ربما لا تريد إيران الدخول في حرب مع إسرائيل حالياً، لكن فصائل المقاومة التي أطلقت صواريخها ومسيّراتها في اتجاه الأراضي المحتلة وعطلت الملاحة في البحر الأحمر، كانت في الحقيقة دعماً للاستراتيجية الإيرانية التي تجاوزت مفهوم “تصدير الثورة”، هذا الاصطلاح الذي لطالما تكرر على ألسنة القلقين من النفوذ الإيراني في الإقليم.
لذلك، فإن الحديث عن توقف إيران عن دعم محورها في إطار مفاوضات كبرى مع الغرب أمر مستبعد؛ لأن هذا المحور يمثل ركيزة أساسية في الاستراتيجية الإيرانية حتى تنال أهدافها.
كما أن عوامل تشكّل هذا المحور تنبع من محددات داخلية وقضايا إقليمية، فلا يتعلق ظهوره بمسألة الاستقطاب الإيراني فحسب؛ وإلا كان من السهل معالجته أمنياً، ولكن احتلال الأراضي يكفي لتبرير وجوده.
وبناءً على ذلك، عندما تنفي إيران أمام الولايات المتحدة الأميركية تورطها في أي عمليات هجومية ضد قواتها، فهي صادقة وكاذبة، إذ هناك على الأرض مبررات تستدعي هذه العمليات، وفي الوقت نفسه هي لا تخلي يدها من دعمها لمحورها الموالي لها في المنطقة، ولذلك دائماً ما يرفق وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان، في تصريحاته القول بأن التوتر المتصاعد في المنطقة هو رد على السلوك الغربي، وأن توقف تلك العمليات مرتبط بتعديل السلوك الغربي وليس تعديل سلوك إيران. والسبب هنا متعلق برؤية إيران الأمنية والسياسية تجاه المنطقة!
جولة عبد اللهيان
تُصدّق جولة عبد اللهيان الإقليمية الأخيرة على تلك الرؤية الأمنية لإيران، فبينما كان يزور بيروت ودمشق والدوحة، تزامنت جولته مع تحركات إقليمية عديدة، منها مفاوضات هدنة حول غزة جارية بين القاهرة والدوحة، وكذلك مع تصعيد إسرائيلي في الضفة الغربية وأيضاً تهديد بعملية عسكرية تجاه رفح، في محاولة من جانب حكومة الحرب بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإعلان النصر بهزيمة ما تبقى من كتائب حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
وتأتي جولته أيضاً بينما يتم استئناف مفاوضات اللجنة الثنائية العسكرية العليا بين العراق والولايات المتحدة، بخصوص جدولة انسحاب قوات التحالف الدولي من العراق، في ظل تصاعد الضربات المتبادلة بين قوات التحالف وفصائل المقاومة العراقية.
وعند وصوله إلى لبنان كشف عبد اللهيان عن رؤية بلاده الأمنية، فقال إن “الكيان الصهيوني يريد أن يورط أميركا ويغرقها في مستنقع الحرب في الشرق الأوسط”. وإشارته هنا هي إلى الضغوط الأميركية التي تمارسها واشنطن على تل أبيب بسبب إصرارها على عملياتها في غزة، بهدف تدمير منظومة الأنفاق تحت محور فيلادلفيا على الحدود مع مصر، وهو ما يضع المصالح الأميركية في مواجهة مع نيران غضب فصائل المقاومة التي وصلت إلى تعطيل الملاحة في مياه البحر الأحمر بما هدد سلاسل الإمداد العالمية.
أيضاً، أشار عبد اللهيان إلى أن مصالح الولايات المتحدة لم تعد ترتبط بإسرائيل وحدها، بل إن هناك قوى إقليمية أخرى يجب أن تراعيها واشنطن في حساباتها، فالدولة العبرية ليست وحدها من يجيد الدخول في استراتيجيات القوى الكبرى.
ولذلك صرح عبد اللهيان أيضاً من بيروت بأن “الحرب ليست حلاً”، وأن “أمن لبنان من أمن إيران”، وهي تصريحات تريد أن تسمعها الإدارة الأميركية التي تخشى اتساع دائرة الحرب.
دور سياسي
جولة عبد اللهيان بين بيروت ودمشق والدوحة وقبلها اتصالات مع القاهرة، تعني أن مفهوم “وحدة ساحات المقاومة” (أطلقته إيران بعد معركة “سيف القدس” التي أطلقتها حماس في أيار (مايو) 2021 دفاعاً عن المسجد الأقصى، واتضح أكثر بعد عملية “طوفان الأقصى” في تشرين الأول (أكتوبر) 2023) مهمته وضع إيران ضمن أي معادلة سياسية، فهي لن تقبل هدر جهودها بأن يتم تجاوزها ومحورها في أي تسوية سياسية آتية، سواء في غزة أم في أي محور من محاور المقاومة.
ولذلك نجد عبد اللهيان يقول فور وصوله إلى مطار بيروت: “نشهد اليوم أن المقاومة الفلسطينية وضعت مبادرة حماس السياسية على الطاولة”. ثم خلال لقائه الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله، أكد أن “القبول بأن تكون المقاومة طرفاً أساسياً في المبادرات السياسية المطروحة يُظهر دورها في المنطقة”.
ربما كان وزير الخارجية الإيراني يشير إلى الحديث عن تسوية سياسية في لبنان في إطار مساعي القوى الغربية لنزع فتيل الحرب الجبهة الشمالية، بسبب العمليات المتبادلة بين “حزب الله” اللبناني وجيش الاحتلال الإسرائيلي.
