لا تزال كثير من تفاصيل الأحداث التي شهدتها إيران في عام 1979، حيث الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي، وعودة الخميني من منفاه في فرنسا، وسيطرة السلطة الدينية على مقاليد الحكم، وما تبعها من محطات على الصعيد الداخلي والخارجي غامضة، لتخرج بين الحين والآخر مجموعة من الوثائق بعد رفع السرية عنها، سواء في برنطانيا أو الولايات المتحدة صاحبتي النفوذ الأكبر في البلاد قبل الثورة، لتكشف أوجهاً جديدة من طبيعة المرحلة التي عايشتها إيران والمنطقة معاً في تلك الفترة.
وعن كواليس اضطراب العلاقات الأميركية- الإيرانية، التي كانت شديدة التميز قبل الثورة، رفعت وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية في الـ20 من يناير (كانون الثاني) 2024 طابع السرية عن ملف يحمل عنوان “وثائق دبلوماسية” يعود لعام 1997. ومن أبرز وثائق هذا الملف، مذكرة سرية معدة من قبل مجموعة أبحاث الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومحللي الأبحاث، بالتشاور مع الجهات المعنية في وزارة الخارجية البريطانية، تلخص هذه المذكرة أهم التطورات التي شهدتها العلاقة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية منذ انتصار الثورة عام 1979 حتى رئاسة الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي (تولى الرئاسة بين 1997 و2005).
وتتطرق تلك المذكرة السرية في مقدمها بشكل موجز إلى تاريخ العلاقات الإيرانية الأميركية قبل الثورة الإيرانية، وللتشريع (Capitulation) الذي تم تمريره في البرلمان الإيراني عام 1965. وكان التشريع يمنح الحصانة للعسكريين الأميركيين في إيران، وهو مما جعل الخميني يستغل الفرصة لإعلان معارضته لنظام الشاه محمد رضا بهلوي. وبما أن الدستور الإيراني كان يمنع إصدار عقوبة الإعدام ضد مراجع الشيعة، اكتفى الشاه بطرد الخميني من إيران ونفيه إلى العراق. وحول هذه الحادثة التي شكلت أول انطلاقة للخميني، جاء في المذكرة ما نصه:
آراء الخميني
كان انتقاد الخميني للقانون الذي يمنح الحصانة للأفراد العسكريين الأميركيين في إيران سبباً مباشراً لنفيه عام 1964. ففي خطاب ألقاه في أكتوبر (تشرين الأول) 1964، اشتكى من أن إيران جعلت نفسها خادماً للولايات المتحدة قائلاً: “أميركا أسوأ من بريطانيا، وبريطانيا أسوأ من أميركا، والاتحاد السوفياتي أسوأ منهم.. لكن أميركا اليوم هي ما يهمنا. كل مشكلاتنا اليوم سببتها الولايات المتحدة وإسرائيل”.
وبعد الثورة، أشار الخميني مراراً وتكراراً إلى الولايات المتحدة باسم “الشيطان الأكبر” وصنفها بأنها العدو الرئيس لإيران والدول الإسلامية. وشكلت وجهة نظره الأساس لموقف النظام الإيراني بأكمله وجعلت من الصعب التفكير في تغيير السياسة”.
يشار إلى أنه ووفق الوثائق البريطانية، حين بدأت الاضطرابات في إيران تتصاعد في عام 1978، كان آية الله الخميني يخضع لرقابة مشددة في منفاه بمدينة النجف العراقية، وحينها كان العراق تحت حكم صدام حسين، ثم طلب منه شاه إيران أن يطرد الخميني، مشيرة إلى أن هذا كان “سوء تقدير كارثي”، إذ طار الخميني إلى فرنسا، وصار بإمكانه فجأة التحدث إلى العالم أجمع. وحين غادر الشاه إيران في نهاية المطاف في يناير 1979، أصبح الطريق ممهداً أمام الخميني للعودة للوطن وإسقاط النظام الإمبراطوري.
وفي عام 2016، جاء في وثائق أميركية مسربة، أن الخميني وصل طهران بعد الثورة، قادماً من فرنسا، بعد تفاهمات مع الإدارة الأميركية بعدم تهديد النظام الإسلامي المحتمل تسلمه للسلطة، للمصالح الأميركية والمتمثلة في ضمان استمرار تدفق النفط الإيراني للغرب. لكن بعد وصول الخميني للسلطة تحول النظام الإيراني لأشد أعداء واشنطن، وهو ما تجلى في حصار السفارة الأميركية وأخذ عدد من الرهائن الأميركيين، على أثر استقبال أميركا للشاه الإيراني رضا بهلوي.
