فيما تتواصل الفظائع في غزة، على الأميركيين خصوصًا أن يكرّروا جملةً بسيطةً لأنفسهم: حكومتهم متواطئة في إطالة أمدِ حربٍ تُقدِم خلالها حليفتها المقرّبة إسرائيل لإخضاعهم. إن الولايات المتحدة الأميركية، الركيزة المُفترضة للنظام الدولي القائم على القواعد، التي كانت سابقًا في طليعة عمليات التدخّل الإنساني حول العالم، باتت اليوم الجهة الراعية لحكومةٍ لا تبالي حتى بصون المبادئ الإنسانية الأساسية.

“جميع سكان غزة جائعون، أي 2.2 مليون إنسان تمرّ عليهم أيامٌ وليالٍ من دون أن يتناولوا أي طعام تقريبًا، بل أصبح من العادي إسقاط الوجبات من الحساب. البحث اليائس عن طعام لا يتوقّف للحظة، لكنه في معظم الأحيان لا يُسفر عن نتيجة، فيبقى السكان جائعين، بمن فيهم الرضّع والأطفال والنساء الحوامل أو المُرضعات وكبار السنّ”. هذا الايضاح  لم يصدر عن منظمة غير حكومية أجنبية أو عن الأمم المتحدة – وهما من الجهات التي توجّه إسرائيل عادةً حقدها عليها – بل عن منظمة “بتسيلم”، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلّة، وذلك في تقرير نشرته بعنوان صارخٍ: “إسرائيل تجوّع قطاع غزة”.

حذّر عددٌ كبير من المسؤولين في الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية من شبح المجاعة الذي يلوح في أفق غزة، المفوّض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)،  المقرّر الخاص للأمم المتحدة المعني بالحق في الغذاء،  المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي. ومع ذلك، لا تزال إسرائيل تمنع إدخال المساعدات الإنسانية الحيوية إلى القطاع، بما في ذلك شحنة المساعدات المقدَّمة إلى الأونروا، التي أبقاها وزير المالية الإسرائيلي اليميني المتطرّف بتسلئيل سموتريتش  كذلك، عمَدَ المتظاهرون الإسرائيليون عند معبرَي كرم أبو سالم (كيرم شالوم) والعوجة (نيتسانا) على مدى الشهرَين الماضيَين. وأظهر استطلاعٌ إسرائيلي أُجري بين 12 و15 شباط/فبراير أن غالبية الإسرائيليين، أي 68 في المئة منهم، إلى غزة.

 (حزيران/يونيو 1977) الذي أُلحق باتفاقيات جنيف، يُحظَّر تجويع المدنيين كأسلوبٍ من أساليب الحرب، ويُعَدّ ذلك جريمة حرب. وقد اعترف بالمسؤولية التي تتحمّلها إسرائيل مسؤولون في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، إذ صرّحت كامالا هاريس، نائب الرئيس الأميركي،  إن “الناس في غزة يتضوّرون جوعًا في مواجهة ظروف غير إنسانية. وإنسانيتنا المشتركة تُلزمنا بالتحرّك. لذا، يتعيّن على الحكومة الإسرائيلية بذل المزيد من الجهود لزيادة تدفّق المساعدات بشكل كبير. ومن دون أعذار”. على الرغم من مناشدات هاريس، واصلت إسرائيل ارتكاباتها المروّعة، مثل إقدامها  يوم الاثنين، ما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص.

بعد خمسة أشهر من المذابح في غزة، تُعَدّ الولايات المتحدة مسؤولة إلى حدٍّ بعيد عمّا يشهده القطاع. وتصريحات هاريس لا تعدو كونها محاولة جوفاء لتبييض صورة واشنطن، التي واصلت استخدام  المُطالِبة بوقف إطلاق النار في غزة؛متّهمةً فيها إسرائيل بارتكاب أعمال إبادة؛  التي يستخدمها جيشها لقصف المدنيين في غزة.

قد ينفر المسؤولون الأميركيون من اتّهامٍ كهذا، لكن إن كان الأمر كذلك، قد يكون من المفيد لهم الاطّلاع   في أيلول/سبتمبر 1982. آنذاك، سمح الجيش الإسرائيلي الذي بسط سيطرته على بيروت بدخول مقاتلي القوات اللبنانية إلى المخيّمَين وقتل مدنيين فلسطينيين، مع الإشارة إلى أن التقديرات تختلف حول أعداد الضحايا الذين سقطوا، وأرغم الغضب الدولي الذي أثارته هذه المجزرة إسرائيل على تشكيل لجنة أُطلق عليها اسم لجنة كاهان للتحقيق في ما حدث.