لكن حقيقةً، هو كان يشير إلى أن أي مبادرة سياسية لا يمكن أن تتجاوز إيران ومحورها، ولذلك قال خلال لقائه نصر الله أيضاً، إن “أي مبادرة سياسية يجب أن تراعي دور الشعب الفلسطيني وإجماع قادة فصائل المقاومة كقضية أساسية”. ما يعني أن أي مبادرة بما فيها “حل الدولتين” لا يمكن أن تتجاوز إيران، إذا أرادت الولايات المتحدة النجاح لها.
 
غرب آسيا أم الشرق الأوسط؟
تأتي أحداث المنطقة، بينما تحتفل إيران بذكرى انتصار ثورة 11 شباط (فبراير) 1979، لذلك حديثها هذه المرة لم يتعلق بالانتصار “الإلهي” في إيران، بل بمهمة هذه الثورة في استعادة مكانة إيران الإقليمية، فقد قال خطيب جمعة طهران سيد محمد حسن أبو ترابي: إن “الأعداء يسعون وراء تغيير خريطة منطقة جنوب غربي آسيا”.
ما يعني أن إيران باتت تقاتل من أجل إعادة تفعيل موضعها الجيوسياسي الذي فقدته منذ توسع إسرائيل على حسابها في المنطقة. أو يمكن القول إنها تحاول إعادة رسم النظام الإقليمي من خلال محورها المقاوم، بما يخدم مكانتها الجيوسياسية في هذا الإقليم.
وعندما ننظر إلى مفهوم “غرب آسيا” الذي تروج له إيران في مقابل مفهوم “الشرق الأوسط”، فإن إيران عملياً ومن خلال فصائلها الموالية تسعى إلى إعادة رسم خريطة المنطقة، بما يعيد لها مكانتها، بخاصة أن مفهوم الشرق الأوسط قد ارتبط بالحقبة الاستعمارية في القرن التاسع عشر، كما أنه يمثل مفهوماً سياسياً استطاع أن يهضم الدولة العبرية الوليدة في المنطقة خارج مفهوم الهوية الجغرافية أو الثقافية.
وإذا نظرنا إلى العمليات العسكرية التي تقف وراءها إيران في منطقة باب المندب والبحر الأحمر، فإن دلالتها تتجاوز مسألة الضغط على إسرائيل والقوى الغربية لإيقاف الحرب في غزة، فإن هذه العمليات كانت مؤشراً عملياً إلى مدى تأثير إيران الإقليمي، فتركيبة المنطقة لم تعد تتماشى مع اصطلاح الشرق الأوسط ومصالح القوى الغربية، بشكل وضع هذه القوى في حرج أمام حلفائها الإقليميين، فالولايات المتحدة ومعها تحالف عسكري واسع، عاجزة عن تأمين الملاحة في مياه البحر الأحمر.
بل إن واشنطن فشلت في الضغط على إسرائيل لإيقاف تلك الحرب، وهو ما أشاع حالة من عدم اليقين بمدى إمكان نجاح “حل الدولتين”، فلم يعد يمكن الادعاء أن الولايات المتحدة قادرة على إقناع إسرائيل بهذا الحل في إطار استكمال مشروع “الاتفاق الإبراهيمي” الذي ارتبط بمبادرة السلام العربية، وهو ما جعل القوى الإقليمية تتجنب الانخراط في مواجهة مع حلفاء إيران؛ وهذا يمثل انتصاراً لمساعي طهران نحو تعديل السلوك الإقليمي، إذ بدأت القوى الإقليمية في حالة عدم يقين وشك في التحالف مع الولايات المتحدة.
 
نظام أمني جديد
إذا كانت إيران تصر على مركزية القضية الفلسطينية، فإن الأمر يتعلق بإعادة ترتيب المنطقة بما يشكل نظاماً إقليمياً جديداً لا تتجاوز فيه المصالح الإيرانية.
فالفشل الأميركي في أفغانستان والعراق بعد المجيء بحكومات موالية للقوى الغربية، بخاصة أن هذا الفشل تعد إيران واحداً من أسبابه؛ دل إلى أن إيران لن تتوقف عن طرحها نظاماً أمنياً إقليمياً جديداً، وأن خطوتها نحو المصالحة الإقليمية التي بدأت باستعادة العلاقات الدبلوماسية مع السعودية، في آذار (مارس) 2023، هي في إطار دعم هذه الاستراتيجية، التي أنتجت مشاورات بين الرياض وطهران حول غزة، وكان آخرها رسالة العاهل السعودي التي حملها سفير الرياض في طهران، عبد الله بن سعود العنزي، إلى الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، والتي حملت أيضاً تهنئة سعودية لإيران في الذكرى الخامسة والأربعين لانتصار ثورتها! مع تأكيد السفير السعودي أن بلاده تنظر للعلاقات مع طهران بنظرة استراتيجية وليست تكتيكية!
والنتيجة هنا، أن إيران استطاعت أن تقنع دول المنطقة بأنها جزء من النظام الأمني، ما يعني أن مسار استراتيجية التطبيع (الاتفاق الإبراهيمي) إذا تحرك بعد انتهاء الحرب في غزة، فإنه سيظل مهدداً بالفشل؛ لأن إيران في حرب غزة، قاتلت إقليمياً من أجل أن تثبت عدم إمكان تجاوزها أمنياً وسياسياً.