وجاء في وثائق بريطانية سابقة، رفع عنها السرية عام 2021، أن لندن صدمت من نتائج الثورة الإيرانية، وهو مما تجلى في الساعات الأولى من عودة الخميني إلى طهران، إذ قررت بريطانيا، قراراً فورياً بإجراء “مراجعة شاملة لتحديد أسباب فشلها استخباراتياً ودبلوماسياً، في التنبؤ بما حدث”.
بحسب الوثائق ذاتها، فإن السفير البريطاني لدى طهران أنطوني بارسونز كتب في الـ10 من مايو (أيار) 1978، إلى ديفيد أوين وزير الخارجية البريطاني آنذاك، يؤكد له أن “المعارضة التي يتزايد صخبها، والمؤلفة من رجال الدين والراديكاليين اليساريين والشيوعيين، ليست تهديداً جدياً للشاه”، إلا أنه بعد ثمانية أشهر فقط فوجئت الحكومة البريطانية التي كانت تتمتع بوجود قوى في إيران في كل المجالات بمغادرة الشاه، تحت ضغط الاحتجاجات.
ومع عودة الخميني إلى طهران في الأول من فبراير (شباط) 1979، أدركت لندن “الطبيعة الإسلامية للثورة الإيرانية”، وأمر وزير خارجيتها أوين بإجراء “تشريح يحلل الأحداث” التي سبقت سقوط نظام الشاه ونجاح الثورة الشعبية التي سيطر عليها رجال الدين. وبعدها تلقى تقريراً مفصلاً من سفير بلاده لدى طهران، يعترف فيه بأن البريطانيين “قللوا من شأن قوة المعارضة بما فيها الطلاب والطبقات الدينية والتجار، وقدرتها على الاتحاد” في مواجهة نظام الشاه المستبد.
العلاقات الإيرانية- الأميركية قبل الثورة
“في السنوات التي سبقت الثورة مباشرة، كانت العلاقات السياسية والعسكرية بين الولايات المتحدة ونظام الشاه وثيقة للغاية. رأى الأميركيون إيران حليفاً رئيساً في الشرق الأوسط ومعقل ضد الاتحاد السوفياتي. ورأى الشاه أن الدعم الأميركي يشكل أساس قوته في التوسع وتحقيق طموحه في الهيمنة الإقليمية بعد مغادرة بريطانيا الخليج العربي عام 1971.
وعندما زار الرئيس نيكسون طهران عام 1972، وافق (خلافاً لتوصية وزارة الدفاع) على أن تشتري إيران من الولايات المتحدة أي نوع من الأسلحة التي تحتاج إليها، باستثناء الأسلحة النووية، كما زاد عدد المستشارين العسكريين والفنيين الأميركيين في إيران بصورة كبيرة.
كانت هناك فترة من عدم الثقة بعد أن تولى الرئيس الأميركي جيمي كارتر منصبه عام 1977 بسبب آرائه حول حقوق الإنسان، لكن العلاقة ظلت وثيقة بين البلدين. حيث زار الشاه واشنطن في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، وزار كارتر إيران في ديسمبر (كانون الأول) 1977، واصفاً إيران بأنها جزيرة مستقرة في منطقة مضطربة في خطابه.
وعلى مدار سنوات لم تنتقد المعارضة الدينية في إيران العلاقات السياسية والعسكرية الوثيقة مع واشنطن، التي يعتقدون أنها ستؤدي إلى تآكل استقلال إيران فحسب، بل انتقدت التأثير الثقافي الغربي مع وجود الأميركيين في إيران من خلال قنوات التلفزيون والإذاعة التي تروج للثقافة الأميركية والنوادي الليلية والكازينوهات ودور السينما ومحلات بيع الخمور وغيرها وهكذا سعت الثورة للتركيز على الابتعاد عن أميركا وقيمها الثقافية، فضلاً عن الثورة ضد الحكم الشخصي للشاه.
احتلال السفارة الأميركية في طهران
في الأشهر التسعة الأولى بعد الثورة، لم يكن من الواضح أي اتجاه ستسير عليه العلاقات بين إيران والولايات المتحدة. فمن جانبها تم تقليص واجبات السفارة الأميركية في طهران، في ما يتعلق بالشؤون واتصالات العمل مع الحكومة الموقتة من خلال القوات شبه العسكرية.
