في زيارة آموس هوكشتاين الثالثة للبنان منذ هجوم “طوفان الأقصى” واندلاع المواجهات بين إسرائيل و”حزب الله” على خط الحدود، شهدت جبهة الجنوب اللبناني تغيّرات كبرى. استأنف المبعوث الأميركي مهمته لتهدئة الوضع وإطلاق التفاوض لتطبيق القرار 1701 في ظل متغيّرات على الجبهة وفي المعركة المحتدمة التي بات “حزب الله” يعتبرها لحماية لبنان ومنع إسرائيل من تنفيذ هجوم على لبنان على شاكلة غزة، بعدما كانت للمساندة ودعم حماس.
حمل هوكشتاين أوراقه إلى لبنان قبل أن ينتقل إلى تل أبيب، على وقع حرب إسرائيلية باتت أشد شراسة وعدوانية عبر التصعيد المتمادي بالقصف والتدمير والاغتيالات لفرض أمر واقع في القرى الحدودية يمنع عودة الأهالي إلى منازلهم، وهو ما يعني إطالة أمد الحرب، بغض النظر عن أي هدنة محتملة في غزة. فقد نفذت إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة الفاصلة عن زيارة هوكشتاين السابقة ضربات تدميرية للقرى الحدودية أدت إلى تهجير ما تبقى من مواطنين، وهي ستستغلها في أي مفاوضات محتملة حول القرار 1701.
وتأتي هذه الخطة الإسرائيلية لفرض أمر واقع قد يحدّد مسار وساطة هوكشتاين وأجندته في المرحلة المقبلة، أي تحقيق هدف المنطقة العازلة بالقوة عبر إفراغ القرى بحيث تصبح عودة النازحين اللبنانيين شبه مستحيلة إلا بشروط تبدأ بانسحاب “حزب الله” من المنطقة، وهو أمر يرفضه “حزب الله” حتى الآن، ما يعني أن الحرب قد تستمر وتتوسع أقله في منطقة جنوب الليطاني، مع استهدافات في العمق اللبناني.
في الحرب المندلعة ضمن قواعد اشتباك باتت تختلف عن السابق أقله من إسرائيل، علماً أن “حزب الله” استخدم أسلحة جديدة في بعض العمليات، إلا أنه بقي يعتمد على الصواريخ المضادة للدروع مع عمليات ينفذها بالطائرات المسيّرة، كثّف الإسرائيليون عمليات التدمير ضمن خطة باتت واضحة وممنهجة، وقد تشكل بديلاً من الحرب الشاملة، فباتوا يستهدفون أحياءً بكاملها وتدميرها، وهدفهم تهجير ما تبقى من أهالٍ في المنطقة الحدودية، وللقول لسكان المستوطنات إنهم يبعدون مقاتلي “حزب الله” من القرى المتاخمة للحدود. وقد يكون هذا التدمير هو بروفة لسيناريو هجوم بري عبر جعل المنطقة أرضاً محروقة تهيّئ للاجتياح الإسرائيلي.
وإذا كانت زيارة هوكشتاين جاءت أيضاً وسط انقسامات إسرائيلية، لا سيما بعد زيارة بني غانتس للولايات المتحدة وبريطانيا رغم رفض بنيامين نتنياهو لها، إلا أن الجبهة الإسرائيلية الداخلية لا يبدو أنها تختلف على الموقف من الحرب، لذا جاء هوكشتاين في ظل ارتفاع سقف الشروط الإسرائيلية عبر التصعيد وتكثيف الضربات العسكرية والأمنية ضد “حزب الله” الذي لا يزال يرد ضمن قواعد اشتباك مضبوطة، على الرغم من استهداف إسرائيل لمراكزه واغتيال كوادره. ويعني ذلك أن المبعوث الأميركي طرح اقتراحاته للتفاوض على وقع تغيّر المعادلة جنوباً، إذ إن جولاته السابقة كانت تركز على مدى التزام “حزب الله” بوقف النار، وفصل الجبهتين، فيما تعلن إسرائيل اليوم عدم التزامها بوقف الحرب على جبهة لبنان حتى مع أي وقف لإطلاق النار في القطاع.
تواجه مهمة هوكشتاين تحديات كبيرة لتثبيت التهدئة على جبهة الجنوب وإطلاق المفاوضات، ليس نحو لبنان تحديداً، ما دام “حزب الله” قد أعلن أنه سيلتزم بوقف إطلاق النار إذا وافقت “حماس” على الهدنة، إنما مع إسرائيل التي ترفع سقف شروطها وتهدد بالحرب. فعلى الرغم من أن جبهة لبنان باتت مرتبطة بغزة، انطلاقاً من معركة مساندة حماس التي قررها “حزب الله”، وتوسع الحرب الإسرائيلية إلى مناطق بعيدة، إلا أن الهدنة في القطاع إذا اكتملت بنودها، قد لا تشمل جبهة لبنان، وهو أمر أعلنه عدد من المسؤولين الإسرائيليين تحت عنوان أن لا وقف للنار من دون عودة المستوطنين إلى منازلهم في شمال إسرائيل، وأيضاً أشار إليه هوكشتاين خلال تصريحاته في بيروت. وما يعزز احتمالات استمرار الحرب على جبهة لبنان، هو انسداد الأفق حول التفاوض لتطبيق القرار 1701 بفعل الشروط المتبادلة.
