عن راهنية حنة أرندت ومفهومها للشر
حنة آرندت (Getty)
تعدُّ المفكرة الأميركية، الألمانية الأصل، حنة أرندت، من أبرز مفكري القرن العشرين، وذلك بالنظر إلى ما تركته من بصمات في الفكر السياسي، من خلال إسهاماتها النظرية في تطوير مقاربات عن السلطة والحكم والأنظمة والحرية والثورة والشر والعنف وما بعد الاستعمار، وسوى ذلك، حيث كان لها قولها الفلسفي في الأحداث الجسام التي عصفت بالقرن العشرين المنصرم، الذي شهد نشوب حربين عالميتين، وصعود أنظمة استبدادية وشمولية، ممثلة بالنازية والستالينية مثلًا. وقد رأت في نفسها مفكرة سياسية تستقي فلسفتها من تجارب الحياة، وفق فسحات التفكير الحر.
لم تنظر أرندت إلى نفسها بوصفها يهودية، أو ألمانية، أو أميركية، حيث أكدت في أكثر من مناسبة أنها لم تشعر بانتمائها إلى شعب معين، بل إن ذلك هو دليل تحرر بالنسبة إليها، ما يعني أن أصولها اليهودية كانت تعود إلى إحدى حقائق الحياة، إلا أنها تختلف عن وجهة نظرها، وموقفها في الحياة، وعن رؤيتها العلمانية والإنسانية. ووفق هذا المنظور، لم توفر جهدًا في الدفاع عن حرية الإنسان، وتعرية وفضح كل ما يهدد الإنسانية، الأمر الذي اتسق مع وقوفها ضد الصهيونية ومشروعها الاستيطاني، على الرغم من انتمائها اليهودي، كما أنها لم تتوانَ عن فضح تواطؤ قادتها مع النازيين في قتل اليهود، وعن انتقاد إسرائيل ومواقف ساستها، حيث رأت أن قيام الدولة اليهودية يجري وفق نهج إبادة للشعب الفلسطيني، واقتلاعه من أرضه. وهو ما يستكمله في أيامنا هذه ساسة إسرائيل وجنرالاتها في حربهم الراهنة على الفلسطينيين في قطاع غزة.
ولدت أرندت في ليندن (تابعة لمقاطعة هانوفر حاليًا)، في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1906، لعائلة يهوديَّة. ونشأت في بيئة علمانية تقدمية، إذ كانت والدتها من أشد المؤيدين للديمقراطيين الاجتماعيين. أكملت تعليمها حتى المرحلة الثانوية في برلين، ثم التحقت بجامعة ماربورغ لتدرس الفلسفة على يد أستاذها الفيلسوف مارتن هيدغر (1889 ـ 1976)، الذي كان له أثره البالغ على فكرها وحياتها، ونشأت بينهما علاقة حبّ شائكة أنهتها أرندت لإدراكها استحالة استمرارها، لتتحول إلى علاقة صداقة ومودة متبادلة، لكن مشاعر الحبّ لم تمت بينهما، وبقيا يتبادلان الرسائل لسنوات عديدة. بعد عام من الدراسة في ماربورغ، انتقلت إلى جامعة فرايبورغ، حيث درست تحت اشراف الفيلسوف كارل ياسبرز (1881 – 1969)، الذي جمعته معها صداقة فكريَّة وشخصيَّة دامت سنوات طويلة، وحصلت على شهادة الدكتوراة عام 1929، عن أطروحة حملت عنوان “مفهوم الحب لدى القديس أوغسطين”. وفي عام 1933، هربت من ألمانيا إلى فرنسا، ثم انتقلت في عام 1941 إلى الولايات المتحدة الأميركيَّة، وبقيت فيها حتى وفاتها بأزمة قلبية في 4 ديسمبر/ كانون الأول 1975.

تركت أرندت مؤلفات عديدة خلفها، أبرزها كتاب “أسس التوتاليتاريَّة” (1951)، و”الحالة الإنسانية” (1958)، و”بين الماضي والمستقبل” (1961)، و”في الثورة” (1963)، و”أيخمان في القدس… تقرير عن تفاهة الشر” (1964)، و”رجال في الأوقات المظلمة” (1968)، و”عن العنف” (1970)، و”حياة العقل” (1978).
