دبابة إسرائيلية في مناورات في الجليل الأعلى قرب الحدود اللبنانية (24/10/2023/فرانس برس)

كل عناصر الحرب بين حزب الله وإسرائيل متوفِّرة: المذبحة الجوية لأهل قطاع غزّة سوف تستكملها احتمالاتُ نكبةٍ جديدة، لا تقلّ عن الأولى فداحة، ومعها مخاطر نزع السلاح من حركة حماس، المفترض أنها الفرع الفلسطيني من استراتيجية “الساحات الواحدة”. وعلى الجبهة، المواصفات المسْتحبّة للإسرائيليين: لا يدرون إلى أين يسيرون… والانتصار الحتمي، ونهاية إسرائيل… إلخ.
وما يُنقل عن مناخ “حربي” لدى الحزب يكمِّل الغرض: “غرفة العمليات المشتركة” بين “قوى المقاومة”، تعمل “بشكلٍ مستمرٍّ ومكثَّف وتنسيق تام”، في الإطار نفسه، “وحدة الساحات”. حيث يتم “التوافق” على الخطوات والقرارات. ثم وصفٌ دقيقٌ للأعمال “الحربية” ضد إسرائيل”. فعلى الحدود الجنوبية، هجماتٌ يوميةٌ على مزارع شبعا وصواريخ على مستوطنات إسرائيلية، وتدمير كاميرات ورادارات إسرائيلية، الهجوم على دبابات ميركافا، استخدام صواريخ كورنيت، فضلاً عن سقوط شهداء للحزب.
وتظهر جليا “وحدة الساحات” أيضا، عن طريق تحريك “أنصار الله” اليمنيين و”الحشد الشعبي” العراقي ضد قواعد أميركية في العراق وسورية. والجديد في هذه “الساحة”، خبر يوزّعه إعلام الحزب، بأن حشودا ضخمة من المقاتلين العراقيين ينتظرون التوجّه إلى الحدود العراقية مع الأردن. وتأتي هذه الخطوة في إطار “منظّم”، وقد يصل عدد هؤلاء “إلى عشرات الآلاف في الأيام القليلة المقبلة”. وتأكيد، أن “الحرب هذه المرّة ستجعل إسرائيل تعاني (..) سيستطيع الحزب إلحاق ضرر ودمار لم تعانِه إسرائيل من قبل”. وأن إسرائيل اليوم “لا تجرُؤ على الاقتراب من حسن نصر الله”، فلحظة إعلان الحرب على إسرائيل هي “لحظة حسن نصر الله” لحظته (…) ولحظات لطالما تحدّث عنها، وأورد بعضاً من صفحاتها ومشاهدها، وهو الذي لطالما توعّد بالعبور، واقتحام الجليل، ونقل المعركة إلى داخل الأراضي المحتلة”… إلخ.

