لا يفيدنا التاريخ في استشراف ما بعد العاصفة، لكنه يعلمنا دون شك التنبؤ بها، يعلمنا أن نرى ملامح التشقق في الحاضر واستحالة دوامه. يعلمنا التحسب والتحضير للطوفان. وكما تقول الأسفار: «لو انتظر نوح الطوفان ليبني سفينته، لغرقت الكائنات على بكرة أبيها».

أقول هذا الكلام لأني أستشرف أن العالم يدخل في طور ثانٍ لحرب باردة كونية، في حين لا تزال بعض دول شرقنا العربي، تحاول إعادة عقارب الساعة للوراء، فيما يمضي الإقليم نائماً نحو قلب العاصفة. فما الذي ينخر منظومة العولمة الراهنة من داخلها؟ وما الذي يزعزعها من الخارج؟

مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أسست الولايات المتحدة منظومة العولمة الراهنة في «بريتون – وودز». قبل ذلك، كانت الدول الكبرى تحتاج للحروب البحرية، وتحتاج للاستعمار، بهدف السيطرة على سلاسل التوريد. في «بريتون – وودز»، وبعد خراب أوروبا، وانهيار بحريات الدول الاستعمارية القديمة، عرضت أميركا على حلفائها الجدد، أن تحمي بحريتها سلاسل التوريد الكونية، وتفتح أسواقها مقابل شرطين: مجابهة الشيوعية معاً! والقبول بالدولار عملة كونية.

ودرءاً لمخاطر تحول العالم الثالث إلى الشيوعية بفعل الحركات المناهضة للاستعمار، ضغطت أميركا بقوة للتحول التدريجي من الاستعمار التقليدي نحو نمط جديد من الهيمنة الاقتصادية، فميا سماه اليسار في حينه «العولمة الإمبريالية»، لتصبح كلمة السر «للعولمة الإمبريالية»، (أمطري أنى شئت فخراجك لي).

بانهيار الشيوعية انهار مبرر وجود العولمة، لكن منظومة «بريتون – وودز» استمرت لثلاثة عقود بحكم عطالتها. لتصبح تلك العطالة فرصة تاريخية هائلة للصين، مكنتها من التموضع كونياً كقوة اقتصادية عظمى، استفادت من منظومة «العولمة الإمبريالية» دون أن تضطر لخوض الحروب، ولا أن تضطر لحماية سلاسل التوريد. لكن، في كل الأحوال، وبعد أن غاب مبرر وجوده، ما كان لنظام «بريتون – وودز» أن يدوم.

الحلقة الأضعف في العولمة هي سلاسل التوريد. ولئن استمرت هذه السلاسل حتى الآن رغم كوفيد وترمب وبايدن، فذلك بسبب غياب البديل. لكن ذلك لا يمنعنا من رؤية المخاطر الجمة التي تواجهها. أما أميركا فتبدو الآن أقل دول العالم حاجة للعولمة. ذلك أن نموذجها الاقتصادي يعتمد جوهرياً على الاستهلاك الداخلي، بينما تشغل التجارة الدولية 15 في المائة من دخلها القومي، ليكون نصفها مع دول الأميركتين.

تأتي القناة الإنجليزية في المرتبة الأولى للمضايق الحيوية في العالم، تليها قناة السويس، ثم قناة بنما، ثم المضايق الدنماركية، ثم مضيق ملقا على بوابة المياه الصينية. وليس صدفة أن تنفجر الآن الصراعات الحادة حول هذه المضايق.

معلوم ما يقوم به الحوثي في باب المندب من تهديد للملاحة الدولية من وإلى شرق آسيا وأوروبا. في الوقت ذاته، يتراجع مخزون المياه الحيوي لقناة بنما، لتنخفض البضائع المارة بها لما يقارب الثلثين. كما يتصاعد التوتر في مضيق ملقا وبحر الصين بين الفلبين والصين. وتنتعش من جديد نشاطات القرصنة في أماكن مثل الصومال وخليج غينيا. يضاف إلى ذلك تصاعد التوتر في البحر الأسود كمنصة رئيسية لسلاسل توريد المحاصيل الزراعية والأسمدة الآزوتية والبوتاس نحو العالم الثالث. بل تنشأ من جديد توترات في بحر البلطيق حول المضايق الدنماركية.