تحظى أطروحات أرندت براهنية متجددة، نظرًا إلى دورها الهام في تعرية الفكر السياسي السائد، خاصة في دوائر التفكير وصنع القرار الغربي، ومحاولتها تأسيس نمط جديد من التفكير، من دون مقيدات أيديولوجية، أو دينية، أو التفكير المختلف، القادر على التفكير بالآخر، وتتسيده الحرية والفعل واحترام حقوق الإنسان. والأهم هو أن أرندت انحازت إلى السياسة، أو بالأحرى إلى التفكير السياسي، على خلفية ارتباطها بقضايا عصرها، حيث قدمت إسهامات كثيرة اتسمت بأطروحات نظرية نقدية لما هو سائد في النظرية السياسية، اعتمادًا على تحليل الفكر السياسي في العصر الحديث، وربطه بمختلف التأثيرات الوجودية التي تبحث عن مساحة للحرية للعدالة والفعل الأخلاقي، عادة أن الفعل هو أساس النظريَّة السياسيَّة. وقد تناولته بإسهاب من خلال تقديمها أطروحاتها عن الحرية، والمشاركة، والحوار، باعتبار أن كلًا من الفعل والسياسة لا يمكن تصورهما إلا بوجود الحرية، وبالتالي، لا يمكن فهم أي قضيَّة سياسيَّة، ضمنًا أو علانية، من دون تلمُّس قضية حرية الإنسان، فضلًا عن أن الحرية ليست فقط مجرد قضية، وإحدى ظواهر عالم السياسة، بل من دونها تغدو الحياة السياسية فاقدة المعنى والمبنى، ما يعني أن الحرية هي سبب وجود السياسة، وحقل تطبيقها هو الفعل، وبالتالي، فإن مسائل المواطنة والمشاركة السياسية، تحكمها علاقة وطيدة بين الفعل السياسي، المتمثل في المشاركة السياسية للمواطنين في المجال العمومي، والقوة السياسية الفعَّالة الناجمة عن هذا الفعل، ما يعني أن المشاركة السياسية المباشرة للأفراد، والنقاش المشترك بينهم في الشأن العام، هما أساس المواطنة والتجسيد الفعلي لمبدأ التقاسم أو المشاركة في السلطة.

رفضت أرندت لقب فيلسوفة، وكانت تفضل لقب “متخصصة في النظرية السياسية”، ويُرجع بعضهم ذلك الرفض إلى علاقة هيدغر الملتبسة بالنازية، وما يشاع عن تأييده لها، ما جعلها ترى أن الفلسفة لم تمكن فيلسوفًا كبيرًا مثل هيدغر من استجلاء حقيقة النازية. لكنها تمكنت من أن تنتزع من الفيلسوف الكبير اعترافًا بأنه ارتكب خطأ في مرحلة شبابه، وكان مضللًا سياسيًا بتبني أفكار الاشتراكية القومية، لذلك ظلَ يشعر طويلًا بخيبته المؤلمة وبعذابه الداخلي. وذهبت إلى أبعد من ذلك في موقفها من الفلسفة الغربية، من خلال إشارتها إلى أن هذه الفلسفة في بعض تمظهراتها، تواطأت مع أنظمة الاستبداد والشمولية.

كانت نقطة الانطلاق في فلسفتها هي تجارب الحياة التي عاشتها وعاشها سواها من البشر، وتسخير العدة المعرفية لتعرية الأنظمة الشمولية والاستبدادية، من خلال التركيز على مبدأ الفعل، القائم على الخوف، والذي يُدير علاقات السلطات مع الأفراد في ظل الأنظمة المستبدة، فيما تخضع الأنظمة الشمولية إلى قوانين خارجة عن الفعل الإنساني، بوصفها قوانين أيديولوجية، تتجسد في قوانين الطبيعة في الحالة النازية، وقوانين التاريخ والحتميات في الحالة الستالينية.
