ما دامت إسرائيل قد تمادت حتى “تجاوزت الحدّ”، وفقاً للرئيس الأميركي، وما دامت متهمة بـ”الإبادة الجماعية” أمام محكمة العدل الدولية، وما دامت قتلت وشرّدت ودمّرت وبالغت في ممارسة التجويع والتعذيب ولم يطالبها حلفاؤها ولا شعبها بوقف إطلاق النار أو القبول بهدنة أو باحترام أي حقوق للإنسان، وما دامت الآن منبوذة ومثيرة للاشمئزاز في أنحاء العالم لكنها اعتادت منذ تأسيسها ارتكاب الجرائم والإفلات من العقاب… فإنها ستذهب إلى أقصى حدّ ولن تتردّد في اجتياح رفح، الملاذ الأخير لأهل غزّة، لتجعل منه مثوىً أخيراً لهم، ولن تحجم عن أي فظائع لتتجرّع دماء الانتقام حتى الثمالة، لكنها لن ترتوي ولن تكتفي. فلا وازعَ داخلياً لها، ولا ضغطَ أميركياً حقيقياً عليها ولا حتى من أجل الرهائن، ولا رادعَ عربياً أو إقليمياً.
رفح المنطقة “الآمنة”، كما صنّفها الإسرائيليون سابقاً، لم تكن يوماً آمنة، كانت أحياناً أقل خطورة، لذا لجأ إليها أكثر من مليون نازح لينضموا إلى سكانها. أصبحت أخيراً “الهدف التالي” للعمليات القتالية، ولا بدّ للنازحين من أن يتحركوا مجدداً، والجميع في غزّة وخارجها يسأل: إلى أين يذهبون؟ “لن يختفوا في الهواء”، أجابت وزيرة الخارجية الألمانية في معرض التحذير من مهاجمة رفح، لكنها كسواها من مسؤولي الغرب، ترفق مخاوفها من كارثة إنسانية أخرى بأنها لا تزال تؤيّد إسرائيل في “الدفاع عن نفسها” و”القضاء على حماس”، ما يعني تبنّيها أهداف إسرائيل من اجتياح رفح، وبالتالي فإن لفتتها إلى المدنيين ليست موقفاً إنسانياً أو أخلاقياً بل مجرّد كلام أجوف للاستهلاك الداخلي.
إذا لم تكن هذه لحظة أخيرة وحاسمة للذهاب إلى مجلس الأمن واستصدار قرار بوقف فوري لإطلاق النار، وبطلب وتأييد أميركيين، فإن أحداً لن يصدّق أن واشنطن وغيرها من العواصم الحليفة أبلغت إسرائيل أن دخول رفح “خطٌ أحمر”. البديل هو أن يطلب جو بايدن علناً من الإسرائيليين قبول الهدنة المقترحة وتسهيل تبادل الرهائن والأسرى. وإذا لم يفعل يكون موافقاً على “حمام الدم” المعلن مسبقاً في رفح، ويكون داعماً فعلاً لطرد الفلسطينيين من غزّة، وعاجزاً عن منع إعادة احتلال القطاع وإغارة اليمين الإسرائيلي المتطرّف عليه لمعاودة استيطانه. لا يمكن إشعال الضوء الأخضر للجيش الإسرائيلي ومواصلة مدّه بالأسلحة والذخائر (إلى حدّ حجبها عن أوكرانيا)، ثم الادعاء في الاجتماعات المغلقة بأن ثمة أخطاءً ارتكبتها الإدارة، أو القول إن بنيامين نتنياهو “شخص سيّئ”، أو الكذب على العالم بأن “صبر بايدن بدأ ينفد” إزاء نقض الإسرائيليين تعهّداتهم له.
جرى الإعلان عن خطّة التوغّل في رفح بالتزامن مع رفض معظم شروط “حماس” للهدنة وتبادل الأسرى والرهائن، للضغط على الحركة وإرغامها على قبول الشروط الإسرائيلية. ثم إن الشروع في قصف مناطق في المحافظة أطلق سباقاً بين مشروع هدنة بات مترنّحاً وتصعيد صار وشيكاً. في الأساس كان الوقف الموقّت للقتال والإفراج عن أسرى فلسطينيين مرفوضَين من عتاة اليمين التطرّف وفي طليعتهم نتنياهو قبل بن غفير وسموتريتش، فليس المهم لديهم أن يعود الرهائن أحياء أو جثامين، بل الأهم أن تستمر الحرب كوسيلة لإطالة عمر حكومتهم، وذريعة لإدامة الحصار وإعدام سبل الحياة في غزّة.