وازدادت حدة الأزمة بين البلدين عندما احتلت مجموعة يسارية السفارة في فبراير 1979. وكانت هناك علامات على ذلك. وعلى رغم رحيل المستشارين العسكريين الأميركيين، طالبت السلطات الإيرانية بالتعاون العملي، على سبيل المثال، في مجال قطع الغيار العسكرية. وفي الصيف، اقترح الأميركيون تعيين سفير جديد، لكن بعد المراجعة المبدئية، رفضت السلطات الإيرانية هذا المقترح.
وكان احتلال “أنصار الخميني من الطلاب” السفارة الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1979 بمثابة نقطة تحول في الثورة ووجه ضربة للعلاقات الإيرانية- الأميركية التي لم يتعافوا منها بعد. وصل الشاه إلى الولايات المتحدة في أواخر أكتوبر لتلقي العلاج الطبي. وكان وزير خارجية إيران، إبراهيم يزدي قد سافر إلى نيويورك في وقت سابق من هذا الشهر والتقى وتحدث مع نظيره الأميركي، سايروس فانس. وفي الأول من نوفمبر، زار يزدي ورئيس الوزراء مهدي بازركان الجزائر، حيث التقيا مستشار كارتر للأمن القومي، زبيغنيو بريجنسكي. ويبدو أن الاجتماع الأخير قد أدى إلى تسريع حركة محتجزي الرهائن، مما أدى بدوره إلى انهيار حكومة بازركان الموقتة.
وسواء كان الخميني على علم مسبق باحتلال السفارة أم لا، فإنه سرعان ما أعرب عن دعمه له، ثم تحولت الثورة إلى التطرف، واحتشد الرأي العام في إيران ضد الولايات المتحدة.
يكتب غاري سيك، وهو أكاديمي أميركي متخصص في الشأن الإيراني، وعمل في مجلس الأمن القومي الأميركي في عهد الرئيسين فورد وكارتر وحتى ريغان، يقول إن حقيقة أن الاستيلاء على السفارة كان بالكامل تقريباً نتيجة للسياسة الداخلية الإيرانية كان واضحاً تماماً في ذلك الوقت، من ثم فهمه صناع القرار الرئيسون في واشنطن. ويضيف أنه كان هناك ميل للتقليل من شأن استعداد الخميني للجوء لعقوبات اقتصادية وسياسية خارجية في سعيه لتحقيق أهدافه الثورية.
الإجراءات الأميركية ضد إيران عامي 1979-80
ظل الإفراج عن الرهائن موضوعاً رئيساً في السياسة الخارجية للولايات المتحدة لأشهر عدة. وشملت الإجراءات العاجلة ضد إيران طرد الطلاب الإيرانيين الذين كانوا يقيمون بشكل غير قانوني في الولايات المتحدة، وتعليق مشتريات النفط من إيران وتجميد الأصول الإيرانية في البنوك الأميركية. وفي ديسمبر، طلب من إيران تخفيض عدد موظفيها الدبلوماسيين. في يناير 1980، قدمت الولايات المتحدة مشروع قرار لمجلس الأمن في شأن العقوبات على طهران، اعترض عليه الاتحاد السوفياتي، ثم أعطت الولايات المتحدة الجهود الدبلوماسية لإنهاء الاحتلال فرصة أخرى، ولكن في أبريل (نيسان) 1980 قطعت العلاقات الدبلوماسية وفرضت عقوبات اقتصادية أحادية الجانب (باستثناء الغذاء والدواء). وأصبحت المصالح الأميركية في إيران تحت رعاية سويسرا، وأصبحت المصالح الإيرانية في الولايات المتحدة تحت رعاية باكستان.
في وقت لاحق من أبريل 1980، حدثت العملية الفاشلة لإنقاذ الرهائن التي سميت “مخلب النسر”، والتي انتهت بمأساة عندما اصطدمت مروحية وطائرة “سي 130” للتزود بالوقود في الصحراء قرب طبس الواقعة شمال شرقي إيران وقتل فيها ثمانية جنود أميركيين. وألغت العملية الفاشلة (تزامنت مع الانتخابات الأميركية عام 1980، التي خسرها كارتر “ديمقراطي” لصالح ريغان “جمهوري”) أي إمكانية لإطلاق سراح الرهائن خلال أشهر، حتى توفي الشاه في القاهرة في يوليو (تموز) 1980.