كان الاشتغال الفلسفي منصبًا على التنظير لمشكلة الشر، اعتمادًا على الفكر السياسي، وليس على الفلسفة السياسية، أو الأخلاقية فقط، حيث تناولت أرندت مفهوم الشر من منظور سياسي، بالافتراق مع جميع التفسيرات اللاهوتية والقيمية، وشكل محور انشغالها وتفكيرها بوضع الإنسان الحديث، حيث ركزت على أن الشر لا يرتبط بأي نزعة ميتافيزيقية، وليس له أي مستند يحيل إلى مبادئ مطلقة، تنهل من المقدس أو الديني، بل ينهل مما هو إنساني، ويقترن بخروج الإنسان من إنسانيته حينما يقترفه، وبالتالي، يرتبط بغياب تطابق الإنسان مع ذاته، وبما يجعل الفرد يعيش تمزقًا بين الإنساني واللا إنساني، وبما يفضي إلى صعوبة الإمساك بمعنى الشر وفهم دلالات مفهومه، كونه غير قابل للفهم، أو بالأحرى يتعارض معه، وعليه، يرتبط الشر السياسي بأزمات العالم الحديث، حسبما جسدتها الأنظمة الاستبدادية والتوتاليتارية، ويمكن أن نضيف لها الأنظمة العنصرية وأشباهها، لأنها جميعًا كانت نتاج تصحر الوضع البشري في القرن العشرين، بصفته قرن الحروب والثورات، أو بالأحرى قرن انتشار العنف، لكن المؤسف هو أن من ينظر في قرننا الحالي، يجد أنه لم يختلف كثيرًا عن سابقه.
إذًا، ارتبطت مشكلة تفسير الشر بالبحث عن مسبباته السياسية، ممثلة بالإشكاليات والأزمات السياسية في العالم الحديث، وبالابتعاد عما سعت إليه الأديان، ومحاولتها تسويق أن الشر ملازم للطبيعة البشرية، كونه متوارثًا عن الخطيئة الأولى، وعما ذهبت إليه بعض اتجاهات الفلسفة الأخلاقية، في محاولتها تفسير الشر عبر إرجاعه إلى أصل الطبيعة البشرية، والزعم بأنه متأصل في الوجود البشري، فيما لم تتوان أرندت عن إرجاعه إلى أصله السياسي، بوصفه عملًا مبتذلًا أو لنقل تافهًا، حينما يتعلق الأمر بالأفراد، بينما ترجع المسؤولية الكبرى عنه إلى الأنظمة السياسية، الاستبدادية والشمولية والعنصرية، وأن الفرد يمارسه نتيجة خلل في تفكيره، كونه غير قادر على التفكير بما يحدث للآخرين، أو كما تصفه “المقاومة الدائمة لتخيل ما يمرّ به شخص آخر”، والذي جسده ما فعله الضابط النازي أدولف أيخمان، بوصفه نموذجًا، أو مجرد فعل تافه وعادي جدًا، وبالتالي، يجد الشر مرجعه عند اجتراح مفهومه السياسي، حيث لا يعود سببه إلى فاعله المباشر، الذي يتحول إلى مجرد وسيلة تنفيذية لنظام سياسي، يمارس سياسة إقصائية، تنهض على الرفض وإقصاء الآخر، ولا تعترف بمشاركة الأرض مع من يقطنها، إنه حالة غياب للاعتراف بالغير، وانعدام القبول بالتشارك مع الآخر.

بناء على ما سبق، ينطبق مفهوم الشر بحدوده القصوى على ما تمارسه إسرائيل من عدوان سافر وبشع، في أيامنا هذه، ضد الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، وبهذا المعنى تتجلى الراهنية التي تحظى بها أفكار أرندت، إذ لا يتعلق الأمر برفض أرندت لسردية الدولة الصهيونية، وتعريتها، بوصفها مشروعًا إحلاليًا استيطانيًا، جرى تنفيذه ـ وما يزال ـ على حساب اقتلاع الشعب الفلسطيني، بل بوصفها ممارسة قصوى لكل أنواع الشر، ليس من خلال عجز أفراد جيشها عن التفكير بما يحدث للآخرين، المحاصرين أصلًا، والذين تمنع عنهم الدواء والغذاء والماء والكهرباء، بل بشنها حرب إبادة جماعية ضدهم، تعد جريمة حرب وفق القانون الدولي والإنساني، وتقع مسؤوليتها على كاهل نظامها السياسي وجنرالات حربها، أولئك العنصريون المتغطرسون، الذين فقدوا الإحساس والضمير الإنساني، وأشادوا نظامًا يقوم على صناعة القتل، ولا يختلف كثيرًا عن نظام هتلر النازي.