وفي إطار تحديد المسؤولية، خَلُصت اللجنة إلى أن إسرائيل تتحمّل مسؤولية غير مباشرة عن هذه الأحداث. وعبّرت عن ذلك بفقرة مُلفتة:

يجب ألّا ننسى، عندما نتعاطى مع موضوع المسؤولية غير المباشرة، أن اليهود في مختلف أراضي المنفى، وكذلك في أرض إسرائيل عندما كانوا تحت الحكم الأجنبي، عانوا من مذابح ارتكبتها ضدّهم عصابات مختلفة… وكان اليهود يعتبرون دائمًا أن مثل هذه الجرائم لا تقع فقط على كاهل من ارتكبها، وإنما أيضًا على أولئك الذين كانوا مسؤولين عن الأمن والنظام العام، وكان بإمكانهم الحؤول دون وقوع الاضطرابات، لكنهم لم يقوموا بواجباتهم في هذا الصدد.

لماذا يكتسي ذلك أهمية؟ لأن الحرب في غزة أثارت دوّامة قانونية شملت احتمال ارتكاب أعمال إبادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضدّ الإنسانية. وإن كانت الولايات المتحدة متورّطة، وفشلت في منع الجرائم حين أمكنها ذلك، سيُفضي هذا الأمر إلى عواقب كبرى. منذ بداية الصراع، تجاوز الإسرائيليون في ردّهم على هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر حدود الدفاع عن النفس، للتصدّي إلى مخاوفهم الجوهرية المرتبطة بالفلسطينيين. وانطوى ذلك على  من خلال السعي إلى تهجير سكان القطاع إلى مصر، وبالتالي الحدّ من التفوّق الديموغرافي للفلسطينيين على اليهود الإسرائيليين. بالضغط على مصر لقبول الفلسطينيين في أراضيها. وعندما فشلت هذه الخطة، أمعن الإسرائيليون في تحويل القطاع إلى ،أما في ما يتعلق بقضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية، فقد عبّر الأميركيون عن رفضهم هذا الاتّهام، حتى بعد صدور ، والذي جاء فيه: “على ضوء الاعتبارات المُبيَّنة أعلاه، ترى المحكمة ضرورة ملحّة، بمعنى أنّ ثمة خطرًا حقيقيًا ووشيكًا بإلحاق ضررٍ لا يمكن إصلاحه بحقوقٍ وجدتها المحكمة معقولة، قبل أن تُصدر قرارها النهائي في القضية”. بعبارة أخرى، أكّدت المحكمة على ضرورة ضمان عدم المساس على نحو لا يمكن إصلاحه بحقوق الفلسطينيين بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية، بما معناه أن قضية جنوب أفريقيا كانت معقولة. ردًّا على ذلك، اصرت امريكا لى “[أنّنا] لم نرَ أي مؤشرات تُثبت نية الإبادة أو ارتكابها لدى الجيش الإسرائيلي”. ولم يكن لذلك قيمة، على نحو غريب، إذ لم يكترث كثرٌ فعليًا لتفسيرات الأميركيين، لأن كل ما قالوه كان سياسيًا بوضوح وليس قانونيًا.

إذًا، في حوزة الولايات المتحدة الوسائل اللازمة لمنع إسرائيل من مواصلة حربها في غزة، لكنها لم تحرّك ساكنًا. باستطاعتها وقف شحنات الأسلحة إلى إسرائيل وإرغام الإسرائيليين على القبول بوقف إطلاق النار، لكنها عمَدَت بدلًا من ذلك إلى عرقلة جميع الاقتراحات الرامية إلى تحقيق وقفٍ دائمٍ لإطلاق النار في غزة. وبإمكانها كذلك دفع إسرائيل إلى تطبيق القرار المؤقت الصادر عن محكمة العدل الدولية، لكنها حاولت عوضًا عن ذلك تشويه مصداقية الحكم. لقد أقرّت واشنطن بأن إسرائيل، على أقل تقدير، تحدّ من دخول المواد الغذائية إلى غزة، وهي ممارسةٌ وصفتها حتى المنظمات الإسرائيلية بأنها سياسة تجويع، لكنها استمرّت في إبداء دعمها العلني للمسؤولين عن هذه الأفعال الشائنة.

وقد تصرّفت الولايات المتحدة بهذا الشكل على الرغم من معرفتها أن إسرائيل ترتكب منذ البداية جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية،  والسعي إلى تنفيذ تطهير عرقي بحق سكان غزة. لذلك، حتى إذا كان هذا الاتهام قاسيًا، على الأميركيين التفكير مليًا في ما إذا كانوا مستعدّين للمضي قدمًا بسياسة التساهل المتقاعِس هذه، وربما مواجهة اتّهامات قانونية يومًا ما بضلوعهم في عمليات القتل الجماعي في غزة.