كأن الحثّ على الدخول في الحرب يأتي من جهاتٍ غير صديقة للحزب، ذات نوايا شريرة

في الواقع، لم يدخل الحزب الحرب. ما زال “يجاهد” ضمن “قواعد الاشتباك”، وإن رفعَ قليلا من درجتها، من دون أن يخرقها، كما تفترض كل عقيدته وأدبيّاته ودفاعه المستميت عن سلاحه “في سبيل القدس وفلسطين”. وهذا التمنّع عن الحرب ليس أعداء الحزب الذين يقولونه، إنما شخصياته وإعلامه، فيكون السؤال: لماذا لم يدخل الحزب الحرب بمعناها الدقيق؟ لماذا يصرّ منظّروه على وصف كل حركاته في الجنوب بأنها “مدروسة”؟ لماذا لا يفتح الجبهة الجنوبية كما فتحتها “حماس” على الأقل، بصفته يملك ضعف التجربة والسلاح والرجال؟ وخبرة قتالية، في سورية تحديداً، حوَّلته إلى حزب “إقليمي”، أكبر من بلده؟ ويكون جوابهم: ضغوط دول العرب، ضغوط من مناصري المقاومة، ضغوط من “أكثر من نصف لبنان من الذين يعادون الحزب”، ضغوط “الرأي العام العربي الذي ينتظر من الحزب مساهمة في مقاومة غزّة”… ويتابع: ضغوط “من المحور الذي لا يريد بعض أطرافه فتح الجبهات كافة”. وضغوط متولّدة “من خطاب الحزب نفسه”، بسبب السنوات التي أمضاها وهو يساهم “في المعركة الكبرى ضد العدوّ”. وأخيراً ضغط من الشعب الفلسطيني، بسبب “تحريض أنظمة الخليج”.
هذه الأسباب شديدة الشفافية، تبدو وكأن الحثّ على الدخول في الحرب يأتي من جهاتٍ غير صديقة للحزب، ذات نوايا شريرة. والغريب أنه يأتي أيضا من جهاتٍ صديقة، مثل “مناصري المقاومة”، أو “الرأي العام العربي”. وهي لا تلغي أسباباً أخرى، مثل التي يقدمها منظِّر آخر للحزب على الشاشة. يفتتح الكلام بأن الحزب “ممكن أن يدخل في الحرب وينجح”، ولكن ذلك لن يكون “سهلاً”. سيكون ساعتها منخرطا في “حربٍ كبرى”، وردّات الفعل الإسرائيلية ستكون “تدميراً ومجازر أين منها غزّة”… وخراب في القرى والمدن والبلدات، وأعداد الشهداء والأرامل والايتام… ويتساءل صاحب هذا الكلام: من أين لنا أن نخوض هذه الحرب، و”العرب، عرب أبو جهل” يقفون ضدنا، ومعهم “بعض الفلسطينيين”؟
والمسْمار الفلسطيني يدقّه رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في الخارج، خالد مشعل، في مقابلة تلفزيونية: يشكر فيها حزب الله على ما يقوم به، ولكنه يضيف “المعركة تتطلّب أكثر، وما يجري لا بأس به، ولكنه غير كافٍ. اليوم المطلوب أكثر من طوفان، هكذا يُصنع التاريخ. ليس بالخطوات المحدودة، الخجولة، المتردّدة. يصنع بالمغامرات المدروسة”.  طبعاً، يسخّف إعلاميون يناصرون الحزب هذا التصريح ويقلِّلون من شأن مشعل ويعايرونه: “المرتاح في الإقامة في الدوحة وأموال الدوحة…”، أحد إعلامييه يصف تصريحه بـ”الخبيث للغاية”. لماذا؟ لأنه يطالب “الحزب بـ”أكثر” مما يستطيع، من على شاشةٍ سعوديّة، “كأنه يقول إن مثال العطاء والدعم يتمثّل في دعم السعوديّة للمقاومات في المنطقة” (شريط المقابلة مع مشعل ما زال على الشبكة، وحُذِف منه هذا المقطع “الحسّاس”).

مطالبة حزب الله بالدخول بحرب حقيقية مع إسرائيل، وإنهاء مرحلة “قواعد الاشتباك”، هي في نظره نوع من الابتزاز أو المزايدة

