تشهد مناطق شمال غربي سورية، منذ بداية شهر مارس/آذار الحالي، احتجاجات وتحركات واسعة ضد سلطة “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقاً) بقيادة أبو محمد الجولاني، تمثلت أمس الجمعة في مشاركة الآلاف بما وصف احتجاجات ضد تحرير الشام  في منطقة إدلب وريف حلب.

ورصدت “العربي الجديد” خروج احتجاجات ضد الجولاني في 10 نقاط على الأقل في منطقتي إدلب وريفها وريف حلب، أكبرها في مدينة بنش بريف إدلب الشرقي، حيث طالب المتظاهرون بإطلاق سراح المعتقلين من سجون الهيئة وتبييض السجون، وتعزيز الحرّيات، وتحسين الخدمات. كما ردّدوا هتافات تطالب برحيل الجولاني، وتشكيل هيئة حكم مشتركة من كل الفصائل، لإدارة مناطق المعارضة في الشمال السوري، كمنطقة واحدة.

وتزامنت الاحتجاجات ضد “هيئة تحرير الشام” مع قرار “اللجنة القضائية” التي شكلتها الهيئة ابو ماريا القحطاني (عراقي الجنسية)، عضو مجلس الشورى والقيادي في الصف الأول، بعد اعتقاله لمدة 6 أشهر على خلفية ملف “العمالة”، وهو أحد أبرز مؤسسي “جبهة النصرة” بعد تبرئته من تهمة العمالة.

عودة القحطاني

وقالت اللجنة في بيان لها، إنه “بعد اطلاع اللجنة على قضية المتهمين بالعمالة، وبعد ثبوت براءة من كان موقوفاً في هذه التهمة، ولأن الموقوف: ميسر الجبوري – أبو ماريا القحطاني – تم توقيفه بناءً على شهادات وردت من موقوفين على هذه التهمة، ولأن الدليل الذي أوقف لأجله ظهر للجنة بطلانه، ولم تكتف اللجنة بدليل الإيقاف، بل اطلعت على أدلة أخرى قدمت من مدعين وبعد النظر فيها، قررت اللجنة براءة المدعى عليه من تهمة العمالة، والإفراج عنه”.

يردد المتظاهرون هتافات تطالب برحيل الجولاني

وكانت “هيئة تحرير الشام”، صلاحيات القحطاني، وهو أحد الأشخاص البارزين الذين اعتمد عليهم زعيم “تحرير الشام” أبو محمد الجولاني، في تأسيس “جبهة النصرة” (سابقاً)، ضمن منطقة إدلب، شمال غرب سورية. وأكدت الهيئة في بيانٍ لها حينها، أن اسم القحطاني ورد في بعض التحقيقات التي أجريت أخيراً، وأنه تبين للجنة المكلفة أن أبو ماريا القحطاني قد أخطأ في إدارة تواصلاته من دون اعتبار لحساسية موقعه أو ضرورة الاستئذان وإيضاح المقصود من هذا التواصل”، مشيرة إلى أن اللجنة أوصت بتجميد مهامه وصلاحياته.

ويعد القحطاني الرجل الثاني في الفصيل، ويقدم عادة من جانب أنصار “تحرير الشام” على أنه عالم دين، لكنه كان يتسلم مهام قيادية فعلية على أرض الواقع، خصوصاً في مواجهة تنظيم “داعش” الذي حاربه فكرياً وعسكرياً.

واعتقل إلى جانب القحطاني مئات العناصر وعدد من القيادات داخل صفوف الهيئة، قسم منهم بتهم العمالة للاستخبارات الأميركية والتحالف الدولي، وآخرون بالعمالة لروسيا والنظام السوري، لكن جرى تبرئة وإطلاق سراح معظمهم، ومنحت بعضهم مبالغ مالية تعويضاً عن فترة الاعتقال، وفق بعض المصادر، خصوصاً بعد أن ظهرت علامات التعذيب على معظم المفرج عنهم.

وكانت وفاة عنصر من فصيل “جيش الأحرار” في سجون “تحرير الشام”، الشرارة التي أشعلت التظاهرات في إدلب. ولم ينجح “العفو العام” الذي أصدرته “حكومة الإنقاذ” التابعة لـ”تحرير الشام” الثلاثاء الماضي، في تهدئة الاحتجاجات التي وصلت إلى حدّ المطالبة برحيل زعيم الهيئة، الجولاني. واستثنى العفو “جرائم الحدود والقصاص والخطف والسطو المسلح، والسرقة التي تزيد عقوبتها على الحبس لمدة ثمانية أشهر، ويزيد تعزيرها المالي على ألف دولار أميركي، وترويج المخدرات والاتجار بها، وتزوير العملة وترويجها”.

وكانت اندلعت احتجاجات في مناطق سيطرة الهيئة مطلع مارس، وذلك بعد صلاة الجمعة في كل من مدينة إدلب وريفها والقاطنين في مخيمات دير حسان، وبلدة أطمة في ريف إدلب، وبلدة السحارة بريف حلب الغربي، مع ملاحظة أنها من المرّات النادرة التي تخرج فيها تظاهرات ضد الهيئة في مدينة إدلب، إذ كانت تقتصر سابقاً على أرياف المحافظة، وريف حلب.

فاعلون محليون في الاحتجاجات ضد “هيئة تحرير الشام”

وحول مآلات هذه الاحتجاجات ضد “هيئة تحرير الشام”، ومستقبل الوضع في إدلب، قال الباحث في الشؤون الإسلامية الدكتور عرابي عرابي، لـ”العربي الجديد”، إنه “في البداية علينا التساؤل: لماذا خرج القحطاني من السجن؟ هل ثبتت عليه تهمة العمالة وأخرج لتحقيق توازن ما، أم أن التهمة كيدية؟”.

