ليس من المبالغة القول إن عملية طوفان الأقصى في 7 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تعدّ زلزالا استراتيجيا يشابه زلزال ثورات الربيع العربي عام 2011. ولا تتعلق حالة التشابه (الربيع العربي، غزوة غلاف غزّة والرد عليها) فقط بحالة المفاجأة التي أشعلها الشعب العربي في أكثر من بلد، بعد عقود من حالة سكون وخمول واستسلام للاستبداد، ولا بحالة المفاجأة الشبيهة التي أحدثتها حركة حماس، لجهة قدرتها على صناعة هجوم عسكري عجزت العقول العسكرية والأمنية الإسرائيلية عن استيعابه (غطاء صاروخي كثيف دفع الاحتلال إلى التركيز على كيفية إسقاط الصواريخ كما في كل مرّة، من دون أن يخطر على باله أن مئات المقاتلين من كتائب عز الدين القسام اقتحموا أكثر من 20 مستوطنة إسرائيلية في محيط غزّة وعشرات المواقع العسكرية وقتل كثيرين ممن فيها، ثم فتح كوّة في الجدار العازل). ولا يتعلّق الأمر بالتداعيات المباشرة التي ترتبت على “الربيع العربي” الذي انتهى ببعض الدول إلى حروب أهلية دمرت الدولة والمجتمع، ولا بالواقع الشبيه في غزّة، حيث استتبعت عملية “طوفان الأقصى” ردّا إسرائيليا عنيفا لم يعرفه القطاع منذ نشوء الكيان الإسرائيلي. كما لا يتعلّق الأمر بالتداعيات الاستراتيجية التي ترتّبت على الحدث الأول وما قد يترتب على الحدث الثاني: إعادة بناء الاستبداد العربي ذاته وانهيار المجتمعات في الحالة الأولى، وبنشوء واقع عسكري ـ سياسي جديد في غزّة لا يكون لصالحها بقدر ما هو لصالح إسرائيل في الحالة الثانية.
ليست حرب تموز (2006) بعيدة عن الذاكرة، إذ أدّت الحرب نتيجة شن حزب الله عملية أسر خلالها جنودا إسرائيليين، بادرت على أثرها قواتٌ إسرائيليةٌ باقتحام الجدار الحدودي ودخلت إلى الأراضي اللبنانية، حيث نصب الحزب كمينا لها، فقصف دبابتين وقتل ثمانية جنود إسرائيليين، من بينهم اثنان أسرا إلى لبنان من دون الإبلاغ عن مصرعهما. ثم أدّت الحرب إلى صدور قرار مجلس الأمن 1701، الذي كبّل الحزب، وجعل أي تخطّ للخط الأزرق انتهاكا للشرعة الدولية يستوجب الرد عليه عسكريا. ومن هنا نفهم المعضلة التي يواجهها حزب الله حاليا، فمن جهةٍ يجد نفسه مُحرجا أمام قواعده، طالما أن سرديّته الأيديولوجية قائمة على دعم فلسطين ومواجهة الاحتلال، ولن تأتيه فرصةٌ تاريخيةٌ مثل هذه للوقوف إلى جانب غزّة. وفي المقابل، قيّد القرار الدولي 1701 الحزب الذي يخشى أيضا أن يتوسّع العدوان الإسرائيلي، ويدمّر أجزاء واسعة من لبنان أكثر بكثير مما تم تدميره عام 2006.
وثمّة مثال أقدم، حين نفذ تنظيم القاعدة هجمات 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001، ثم وقوف العالم إلى جانب الولايات المتحدة التي استغلّت الحدث من أجل احتلال أفغانستان والعراق، ونشوء موجة كره عالمي للإسلام والعرب، اختلط فيها الإسلام المتطرّف بالإسلام المعتدل المسالم.
بهذا المعنى، ستجد المقاومة في غزّة بعد انتهاء العدوان، ليس واقعا دوليا يرفض بحزم تكرار مثل عملية “طوفان الأقصى” فحسب، بل واقعا عربيا رافضا مثل هذه العملية، ومستعدّا للتقرب من إسرائيل من أجل إبقاء حالة الستاتيكو العسكري والسياسي، بما لا يُحرج هذه الأنظمة أمام شعوبها.
لا يُفهم من ذلك أن كاتب هذه السطور ضد “طوفان الأقصى”، فهي عملية كبيرة جدا ليس فقط بمعايير الوجدان العربي، بل أيضا بالمعايير الاستراتيجية على الأرض، من دون غضّ النظر عن الثمن الذي يدفعه قطاع غزّة. إنما المقصود أن عمليات بهذا الحجم ستُفرغ من محتواها الاستراتيجي، بسبب غياب مشروع وطني يتحد الشعب الفلسطيني وراءه، وبسبب الأنظمة الاستبدادية العربية غير القادرة على دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، وغير القادرة أيضا على استثمار انتصاراته بما ينعكس إيجابا على قضيته التي هي قضية العرب الوجودية. وقد كشفت عملية طوفان الأقصى والرد الإسرائيلي عليها تشابها عميقا بينها وبين اندلاع الربيع العربي قبل نحو 13 عاما.
مشكلة الشعب الفلسطيني وعموم الشعب العربي تكمن في الاستبداد العربي الغاشم الذي صادر طاقات الشعب وقضى على إرادته، وحال دون نشوء دول قوية قادرة على التأثير في الساحتين الإقليمية والدولية، وكانت النتيجة نشوء أنظمة عربية: قوية تجاه الداخل ومطواعة وذليلة تجاه الخارج. ولم يكن لإسرائيل المضي في عملية القتل الجماعي العنيف الذي تقوم به في قطاع غزّة لولا إدراكها تماما أن الدول العربية في حالة عجز، وغير قادرة على فعل شيء سوى الكلام.
قضية العرب الرئيسية هي الاستبداد والاحتلال، ومن دون القضاء على الأول يكاد يكون من المستحيل نشوء كتلة تاريخية عربية قادرة على تغيير المعادلات الكبرى.
الدم الفلسطيني يتحمّله أيضا الزعماء العرب المستبدّون، وقد عبّر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عن ذلك بوضوح حين قال “يتحدّث الإعلام العربي دائما عن فلسطين، وحين أجتمع بالزعماء العرب لا أحد منهم يحدّثني عنها”.