إذن، مطالبة حزب الله بالدخول بحرب حقيقية مع إسرائيل، وإنهاء مرحلة “قواعد الاشتباك”، هي في نظره نوع من الابتزاز أو المزايدة، وتعبير عن عداء ضده، يشترك فيها أصنافٌ من الأعداء المعلنين و”الخبثاء”. مع أن اللحظة هي لحظته. هو حزبٌ يحمل السلاح، بعقيدة الجهاد الأبدي، يدمّر الدولة اللبنانية ومؤسّساتها، يغتال معارضيه، ويخوض حروبا إقليمية أكبر من حجم بلاده… وأمينه العام حسن نصر الله مهووسٌ بتدمير إسرائيل، يدّعي، منذ شهرين، أن إسرائيل ستزول في حال اندلعت حربٌ جديدة، يحتقر الحلول السلمية، لا يريد أقلّ من تحرير كامل فلسطين، والصلاة في القدس… إلخ.
هذا الحزب، جاءت لحظته المشتهاة: إسرائيل ضائعة، فاشلة، مسْتشرسة، والضحايا الفلسطينيون في غزّة بالآلاف، والجماهير العربية غاضبة متحمّسة، والرأي العام العالمي مع فلسطين، والإدارة الأميركية نفسها تشهد استقالات ونقدا من كبار موظفين لا يوافقون على سياسة رئيسهم المنحازة لإسرائيل، ودول عربية ليس اكتشافاً جديداً أنها متخاذلة، لكنها مفضوحة أيضاً… وسلاح الحزب ومخزونه ومهاراته القتالية، يفيد هذا كله بأن دخول الحزب في حربٍ مع إسرائيل قد يحقِّق أمنيات الصلاة في القدس… والحزب لا يدخل.
لماذا؟ ابحث أولا عن شركاء المحور وقادته. الشركاء، أي السوريون، واضح أنهم يتجنّبون الحرب. قبل هذه الحرب، كانت سورية تتلقى ضربات إسرائيلية شبه يومية، جديدها أخيرا على مطارَي دمشق وحلب. ولم تكن تردّ الا بالبيانات إياها. واليوم، بشّار الأسد يأمر جنوده وضبّاطه المنتشرين على الشريط الحدودي مع الجولان السوري المحتلّ، بعدم إطلاق أي رصاصة أو قذيفة نحو إسرائيل. رغم تمرير خبر حقيقي أو تعبوي، بأن أفراداً من مليشيا إيرانية، في مقدمتها حزب الله، اقتربت من الحدود مع الجيران، كأن الأسد ليس هو الحاكم.

حزب الله، بحسب أحد وجوهه الإعلامية، يقيس خطواته على الملّيمتر. هو يفكّر بطريقة عقلانية، بناء على استراتيجيته وعلى صورته

أما قادة المحور، فمندوبهم وزير الخارجية الإيراني، يروح ويجيء مكرّراً لازمة “ساعة” الحرب التي تنتظر المزيد من الأهوال. ولكن الإيرانيين، في الواقع، لا هم قادرون على الوقوف يتفرّجون على القضية التي صادروها واستثمروها عقودا، تضيع من بين أيديهم، تحترق “حماس” معها وأهل غزّة، ويُقتل أهل الضفة بلا حساب… ولا يفعلون غير تلك المناوشات البسيطة، لأنهم بذلك يخسرون “رصيدهم” الفلسطيني، وشرعية اختراقهم المجتمعات العربية بوكلائهم ومليشياتهم. ولا هم في المقابل، إذا أشعلوا تلك الحرب، سيكون سهلاً عليهم الخروج منها بمكاسب “إقليمية”، وبالمزيد من النووي. ولذلك يفضّلون ان تبقى الحرب محصورة بغزة.
والأرجح أن الذي أوقع إيران في هذه “المعضلة”، أنها كانت تُراهن على ردّة فعل أميركية أقل انحيازاً إلى إسرائيل، على أساس أن أميركا منسحبة من الشرق الأوسط لتركّز على الصين. وأن معركة إضافية مع درّته حزب الله، سيكون وبالاً عليها وعلى الحزب. فتتعقَّل إيران والحزب معها، وتصبح كل عملياته في الجنوب “مدروسة”. فالحزب، بحسب أحد وجوهه الإعلامية، “يقيس خطواته على الملّيمتر. هو يفكّر بطريقة عقلانية، بناء على استراتيجيته وعلى صورته”.
وفي النهاية، المعنيون بلحمهم ودمهم بهذه الحرب، أي الشعب اللبناني، حتى الذين خرجوا يتصدون للسفارة الأميركية في لبنان، يرمون عليها الحجارة، ويحرقون بيوتا ومتاجر لجيران هذه السفارة من اللبنانيين… هؤلاء اذهب اسألهم: هل يريدون الحرب مع إسرائيل؟ هل تفتح جبهة الجنوب. سيجيبونك: لا، لا يريدون حربا. اللبنانيون، وليس “نصفهم” فقط، بل من بيئة الممانعة نفسها لا يريدون الحرب. فهم يعلمون، والحزب يعلم بأن حربا كهذه لن تنتهي بانتصار، حتى لو احتفظ الحزب بسلاحه. ولن يكون هناك مجالٌ للاعتذار، كما فعل حسن نصر الله بعد “انتصاره” في حرب 2006: “لو كنت أعلم…”.  فساعتها لن يكون هناك لبنان ليُغفر له.