إطلاق سراح الرهائن: 1981
أخيراً أطلق سراح الرهائن بعد توقيع اتفاق في الجزائر في يناير 1981. حيث وافقت الولايات المتحدة بموجب الاتفاق على الإفراج عن مختلف الأصول المالية الإيرانية واتخاذ إجراءات لتسوية المطالبات، كما تعهدت الولايات المتحدة الامتناع عن التدخل في الشؤون الداخلية لإيران. وعليه استمرت القطيعة في العلاقات الدبلوماسية واستمر احتلال السفارة الأميركية في طهران، التي وصفها محتلوها بأنها “وكر للتجسس”.
ونص الاتفاق الجزائري على إجراء لتسوية المطالبات من طريق التحكيم الملزم من قبل محكمة خاصة في لاهاي. ووافقت إيران على وضع مليار دولار في حساب وديعة لتأمين دفع المطالبات المقدمة من المواطنين والشركات الأميركية، وتجديد الحساب حتى لا ينخفض أبداً عن مستوى 500 مليون دولار. وبحلول عام 1995، كان المواطنون الأميركيون قد كسبوا أكثر من 2.3 مليار، والمواطنون الإيرانيون نحو 437 مليون دولار.
وكانت أكبر مطالبة مالية متبقية هي ما يسمى “المطالبات الثنائية الإيرانية” وتتعلق بعدم تسليم الأسلحة التي تم طلبها ودفع ثمنها في أيام الشاه بموجب برنامج المبيعات العسكرية الأجنبية لإيران، إضافة إلى المعدات التي تم إصلاحها في الولايات المتحدة ولكن لم يتم إرجاعها وبعض الرسوم الزائدة المطالب بها.
ففي البداية، طالب الإيرانيون بـ10.8 مليار دولار، وزادوا هذا المبلغ لاحقاً إلى 18 مليار دولار. لكنهم غالباً ما يعلنون صراحة مطالبة بقيمة 12 مليار دولار.
وكان هناك أيضا نزاع كبير حول رسوم إنهاء العقود، ومن يجب أن يتحمل مسؤولية وقف العقود؟ وأخيراً، سعت إيران بشكل منفصل للحصول على تعويض بقيمة 2.6 مليار دولار من الحكومة الأميركية لمنع صادرات بعض المعدات العسكرية من قبل مقاولين من القطاع الخاص.
وفي لاهاي، عقدت اجتماعات دورية بين ممثلي إيران والولايات المتحدة. وعلى الجانب الإيراني، كان الدكتور افتخار جهرمي رئيس مكتب الخدمات القانونية الدولية في طهران، ومحسن محبي، الذي يشغل منصب رئيس المكتب الإيراني في لاهاي، وعلي نوبري “ممثل” إيران، حاضرين في المحكمة، كما عقدت اجتماعات في لاهاي بين المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية ونظيره الإيراني. ووفقاً للأميركيين، فإن الفريق الإيراني محترف تماماً وقادر على تقديم حجج قانونية مفصلة، والمفاوض الرسمي فخري هو عضو في مجلس صيانة الدستور الإيراني.
اتفاق سري بين إيران والحزب الجمهوري
كانت حادثة الرهائن إهانة للرئيس كارتر، وربما خسرته في انتخابات عام 1980. واعتبر موظفوه بعد ذلك أن إيران استخدمت المفاوضات وتوقيتها لإحراج الإدارة والتلاعب بها، وحسبوا أن الرئيس الذي كان يحاول، مثل كارتر، إعادة انتخابه سيكون أكثر عرضة لتقديم تنازلات من الرئيس ريغان الذي تم انتخابه للتو لمدة أربع سنوات.
وفي اليوم الأخير، تم تأجيل إطلاق سراح الرهائن إلى فترة بعد حفل تنصيب الرئيس ريغان. لذلك ليس من المستغرب أن يظهر وارن كريستوفر، الذي كان بصفته نائب وزير الخارجية كبير المفاوضين على الجانب الأميركي خلال الأزمة، عداء خاص تجاه إيران عندما أصبح وزيراً للخارجية في عهد الرئيس كلينتون في عام 1993، كما شارك آخرون في فريقه.
وزعم غاري سيك أن هناك اتفاقاً سرياً بين إيران والحزب الجمهوري من أجل إطلاق سراح الرهائن تم تأجيله حتى انتهاء الانتخابات الرئاسية.
هناك أدلة على أن الجمهوريين كانوا على اتصال بإيران في ذلك الوقت، وكذلك خلال الأسابيع القليلة الأولى من إدارة ريغان، كانت هناك شحنات أسلحة أميركية الصنع يتم شحنها مباشرة من إسرائيل إلى إيران، لكن الأدلة بصورة عامة كانت ضعيفة.