الواقع أن هوكشتاين لم يطرح تطبيق القرار 1701 كاملاً أو مباشرة، إذ إن ذلك يحتاج إلى مقدمات وتفاهمات وقبل كل ذلك التهدئة والتفاوض، لكنه يريد أن يؤسس لتطبيق القرار الدولي من خلال جملة تعهدات تبدأ بوقف إطلاق النار بغض النظر عما يحدث في غزة، والعمل على تثبيت التهدئة وإعادة النازحين على جانبي الحدود، ثم إطلاق التفاوض لتطبيق مندرجات الـ1701 وصولاً إلى ترسيم الحدود.
أثار كلام هوكشتاين من أن هدنة غزة قد لا تنسحب على لبنان، مخاوف من انزلاق الأوضاع نحو الحرب، لكن المبعوث الأميركي الذي يعمل على أكثر من ملف حول لبنان، كان يقصد بوضوح أن جبهة لبنان مع إسرائيل باتت مفتوحة، بما يعني أن لا عودة إلى ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وبالتالي باتت الشروط واضحة لوقف الحرب إسرائيلياً بمعزل عن غزة أي انسحاب “حزب الله” أو سحب أسلحته من المنطقة جنوب الليطاني أو منطقة لا يعود ممكناً فيها استخدام الأسلحة المضادة للدروع.
تخفي جولة هوكشتاين بعض التفاصيل المتعلقة بتسوية الوضع في الجنوب، وبينها قد يفسر بأنه رسائل تهديد واضحة أو تحضير للبنان من مغبة استمرار المواجهة والتصعيد جنوباً. ومن ضمن التفاصيل أو ما يحكى عن اقتراحات، وقف العمليات العسكرية لـ”حزب الله” في الجنوب ومختلف الأنشطة المرتبطة بها في منطقة عمل قوات “يونيفيل” الدولية وسحب الأسلحة الثقيلة إلى مناطق شمال الليطاني. فيما يطالب لبنان و”حزب الله” بتطبيق إسرائيل للقرار الدولي ووقف الطلعات الجوية والخروقات في سماء لبنان، لكن وقف الحزب لعملياته مرتبط بوقف إطلاق النار في غزة، وهو ما يعني أن لا فصل أقله حتى الآن بين الجبهتين.
بالنسبة لهوكشتاين لا يمكن تطبيق القرار 1701، قبل وقف إطلاق النار وتهدئة الجبهة وإطلاق آليات التفاوض حول النقاط الحدودية، أي الوصول إلى تفاهم يجنّب لبنان الحرب. وهذا يستدعي وقف “حزب الله” عملياته والاتفاق على نشر الجيش اللبناني على طول الحدود في سياق تفاهمات تؤسس للمرحلة المقبلة. ويدرك هوكشتاين مع استئناف مهمته أن الوضع على جبهة الجنوب بين “حزب الله” وإسرائيل” قد يفجر الحرب الكبرى، ولا يمكن أن يستمر على هذا المنوال إلى ما لا نهاية، ما لم يحصل تفاهم على آليات تفاوضية لا تزال مقفلة فعلياً، خصوصاً في ما يتعلق بالقرار 1701 الذي يشكل قاعدة للانطلاق نحو معالجة المشكلات الحدودية بين لبنان وإسرائيل. أما في حال التوصل إلى هدنة في غزة وانسحبت على جنوب لبنان، فإنها قد لا تؤدي إلى الاستقرار ما لم تفتح المفاوضات مسار حل سياسي يبدأ بتطبيق القرار الدولي من الجانبين.
تصطدم خطة هوكشتاين بالوضع الميداني الذي يشير حتى الآن إلى توسع العمليات العسكرية الإسرائيلية، فالضغوط الأميركية تمنع توسع الحرب فقط في حال موافقة الأطراف على الانتقال إلى مرحلة المفاوضات، وهي مرحلة صعبة بفعل ما رسخته إسرائيل من معادلة تمنع العودة إلى مرحلة ما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. لذا تبرز مخاوف من احتمال تكثيف العمليات الإسرائيلية قبل الوصول إلى اتفاق يرسي التهدئة ويؤسس للتفاوض. ورغم ذلك يبقى الرهان اللبناني الوحيد اليوم على الوساطة الأميركية بمعزل عن كل المبادرات الدولية للحل، إذ إن لدى الأميركيين القدرة على الضغط وإن كانت واشنطن تأخذ بالاعتبار مصالح إسرائيل وأمنها. لكن ذلك الرهان يرتبط بتكريس التهدئة وإطلاق المفاوضات، إذ لا حل فعلياً من دون تطبيق القرار الدولي 1701، ليس لوقف الحرب فقط بل لتحقيق حل مستدام، يبدأ بقبول “حزب الله” بالتفاوض وإفساح المجال أمام دخول الجيش اللبناني وتعزيز قوات اليونيفيل، بالتوازي مع وقف الخروق الإسرائيلية، وصولاً إلى التفاوض، وإن كان لذلك حسابات إقليمية ودولية.