رغم ذلك، يمكن القول إن النظام الدولي الساري لا يزال حياً حتى الآن. السبب الرئيسي في ذلك، أن منظومة التأمين البحري لا تزال فعالة بشكل لافت. ورغم أن العقوبات على روسيا هددت بكسر منظومة التأمين الدولية، فإن الفوائد الكبيرة التي جنتها كل من الصين والهند من حصتها في إعادة تكرير النفط الروسي، دفعتها لتقديم ضمانات لتغطية سلاسل توريد المنتجات الروسية. وبذلك نشأ نظامان دوليان للتأمين. نظام رسمي أميركي – أوروبي، ونظام أسطول ناقلات البضائع والنفط الشبحية القديمة «Ghosts Fleet» التي أعيد تأهيلها بعد خروجها من الخدمة، وذلك بهدف تجاوز العقوبات.

سمح هذا التطور بتأخير انهيار نظام التأمين العالمي لسلاسل التوريد. لكن مجمل هذه المنظومة يقترب من حافة الخطر، في انتظار منعطف حرج مقبل. تزيد هذه الحالة من عدم الاستقرار وعدم اليقين، حيث تسعى كل دولة لتعظيم مكاسبها في انتظار الانهيار.

إذ يكفي لغم في البحر الأسود، أو مسيرة في باب المندب، تصيب هدفها بشكل خطير، ليواجه النظام العالمي سؤالاً مفتوحاً:

هل ستتدخل البحرية الأميركية؟ وماذا لو تجاهلت ولم تشتبك؟ أو ماذا لو جرجرت أقدامها انتظاراً لمشاركة دول أخرى مثل الهند أو الصين أو أوروبا؟ ماذا لو تم التصدي لإحدى سفن الأشباح في عرض البحر؟ هل ستستمر الصين والهند في تحمل عبء الضمان البحري لسفن الشبح الروسية، دون تعزيزها بمقدرات عسكرية بحرية؟ ماذا سيحصل لسلاسل التوريد والضمان البحري لو قررت الولايات المتحدة التعاطي مباشرة مع القرصنة الإيرانية في الخليج العربي؟ وماذا لو انتهزت الصين الفرصة للتحرك في بحر الصين؟ وماذا لو اصطدمت سفينة أوكرانية بسفينة تنقل النفط الروسي عن طريق الخطأ؟ أو ماذا لو اعترضت روسيا طائرة تحمل شخصية أوكرانية مهمة؟

لعل هذه الأسئلة تجعلنا ندرك أننا بالفعل على حافة الهاوية. قد تتعدد الأسباب والنتيجة واحدة: تداعي سلاسل التوريد بحيث لا يصبح الشحن بعيد المدى ممكناً، ناهيك بالشحن للمناطق الخطرة.

من أخطر المفارقات أن أهم سلاسل التوريد المتضررة، ستكون صادرات النفط الروسية، وصادرات البضائع الصينية، التي يتعيَّن عليهما الإبحار حول آسيا. في حين يشكل شرق آسيا بالذات مصدر أكثر من نصف سلاسل التوريد في العالم الراهن، خصوصاً فيما يتعلق برقائق الإلكترونيات والحوسبة. لذلك تستعد الولايات المتحدة وتستعد أوروبا، بشكل محموم «لليوم التالي» غير البعيد.

والحال هذه، يمكن أن نتصور نموذجاً جديداً للعلاقات الدولية، يكون أكثر اعتماداً على سلاسل التوريد والتجارة الإقليمية بدلاً من العالمية. إنه نوع من تحوصل العولمة.

ولن يكون هذا التحوصل مقصوراً على التجارة والتصنيع، بل سيستند أولاً وأخيراً على منظومات وتحالفات إقليمية استراتيجية. كل ذلك في انتظار تبلور نظام عالمي جديد يعيد تقسيم العمل الدولي.

استعداداً لهذه التحولات العميقة الوشيكة، ماذا يترتب على العرب؟ وكيف يمكن أن يفرضوا دورهم؛ ليس في إدارة سلاسل التوريد الإقليمية فحسب، بل وفي تعظيم دورهم حيال أمن سلاسل التوريد الكونية العابرة لجغرافيا الشرق الأوسط؟

لطالما كانت جغرافيا الشرق الأوسط ميزة للعرب بقدر ما كانت شدَّة بالنسبة لهم.

الأمر كله رهن بالإرادة الوطنية.