هل فكر الإنسان يوماً في ظاهرة الدموع ومعنى البكاء وخصوصيته من وجهة نظر فلسفية؟ وهل الدموع على ما يقول فولتير “لغة الأسى الصامتة”؟ ما العلاقة بين العقل وهذا “السائل المالح” المنهمر على الخدين “والذي يرشح من غدة صغيرة في زاوية العين”؟ ولماذا يدمع الانسان عندما يواجه موقفاً يصعب عليه تحمله؟ هل يساعد البكاء على تحمل المواقف الصعبة؟ أتعبر الدموع عن شدة التأثر ببعض الأحداث والمواقف؟ أم هي نقيض الشجاعة والجرأة والفرح؟ هل البكاء ظاهرة فردية خاصة أم ظاهرة جماعية تحمل في طياتها رسائل سياسية؟
هذه بعض الأسئلة الإشكالية التي يطرحها كتاب غيوم لوبلان الصادر حديثاً في باريس عن دار ألبان ميشال، والمسمى “جرأة البكاء، الدموع خاصية إنسانية”، والذي يقدم تحليلاً معمقاً للدموع ومعناها في الثقافة الغربية. وفيه يضفي المفكر والكاتب الفرنسي، الذي يدرس الفلسفة السياسية والاجتماعية، على البكاء بعداً سياسياً، إذ ينطلق من فرضية وجود دموع تضامنية تمنح الشعوب القدرة على التمرد على أوضاع مأسوية. ولعل هذه الدموع في رأيه قادرة على شق طريق نحو الحرية، إذ ليس البكاء دوماً مرادف لمرارة الاستسلام والخسارة واليأس إزاء قسوة العالم وأحداثه التي تقهر الإنسان المرة تلو الأخرى، هو في كثير من الأحيان مصدر قوة عصية على الإمساك.
من خلال مساءلة المعنى الوجودي للدموع والبكاء، يتابع غيوم لوبلان إذا الحفر في حقل معرفي جديد سبق أن وضع بعض الفلاسفة والمؤرخين خطوطه العريضة، كالمؤرخة سارة راي والفيلسوفين جورج ديدي – هابرمان وإميل سيوران الذين تأملوا في فلسفة الدموع وميتافيزيقيتها بعيداً من مفهوم الهشاشة الإنسانية. ففي كتابها المعنون “دموع روما، قوة البكاء في العصور القديمة”، قدمت سارة راي تأملاً فلسفياً في الدموع استناداً إلى نصوص الفلاسفة الرواقيين الكبار كسينيكا، الذي رأى في الدموع إشارة إلى القوة في إثبات العدالة، في حين درس الفيلسوف جورج ديدي – هابرمان في كتابه “الشعوب الباكية، شعوب مسلحة” الدموع بوصفها سلاحاً، بالاستناد إلى فيلم سيرغي أيزنشتاين الصامت “المدمرة بوتمكين”. فأظهر لنا كيف تتأثر الشعوب بموت إنسان حتى التمرد، قالباً دلالة البكاء، جاعلاً من بيانه وضعاً مقاوماً وضرباً من ضروب القدرة وممارستها بعيداً من مظاهر الضعف والاستسلام. أما إميل سيوران الذي ندين له بأقوال معبرة عن البكاء في كتابه “دموع وقديسون”، فرأى في الدموع لحظة وصول حميمة إلى الآخر والمجتمع والمعرفة. فليست الدموع عند فيلسوف “مثالب الولادة” جداراً أو لغزاً عميقاً لا نعرف سببه، بل هي شق أو فتحة تصل بالإنسان نحو المعرفة والقداسة، وتعبر عن “شهوانية” المعاناة.
مكانة البكاء
ولئن حاولت هذه الدراسات الرصينة ترميم مكانة البكاء والدموع معيدة إليهما معناهما الفلسفي الحقيقي وجوهرهما العاطفي وقوتهما في جمع أفراد الشعب، فإنها تجد في كتاب غيوم لوبلان الجديد متابعة لمشروعها في الغوص عميقاً في أركيولوجية الدموع وبعدها الفلسفي، انطلاقاً من تحليل رصين لظاهرة بكاء الإنسان وألمه الفردي في تجليه على المستوى الذاتي، كما في بكاء البطل الأسطوري أخيل، وبكاء بريام ملك طروادة، وبكاء إينياس ابن الفارس أنتشيسيس، وبكاء أنتيغونا التي عاشت الصراع بين القانون الديني وقانون نظام الحكم المستبد، فداست على قلبها متحدية الملك كريون الذي منع دفن أخيها وحكم عليها بالموت، ودموع القديسة تريزا الأفيلية كما تتبدى في تمثال النحات الإيطالي الشهير جياني لورينزو برنيني، ودموع بحار أوديسا في فيلم سيرغي أيزنشتاين. كما يدرس لوبلان مجموعة نصوص عديدة من الأعمال الأدبية والمسرحية والفلسفية بقصد شرح وتحليل ما يسميه ظاهرة “الدموع التضامنية” أو الجماعية، كتلك التي سالت دعماً للناشطة البيئية السويدية غريتا تونبرغ أو تلك التي انهمرت تعاطفاً مع عائلات ضحايا اعتداءات الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001. ولعله يريد أن يقول لنا إن هذه الدموع لا تجعلنا بشراً فحسب، بل تمنحنا قوة سياسية وأخلاقية، ذلك أن الجرأة على البكاء تعطي الإنسان القدرة على الاحتجاج والاتهام والمطالبة بالعدالة. والدموع الجماعية المنهمرة بقوة تتحول إلى سلاح يخبرنا أن هناك شيئاً يجب تغييره في هذا العالم.
