ربما نجحت إسرائيل في الماضي في تسويق نفسها على أنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأنها وحدها تحمل لواء القيم الديمقراطية الليبرالية، ومن هذا المنطلق يتوجّب على الغرب دعمها سياسيًا وماديًا لأنها تدافع عن قيمه في منطقة تسودها قيم سلطوية. ولكن نجاح إسرائيل هذا ليس مردّه قوة إسرائيل الإعلامية أو قيمها “الديمقراطية” فقط. فقد شاء الغرب، ولأسباب دينية وثقافية، إضافةً إلى الهولوكوست الذي ارتكبته ألمانيا النازية وشعور الذنب الذي تبع ذلك، أن يقنع نفسه بالادّعاءات الإسرائيلية التي لا يجوز أن يكون لها مكانٌ اليوم بعد ما قامت وتقوم به إسرائيل من حروب ضدّ الشعب الفلسطيني، ما يمكن أن يصل إلى حدّ اتّهامها بالإبادة الجماعية من جانب أعلى سلطة قضائية دولية.
شاء الغرب أن يتجاهل حقيقة لا لبس فيها، وهي أن إسرائيل تمارس الديمقراطية مع مواطنيها اليهود فقط، أما مواطنوها العرب، سكان البلاد الأصليون، فيتم التمييز ضدّهم قانونًا وممارسةً، وهو التعريف القانوني للفصل العنصري. شاء الغرب أن يتغاضى عن أن هذه الدولة “الديمقراطية” دولة محتلة وأن احتلالها هو الأطول في التاريخ الحديث، وأن إسرائيل لا تطبّق القانون الدولي على الأراضي المحتلة، وأنها تواصل بناء المستوطنات في خرقٍ وتحدٍّ واضحَين للقانون الدولي. شاء الغرب أن يتجاهل كل ذلك، والسؤال اليوم، لماذا؟
قد يتعلق الجواب برؤية الغرب العنصرية للعرب والمسلمين. إسرائيل بالنسبة إلى الغرب تمثّل خط الدفاع الأول ضدّ ثقافة لا يريدها. وقد باتت هذه الحقيقة واضحة بعد الموقف المتشدّد الذي يتّخذه الغرب ضدّ هجرة العرب من شمال أفريقيا إلى أوروبا، وهجرة السوريين إلى أوروبا وأميركا، على عكس الترحاب الذي يلقاه اللاجئون الأوكرانيون مثلًا.
لقد نجحت إسرائيل في موضعة موقفها المعادي للعرب والفلسطينيين ضمنيًا ليتماشى مع الموقف الغربي ضدّ ثقافة المنطقة وضدّ الهجرة منها. في سبيل ذلك، لا بأس لدى الغرب في التغاضي عن كل انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي وحقوق الإنسان طالما أنها تلبّي الرغبات المُعلنة أو الدفينة لصنّاع القرار الغربيين.
هذه الصورة المزيفة للديمقراطية الإسرائيلية بدأت بالتخلخل مع وصول الائتلاف الإسرائيلي اليميني العنصري بقيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى السلطة، خاصةً بعد محاولته تقويض النظام القضائي الإسرائيلي ونسف مبدأ نظام الفصل والتوازن الذي يشكّل أساس الديمقراطية التي تمنع تغوّل سلطة على أخرى.
فجأةً، وجد الغرب نفسه يتعامل مع إسرائيل ينقضّ فيها بعضها اليهودي على البعض الآخر اليهودي أيضًا، ما ينسف السبب المُعلن أو الدفين للمحاباة الغربية لإسرائيل. فالفلسطينيون، من النواحي الشخصية أو الثقافية، لا دخل لهم بما يجري من اعتداء على القيم الديمقراطية داخل إسرائيل التي يدّعي الغرب مناصرته لها. وعلى الرغم من انتقاد الغرب الحالي للحكومة الإسرائيلية بقيادة نتنياهو، ظلّ هذا الانتقاد يمارَس على استحياء وبشيء من عدم الراحة، على الرغم من وجود عناصر داخل الحكومة الإسرائيلية مثل بن غفير وسموتريتش ممّن يحملون أفكارًا عنصرية غير ديمقراطية علنية. وبالتالي لم يرقَ هذا الانتقاد إلى تغيير السياسات أو النظرة تجاه إسرائيل لأن السبب الدفين وراء تأييدها لم يتغيّر.
جاء 7 تشرين الأول/أكتوبر لـ”يريح” الغرب الرسمي من معضلته، فقد أعاد الصورة النمطية السائدة عن إسرائيل والتي أرادها في مخيلته، فها هي إسرائيل تتعرّض مرة أخرى لهجوم “همجي”، وها هي مرة أخرى “تدافع عن نفسها دفاعًا مشروعًا”، وها هي الديمقراطية الليبرالية في مواجهة التطرُّف الديني!
هذه برأيي الأسباب الكامنة الحقيقية وراء الدعم الغربي لإسرائيل، وهي أسباب لم تهزّها حتى وقت قريب كل الانتهاكات الإسرائيلية عبر عقودٍ من الزمن، ابتداءً من احتلال فلسطين والحرب على غزة. في سبيل المحافظة على “نقاء” المجتمعات الغربية، يصغر حجم أي اعتداء إسرائيلي، وأي فصل عنصري، بل وأي إبادة جماعية طالما أن المعتَدى عليه فلسطيني أو عربي.
لكن واقع الحال يشير إلى أن هذه الصورة المغالية في الزيف لإسرائيل لا تستطيع أن تبقى محصّنة للأبد. فبعد مقتل أكثر من سبعة وعشرين ألفًا من المدنيين الفلسطينيين، جلّهم من النساء والأطفال، لا تستطيع إسرائيل مواصلة الادّعاء بالدفاع عن النفس من دون وضوح ضعف هذه الحجة. بعد تدمير غزة شبه الكامل وتحويلها إلى أرضٍ غير قابلة للسكن، لا تستطيع إسرائيل الادّعاء أنها لا تهدف إلى تنفيذ التطهير العرقي.
هل يستطيع المجتمع الدولي مواصلة ريائه ومحاباته لإسرائيل؟ ربما يستطيع الغرب الرسمي أن يستمر بإقناع نفسه بدعم إسرائيل حتى حين، ولكن الكثير من أبناء وبنات جيله الجديد، الذين يأخذون موضوع الحقوق الفلسطينية بجدية أكبر ومن دون تغليفها بأسباب أصبحت واهية، بدأ بالتحرّك والاعتراض. وها هي محكمة العدل الدولية، أعلى سلطة قضائية في العالم، تتّهم إسرائيل بالإبادة الجماعية في خطوة غير مسبوقة.
لن يستطيع الغرب دعم التطرّف الديني الإسرائيلي والعنصرية الإسرائيلية والاحتلال الإسرائيلي إلى ما لا نهاية. فالعالم يتغيّر ويسير في اتجاه معاكس تمامًا للاتجاه الإسرائيلي المغالي في عنصريته وتطرّفه ولاإنسانيته. سيأتي يوم ينحاز فيه الجيل الصاعد للحقوق المتساوية أكثر منه لديمقراطية زائفة.
لا تتّخذ مؤسسة كارنيغي مواقف مؤسّسية بشأن قضايا السياسة العامة؛ تعبّر وجهات النظر المذكورة في هذه الدراسة عن آراء كاتبها ولا تعكس بالضرورة وجهات نظر المؤسسة، أو فريق عملها، أو مجلس الأمناء فيها.