بالتزامن مع انهماك زعيم هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، أبو محمد الجولاني، في احتواء ملف العملاء ومنعه من التأثير على صلابة البنية الهيكلية لتنظيمه، برزت مساعٍ تركية لاستغلال لحظة الضعف التي تمر بها الهيئة من أجل تمرير مشروع جديد يهدف إلى إعادة هيكلة الجيش الوطني السوري، وترتيب ملفات المناطق الواقعة تحت سيطرته بعيداً من نفوذ الجولاني وأذرعه التي تمددت في هذه المناطق خلال الأعوام السابقة، مستفيدة من ترهّل مؤسسة الجيش الوطني والخلافات التي دبّت بين فصائله.
وما زال الجولاني يعاني تداعيات ما يتّخذه من خطوات رامية إلى تقزيم ملف العمالة الذي هزّ أوساط هيئة تحرير الشام منذ شهر آب (أغسطس) الماضي، حيث كانت كل خطوة أو إجراء يقرّره في سبيل ذلك يؤدي إلى انفجار مشكلة جديدة في وجهه، وكان آخرها ما حصل بعد إعلان الهيئة إغلاق ملف العمالة رسمياً وإطلاق سراح المتهمين، حيث علّق عدد من القادة العسكريين البارزين أعمالهم في الهيئة احتجاجاً على طريقة تعاطي جهاز الأمن العام مع التحقيق في قضية العملاء واعتماده أساليب التعذيب القاسية لانتزاع المعلومات من المتهمين الذين كان معظمهم من المنتسبين إلى الجناح العسكري، ما خلق حساسية عميقة بين الأخير والجناح الأمني.
وأبرز الذين علّقوا أعمالهم هم: شامل أبو محمد، الأمير العسكري لـ”لواء عثمان”، والأمير العسكري خطاب الألباني، وأبو محمد، أمير “لواء الزبير بن العوام”، وهو عضو مجلس الشورى التابع لـ”هيئة تحرير الشام”. وقد أعلنوا يوم الخميس الماضي، تعليق عملهم ضمن صفوف الهيئة حتى إشعار آخر. وكان سبقهم إلى ذلك كل من المسؤول الأمني العام أبو أحمد الحدود، وقائد لواء طلحة أبو حفص بنش، وحمزة الحلبي مسؤول العصابات الحمراء. غير أن قرار أبو أحمد حدود وأبو حفص بنش قد يكون تمّ بالتنسيق مع الجولاني لتهدئة الجناح العسكري بعد تصاعد الانتقادات ضد هذين الشخصين لولائهما المطلق للجولاني وأدوارهما في اتهام القادة العسكريين.
وسط هذه الأزمات المتتالية التي يمر بها الجولاني، قررت أنقرة الالتفات باهتمام أكبر إلى ملف إعادة هيكلة الجيش الوطني المموّل من قبلها، وهو الهدف الذي طالما قضّ مضاجع المسؤولين الأتراك المعنيين بالملف السوري ولم يفلحوا في إيجاد طريقة مناسبة لتمريره بسبب النزعات المناطقية والعشائرية التي تهيمن على كلّ فصائل هذا الجيش، وكذلك بسبب المساعي التي كان يبذلها الجولاني من أجل استقطاب وجذب بعض هذه الفصائل كي تدور في فلك مشروعه الخاص. وبما أن الجولاني منشغل حالياً بأزماته الداخلية، يبدو أن أنقرة افترضت أن جزءاً من العقبات قد زال من طريقها تلقائياً.
وتدور الخطة المسرّبة حول محورين أساسيين: الأول هو الفصل بين مناطق سيطرة الجولاني ومنطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، عبر إقامة معبرين في الغزاوية ودير البلوط تحت إدارة وسيطرة وزارة الدفاع التابعة للحكومة الموقتة المنبثقة عن الائتلاف السوري المعارض، لمنع مرور أرتال هيئة تحرير الشام كما حدث في عفرين قبل عامين تقريباً. والثاني هو التخلص من الطابع الفصائلي والمناطقي الذي تشكلت على أساسه معظم الفصائل المنضوية تحت راية الجيش الوطني، وذلك عبر إعادة دمج الفصائل الصغيرة مع فصائل أكبر منها وإعادة فرزها وفق معايير مهنية ضمن أحد الفيالق الثلاثة التي يتكوّن منها الجيش الوطني.
وتسود أجواء بأن يؤدي ذلك إلى تغيير جذري في حضور هيئة تحرير الشام في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، وبوادر ذلك قد تكون ظهرت من خلال انشقاق بعض الفصائل عن التشكيلات الموالية للهيئة في تينك المنطقتين، مثل انشقاق فرقة المعتصم عن القوة الموحدة، وانشقاق فصيل من حركة الزنكي عن تجمع الشهباء الذي يعتبر الذراع العسكرية الضاربة للهيئة ضمن درع الفرات.
وتعود آخر خطة أعلنت عنها أنقرة لإعادة هيكلة الجيش الوطني وترتيب مناطق سيطرته إلى مطلع عام 2022، والتي انبثقت عن اجتماع غازي عنتاب بين الاستخبارات التركية وقادة بعض الفصائل في أعقاب اجتياح هيئة تحرير الشام لمدينة عفرين. وفي ذلك الحين وصف الاجتماع بأنه حاسم ومختلف عن كل الاجتماعات السابقة، وأن ثمة زخماً تركياً لا يمكن مقاومته من أجل تطبيق بنود الاجتماع. ومع ذلك كان مصير هذه البنود هو التلاشي والنسيان على خلفية التطورات المحلية والدولية والإقليمية التي شهدتها المنطقة.
ويرى العديد من المراقبين أن هدف “إعادة هيكلة الجيش الوطني” ليس هدفاً حقيقياً لأنقرة، بل هو مجرد واجهة لتمرير أهداف أخرى تتعلق بضمان سيطرتها على إدارة المناطق التي تحتلها في الشمال السوري لمواجهة أجندات ومشاريع مناهضة لسياستها، سواء كانت هذه الأجندات أميركية مرتبطة بدعم قوات سوريا الديموقراطية، أو سورية – روسية – إيرانية للضغط على أنقرة من أجل تلبية شروط التطبيع مع دمشق، أو الشروط اللازمة لإيجاد حل للأزمة السورية تتناسب مع سياسات هذه الدول.
وفي هذه المرحلة، يبدو أن أنقرة تتحضّر عملياً لمواجهة بقاء القوات الأميركية في سوريا حتى أمدٍ غير معلوم، مع ما يجره ذلك من بقاء نفوذ قوات قسد التي تعتبرها أنقرة تشكيلاً إرهابياً. وكذلك لمواجهة تداعيات توقف مسار التطبيع مع دمشق والذي نعاه المسؤولون الروس مؤخراً، حيث من المتوقع أن يتسبب ذلك في تطورات قد تتطلب من أنقرة إعادة التأكد من مدى قوة الفصائل المسلحة التي تعمل تحت إشرافها.