بعد خمسة وسبعين عاماً على النكبة الأولى تعتبر إسرائيل أن وجود “الأونروا” كان مساهمة في استمرار وجود الشعب الفلسطيني، لذا وضعت إنهاء هذه الوكالة الأممية في صلب خطة “التطهير العرقي” كفصلٍ مكمّلٍ للنكبة الثانية التي تنفّذها، تماماً مثل منع سيارات الإسعاف من إنقاذ جرحى أو انتشال جثامين ضحايا، بل إنه مكمّل لتعطيل المشافي وتدمير المدارس ومراكز الإيواء وتجريف المعالم التاريخية ونبش المقابر لمحو آثار سكان كانوا هنا ولم يعودوا. اقتُلع هؤلاء من شمال القطاع ومن مدن غزّة ودير البلح وخان يونس ومن كل المخيمات، بغية تدميرها، والآن يخطط المجرمون لتوزيعهم على أماكن مختلفة لا إلى مناطقهم لئلا يكونوا عقبة أمام اجتياحهم رفح، وقد يُعادون إليها بعد تدميرها. إنهم لا يعترفون بهم كبشر، ويعاملونهم عملياً كقطعان من “حيوانات بشرية”، كما سبق وبرهنوا أن هذه الفكرة مزروعة في أذهانهم وفي رؤوس جنودهم. تشهد عليهم أشرطة الاحتفال بالتفجيرات كأنها ألعاب نارية، وشريط الافتخار بالقتلة المتنكّرين لاقتحام المستشفى في جنين. فحتى صحف الغرب عرضت هذه الوقائع ولم يستوقفها أن ثمة عاراً إنسانياً أو انتهاكاً للمواثيق والأعراف الدولية.
منذ الشهر الأول لهذه الحرب الأكثر قذارة وبشاعة في تاريخ الشرق الأوسط، بدأ الكلام عن أن “النصر” فيها مستحيل، ومع مضي الأسابيع لم يلتفت أحد إلى أن الآلاف المتراكمة من الضحايا والمفقودين والمصابين، أو إلى أن حصار التجويع والتعطيش والظلام، أو إلى أن العمران الذي صار ركاماً، كانت هي “النصر” الممكن الذي تهيأت قوات الاحتلال لقبوله والبناء عليه، بعد انتهاء العمليات القتالية الرئيسية. وإذا كانت “حماس” و”الجهاد” وغيرهما من الفصائل قد بذلت وتبذل كلّ الممكن لديها لمقاومة العدوان والاحتلال، إلا أنه يتعذّر عليها رؤية أي “نصر” وسط الدمار وملايين المشرّدين. فما شهدته من واقع على الأرض أظهر بوضوح ما كانت تعرفه مسبقاً، وهو اختلال موازين القوى النارية لمصلحة العدو. قد تكون هذه الفصائل وُعدت، كما هو مُتداول، بـ”حرب كبرى” تشعلها إيران “لتحرير فلسطين” أو بإسناد أكبر مما استطاعت ميليشيات إيران تقديمه إليها، وإذا بها تلمس الفارق بين الشعارات والنيات والقدرات، لكن بثمنٍ بالغ الفداحة على غزّة وأهلها، وعلى القضية الفلسطينية نفسها.
قبل عامين وأكثر راح قادة الاحتلال يردّدون أنهم يستعدون لـ”حرب متعددة الجبهات”، ولم يتوقعوا هجوماً كـ”طوفان الأقصى” الذي أصابهم بصدمة ما لبثوا أن حوّلوها إلى جنون وحشي نال كل الدعم الأميركي، لكنه يقودهم الآن إلى تحدّي هذا الحليف الأميركي، فقط لأنه يختلف معهم – أو يتظاهر بالاختلاف معهم – على “التفاصيل”. وعشية اجتياح رفح، يضع الإسرائيليون كل من ساندهم، إما بـ”تفاهمات” وتنسيق أو باللغة الخشبية أو بكثير من الصمت، أمام لحظة الحقيقة: دعا القريبون والبعيدون إلى تجنّب إيذاء المدنيين وفشلوا في حمايتهم ثم انتهوا غير مبالين بهم، ثرثروا بلا انقطاع عن المساعدات الإغاثية ولم يتمكّنوا من زيادة رغيف واحد، استنكروا الدمار الإجرامي واكتفوا بالتفرّج عليه، ويحذّرون الآن من “المذبحة” الآتية في رفح لكنهم لن يتدخّلوا لمنعها… عملياً، لم يكن هناك أحد ضد هذه الحرب وما سينتج منها لاحقاً!