التظاهرات الحالية هي من المرات النادرة التي تخرج فيها تظاهرات ضد “الهيئة” في مدينة إدلب

وأضاف: “إذا ثبتت التهمة، وأخرج على الرغم من ذلك، فهذا يعني تحييده ومصادرة صلاحياته، وإذا لم تثبت عليه التهمة، يمكن أن يعود إلى بعض مسؤولياته”، لافتاً إلى أن مسألة “العمالة حصلت فيها ضغوط كثيرة من جانب الكتل الداخلية في الهيئة والقادة العسكريين لحلحلة هذا الملف، خصوصاً بعد الانتهاكات الواسعة ضد المعتقلين، وتغول الأمنيين على العسكريين، بهدف إزاحتهم من المشهد”. وتوقع أن تسعى الهيئة إلى “حلحلة الوضع وتنفيس التظاهرات التي تحصل، لأن الشارع يغلي منذ سنوات بسبب الانتهاكات ضد الناشطين والصحافيين”.

وتوقع عرابي أن يقابل تكثيف التظاهرات من قبل الهيئة بمحاولة “التشويش عليها عبر تنظيم تظاهرات مضادة، أو تفريق المتظاهرين، إضافة إلى التركيز على فكرة أن التظاهرات فئوية تقف خلفها مجموعات لها ثأر مع الهيئة وليست تظاهرات شعبية، مع محاولة استقطاب الناشطين المدنيين ووعدهم بإصلاحات، وإظهار جدية الهيئة في هذه الاصلاحات خصوصاً في مجال القضاء وحرية التعبير وتقديم المزيد من الخدمات للمواطنين”.

من جهته، اعتبر باحث يقيم في إدلب، فضل عدم ذكر اسمه، في حديث مع “العربي الجديد”، أن “أول من يقف وراء التظاهرات هي الهيئة نفسها التي سيطر عليها في الفترة الماضية “غرور التجبر” وتغول أمني ونزوع للسيطرة على مختلف نواحي الحياة لتحقيق منافع اقتصادية”.

الاحتجاجات تقف خلفها عدة فئات، منها الشباب الثوريون وحزب التحرير وفاعلون من الفصائل وناشطون محليون

وأضاف أن الاحتجاجات تقف خلفها عدة فئات، “أولهم شباب ثوريون التهميش والظلم ، ولم يعودوا يقبلون أساليب القمع للحريات، وهناك أيضاً حزب التحرير وهو فاعل مهم فيها”. أما تظاهرات شمال حلب، برأيه، “فيقف خلفها فاعلون من الفصائل، في حين يحرك تظاهرات إدلب، إضافة إلى الناشطين المحليين، الفاعلون من بعض الفصائل، خصوصاً من حركة أحرار الشام، وهو ما يظهر بوضوح في مدينة بنش التي ما تزال تحتفظ بوجود قوي لأحرار الشام رغم وجود هيئة تحرير الشام”.

ولفت الباحث إلى أن لحزب التحرير “قدرة كبيرة على تنظيم الاحتجاجات خلافاً للناشطين المدنيين الذين لا تجمعهم قيادة موحدة”. وتوقع انخراط بعض القوى الأخرى في الاحتجاجات مثل جماعة “حراس الدين” الذين لهم حساب قديم مع “تحرير الشام” حيث اعتقلت منهم الكثيرين في أوقات سابقة.

وأشار الباحث إلى أن العنصر الشعبي المعارض حقيقةً للهيئة من منطلقات وطنية، هو الأقل تنظيماً، بينما المعارضون الفصائليون، هم الأكثر تنظيما، لكنهم غير مقبولين في الشارع أيضاً. ورأى أن التظاهرات لن تتحول إلى حركة شعبية، طالما تم امتطاؤها من جانب فصائل مكروهة شعبياً، أكثر حتى من “تحرير الشام” نفسها.
وبالنسبة لتأثير إطلاق سراح القحطاني على حركة الاحتجاجات، توقع الباحث أن تتوسع هذه الاحتجاجات خلال الأسابيع القليلة المقبلة، “لكنها لن تتحول إلى حراك شعبي واسع للأسباب التي ذكرناها”. ولفت إلى أن القحطاني يدرك أن مصيره مرتبط بمصير الهيئة، ولن ينخرط في أي حراك يهدد مصيرها.

وحول مصير الحراك، رأى أن الهيئة ستحاول الالتفاف عليه بكل الأساليب المتاحة، لكن في حال تطور وتصاعد، قد تقدم على تغييرات شكلية في قيادتها، محذراً الشباب المندفعين من إحراق مراكبهم، لأن الهيئة “لن تسلم الحكم إلا بإراقة الدم”، كما حذر من العواقب السلبية لركوب الحراك من جانب قوى فصائلية مكروهة في الشارع.

من جهته، أعرب الدكتور الباحث محمود السايح عن اعتقاده أن الكرة تتدحرج في مناطق سيطرة “تحرير الشام” والتصعيد وارد جدا بالتزامن مع رفع مستوى المطالب أيضا. ورأى في حديث مع “العربي الجديد” أن استجابة قيادة “تحرير الشام” ما زالت أقل بكثير من قدرتها على احتواء الأوضاع، وأنه لا يمكن للمحتجين العودة إلى الوراء، أو إنهاء احتجاجاتهم من دون تحقيق كل أو معظم مطالبهم. وقال: “الأيام حبلى، ويبدو أن هناك ولادة جديدة في المخاض العسير”.