ليست الدموع إذا دلالة على الإحساس العميق وحسب، بل هي تتطلب قوة وشجاعة. فالإنسان يبكي من الحزن والفرح والغضب. ويبكي يوم الربح ويوم الخسارة، ويوم يذهل بعمل فني أو يوم يقع ضحية الظلم. بعض الناس يسهل عليهم البكاء، بينما تصعب الدموع على بعضهم الآخر، لكن البكاء يغمر الإنسان دوماً. ففي السنة الماضية غرق العالم في بحر من الدموع سببتها مشاهد “طوفان الأقصى” ومجزرة غزة المستمرة منذ السابع أكتوبر (تشرين الأول) 2023، ومشاهد الحرب العنيفة الحاصلة في أوكرانيا، ومشاهد الجوع والعنف في السودان واليمن وكابول وغيرها من مشاهد الألم المؤسفة حول العالم. استحضرت هذه المشاهد دموع كل من رآها على الشاشة. ولعلها شهدت على ما يقول غيوم لوبلان على “إنسانيتنا المشتركة” وعلى تواصلنا مع الآخرين. لأننا يوم ضممنا دموعنا إلى دموع الآخر، أخذ بنا البكاء نحو تخوم هويتنا، فدفعنا خارج ذواتنا في محاولة لتشكيل مجتمع متحد “لا حدود له”.
في هذا السياق، وبغية تأكيد أطروحته هذه، يضمن غيوم لوبلان كتابه حججاً قوية مستلة من دراسة حالات محددة من مدونات الأساطير اليونانية القديمة ومن واقع تاريخنا المعاصر بعيداً من التنظير البحت، ليلفت انتباهنا إلى لحظات في الحياة تنهمر فيها دموع الإنسان من دون انقطاع بسبب الفقدان والفراق والألم، لحظات لا تعود فيها الحدود بين الكائن والعدم، بين الحياة والموت مغلقة بإحكام. لكأن الدموع وحدها تحافظ على مثل هذه الحدود. غير أن الدموع في غالب الأحيان، تدع “زهور العدم السامة” تخترق كيان الإنسان. وهذا بالضبط ما يحاول كتاب لوبلان التقاطه من خلال تحليل هذه الحالات الوجودية القصوى التي تبدو في ظاهرها هشة، بينما تختزن في باطنها ينابيع “طاقة حيوية دافقة” ومعاني وجودية بالغة الأهمية. فيشرح لنا كيف أن دموع الإنسان إن دلت على شيء فعلى فقدان لم يقبله، وعلى وجود استمر بعد الغياب، وعلى فرادة الماضي الذي لم يمض بعد، مما يجعل الحياة التي تقطعها الدموع بنظره حياة جديرة بالدراسة. وقد سبق للوبلان أن أشار إلى قسوة الموت الذي لم ترافقه الدموع من خلال تحليله لمأساة “أنتيغونا” لسوفوكليس يوم أمر كريون أن تبقى جثة بولينيس “بلا دفن ودموع”، فريسة للوحوش الضارية والطيور الجارحة، متوعداً من يدفنه ويذرف عليه دمعه بالموت الرهيب.
ويحلل غيوم لوبلان في كتابه كذلك الإنسانية المستعادة في مدننا المعاصرة، يوم يذرف الإنسان دموعه تضامناً وتعاطفاً مع الآخرين في دلالة على المصير المشترك. فيكتب قائلاً “وحدها الدموع قادرة على جعل شعب يبتكر نفسه”. وها هوذا يشير في دراسته إلى واقعة ترحيل سكان أميركا الأصليين بين الأعوام 1831 و1838، أولئك الذين سلكوا سيراً على الأقدام طريقاً امتدت على 1750 كيلومتراً، أطلقوا عليها اسم “طريق الدموع”، طريق لاقى عليها أكثر من 5 آلاف إنسان حتفه، لكنها رسمت بداية فعل مقاومة، كما لو أن الدموع التي ذرفت عليها ولدت في الوقت عينه الرغبة في العدالة والثورة، صائرة بمعنى ما طريق الحرية لا طريق الذل والاستسلام.
في هذا الكتاب يتطرق غيوم لوبلان أيضاً إلى مسألة حبس الإنسان لدموعه بغية حماية نفسه من شر جذري، حتى لو تبدى كائناً بلا إحساس. فيقول لنا إنه في بعض الأحيان تتجمد مشاعر الإنسان من شدة غليانها، وتتسطح أحاسيسه من شدة عمقها، فتعمل عكس قوانين الطبيعة، مشيراً إلى أن قمة اللاإنسانية هي بالضبط هذا المكان الذي تنطفئ فيه إمكانية البكاء. وقد استند لوبلان في تبيانه لهذا المعنى للدموع على شهادات الناجين من معسكرات الاعتقال النازية.
من علامة على لحظة ضعف يجب وقفها، تتبدى الدموع في كتاب “جرأة البكاء” كقوة سياسية يجب استغلالها، إذ لا يعود البكاء في نهاية المطاف، تعبيراً عن فعل تحمل للألم، بل يصبح طريقاً للتصدي للسلطة وللحالات اللاإنسانية. من خلاله تلوح للإنسان فرصة أن يصير كائناً اجتماعياً مختلفاً. وهذا بالتأكيد ما أراد غيوم لوبلان قوله من خلال دراسته العميقة لهذه الظاهرة الإنسانية على المستوى الاجتماعي والفلسفي.