المتحجّرة إلى أن هناك من سكن البحر الأبيض المتوسط منذ عام 7000 ق.م. في العصر الحجري والنحاسي. أما أقدم ذكر مدوّن للبنان فيعود في آثار إبلا Ebla (المملكة السورية القديمة) إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد.
أضف إلى ذلك أن سكان الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط كانوا من الفينيقيين الكنعانيين الساميين (من صلب سام بن نوح) الذين قدموا من المشرق العربي. ودعا الإغريق سكان هذه المناطق بـ«الفوينيكوس» (Phoinikies) التي تعني البنفسجيين، وذلك نسبة للون البنفسجي الذي تميّزت به ثيابهم، (خصوصاً رجال الدين والملوك) وللصباغ الأرجواني الذي اشتهروا به. وعُرف هؤلاء بـ«الفينيقيين»، كما سُمِّي أهل البقاع بـ«الأمورو» (نسبة إلى الشعوب الأمورية التي أتت من جزيرة العرب، واستوطنت بادية الشام خلال العهد الفينيقي).
واسم لبنان مشتق من كلمة «لبن» السامية، وتعني «أبيض»، وذلك نسبة إلى اللون الأبيض للثلج الذي يكلّل جباله. ومشتق من كلمة «اللُّبنى» أي شجرة الطيب أو اللُّبان، وهو البخور، نسبة لطيب رائحة أشجاره وغاباته. وهو اسم سرياني مؤلف من «لب» و«أنان»، وتعني «قلب الإله»، إذ اشتهرت جبال لبنان بوصفها موطناً للآلهة عند الأقدمين، كما أطلق أهالي بلاد الشام على أنفسهم تعريف «تجّار من صيدا» نسبة لموقعها وطبيعتها.
وقد سكن الفينيقيون -الذين أوجدوا الأبجدية من اثنين وعشرين حرفاً، وأنشأوا مدينة بعلبك أو «هيليوبوليس» أو «مدينة الشمس»- أرض فينيقيا، (وهو الاسم القديم لدولة لبنان حالياً) إضافة إلى أجزاء من سوريا وفلسطين. وكانت معظم الدول الفينيقية ساحلية (كمُدن صيدا، وصور، وجبيل، وطرابلس) باستثناء مدينة بعلبك التي كانت نقطة وصل بين المدن الساحلية في غرب المتوسط والمناطق والمدن الداخلية وحضارات دول الشرق الأوسط، وكل مدينة تشكل جمهورية أو مملكة مستقلة، وتشتهر بصنعة أبنائها خصوصاً الملاحة والتجارة.
هذه لمحة مختصرة عما يمكن أن يقال عن لبنان، هذا البلد العريق الذي كرّس نفسه لخدمة الإنسانية منذ القرن الثاني عشر حتى الآن. كافح وناضل وتألم للحصول على استقلاله عام 1943 من السيطرة العثمانية، ومن الاحتلال البريطاني، والفرنسي الذي أوجد الحدود اللبنانية الحالية، المحفور بالتواريخ على صخور نهر الكلب، وأخيراً من الغزو الإسرائيلي الذي لم يُحفر تاريخه بعد.
وفي هذا البلد الديمقراطي ومشروعه الحر فيما خص الأمور المالية، يُعد الفرد فيه حراً في التعبير عن رأيه وأفكاره ومشاعره، حتى ولو عرّض حياته للخطر.
لكن رغم كل الظروف التي مرّ بها البلد، يبقى اللبناني قوياً صامداً شامخاً، كشجرة أرزه التي يُقال إنها «رمز الخلود» التي كان خشبها يُصدَّر إلى مصر الفرعونية، ليُستخدم في صناعة السفن وتوابيت الفراعنة. هذا اللبناني الفريد بعقله، والعميق بفكره ورأيه والرأي الآخر، والحر بصحافته، والواسع بثقافته، والمتنوّع بحضارات الشرق والغرب، وتحفر جذوره عميقاً في تاريخ هذا الشعب فتعطيه فرادة ومكانة خاصة لدى الأمة العربية والعالم، ما يجعله أيقونة الشرق.
لقد سئمنا الخوف والقهر والحروب الفعلية والنفسية. الشعب اللبناني ليس على ما يُرام. لم يَعُد الشعب كما كان، شعب يحب الحياة، شعب متفائل طموح، مملوء بالأمل والسعادة والرفاهية، أما الآن فأصبح شعباً ذليلاً حزيناً، كل همّه الهجرة إلى أي بلد يستقبله أو يستقبل أولاده. وهنا تكمن المشكلة، فإنه يصدّر الأدمغة والقوى الشبابية العاملة من بلد مهزوم مدمّر اقتصادياً واجتماعياً… ليبنوا بلاد غيرهم.
أعيدوا لنا لبناننا.
* باحثة لبنانية