لا تظهر مؤشرات إلى إمكان التوصل إلى حل يكبح الاندفاع الإسرائيلي لوقف تدمير غزة أو التراجع عن شنّ حرب برّية على القطاع، بعد القصف التدميري الذي حوّل الكثير من الأحياء الى ركام وقتل أكثر من 7 آلاف فلسطيني ثلثهم من الأطفال. تقترب الحرب البرّية وسط تغطية أميركية ودولية لإسرائيل، وترتفع معها المخاوف من انفجار الإقليم، إذ إنّ التوقعات تشير إلى إمكان اشتعال جبهة الجنوب اللبناني في شكل واسع مع تنفيذ “حزب الله” لتهديداته بالانخراط في المعركة حال توسعها برّياً، إضافة إلى تحرّك فصائل محور الممانعة التابعة لإيران لضرب مواقع أميركية في سوريا والعراق واليمن، من دون تدخل إيراني مباشر، وهو ما يفتح المنطقة بأسرها على كل الاحتمالات.
وبينما تُعقد رهانات لوقف التصعيد الإسرائيلي بدعم أميركي على ما ظهر في مجلس الأمن الدولي، وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة، تشير المعطيات إلى أنّ الأيام العشرة المقبلة ستحدّد وجهة الحرب إن كان في غزة أو على جبهة لبنان، إذ تتكثف الجهود الدبلوماسية عربياً ودولياً على أكثر من خط ومستوى لوقف الحرب. ويمكن تقييم ما يحدث فعلياً من خلال الحشد العسكري الأميركي بحاملتي الطائرات إلى المتوسط والجسر الجوي المفتوح بالسلاح والذخائر إلى إسرائيل، وهو أمر لم يحدث إلا في حروب كبرى، إذ تقول واشنطن بوضوح إنّها تدير المعركة وتوجّه رسائل إلى إيران و”حزب الله” وكل الدول، أنّها بصدد الحسم في غزة، وإن كانت لا تريد الآن أن يتفجّر الوضع على جبهة لبنان. ويبدو أنّ الأميركيين يريدون ضمان أن تخرج إسرائيل منتصرة في حربها ضدّ “حماس” وتتجنّب في الوقت ذاته نشوب حرب إقليمية.
ومنذ الآن بات الجميع يقيّم أو يحتسب ما يمكن أن ينتج في المنطقة من حرب غزة، إن توغلت إسرائيل في القطاع برّياً أو تراجعت بفعل المقاومة والضغوط، وما سترتبه من توازنات جديدة، يُظهر أنّ إيران ستكون لاعباً رئيسياً فيها، وهي التي برأتها الولايات المتحدة الأميركية من المشاركة في عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “حماس” داخل إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري.
لم تصل المواقف الإيرانية إلى مستوى التهديد بالمشاركة في الحرب الدائرة، لكنها حذّرت على لسان رئيسها ووزير خارجيتها أنّ الحرب البرّية على غزة قد تؤدي إلى إشعال المنطقة. وقد كان واضحاً أنّ إيران لا تريد أن تكون طرفاً مباشراً في الحرب، على الرغم من أنّ لها دوراً رئيسياً فيها من خلال علاقتها بحركة “حماس” ورعايتها لـ”حزب الله” وفصائل الممانعة في المنطقة، وهذا يعني أنّها أحد اللاعبين الرئيسيين في هذا الشأن.
حيّدت إيران نفسها عن الحرب، لكنها جزء منها، انطلاقاً من أذرعها، وإن كانت أعلنت أن لا نية لديها لتوسيع دائرة الصراع، وأنّها لم تكن على علم بعملية “حماس”، فيما الولايات المتحدة الأميركية في المقابل تدير الحرب وتدعم إسرائيل وهي منخرطة فيها إلى أقصى الحدود. وإذا كان الأميركيون برأوا إيران من عملية “طوفان الأقصى”، إلاّ أنّهم يعتبرون أنّها تتهيأ لتوسيع المعركة على مختلف الجبهات، خصوصاً لبنان، توازياً مع حرب غزة، ولذا دفعت واشنطن بقوتها إلى المتوسط لحماية إسرائيل. بالنسبة إلى واشنطن تبقى الأولوية لجبهة غزة أو ضرب “حماس” وحتى تهجير الفلسطينيين إلى مساحة لا يعود معها ممكناً تهديد إسرائيل. يندرج ذلك من ضمن الاحتمالات على جبهة لبنان، فإذا نجح الاحتلال الإسرائيلي في حربه البرّية فلسطينياً، سينتقل التركيز إلى لبنان، والهدف البعيد في سيناريو محتمل هو توجيه ضربات لـ”حزب الله” وصولاً إلى التهجير والأرض المحروقة التي لا تعود تشكّل تهديداً لإسرائيل. هذا سيناريو مطروح وفقاً لتطورات حرب غزة، لكنه لم يحن وقته وتتهيأ ظروفه بعد، ولذا تبقى جبهة لبنان متوترة ضمن قواعد الاشتباك التي يلتزم بها أيضاً “حزب الله”، وإن كانت المواجهات تتوسع حيناً ثم تنحسر، انما بتنويعات تتركّز في المواقع الأمامية.
وإذا كانت الأيام المقبلة ستحمل الكثير من المفاجآت على مختلف الجبهات، لكن الأكيد أنّها ستكون في غزة وامتداداً نحو لبنان. وهذه الجبهة الأخيرة ستكون مسؤولية إشعالها الآن بيد “حزب الله”، فيما التصعيد في سوريا والعراق واليمن يرتبط بالرسائل الإيرانية إلى واشنطن كي تضغط على إسرائيل لوقف حرب غزة، فيما الهدف الأبعد هو إطلاق مفاوضات تُطرح خلالها كل الملفات مع الأميركيين. وقد يكون التصعيد في الجنوب اللبناني يندرج في هذه الوجهة.
حتى الآن تبقى التهديدات المتبادلة هي السائدة بين الولايات المتحدة وإيران، ومنها رسائل في أكثر من منطقة في الإقليم. تهدّد واشنطن “حزب الله” برسائل إلى إيران لعدم توسيع دائرة الحرب إلى جبهة لبنان أو الانخراط في حرب غزة، وفي المقابل تهدّد إيران بأنّ الحرب البرّية ستُشعل الجبهات كلها. لكن “حزب الله” استمر بعملياته لإشغال الإسرائيليين ولتخفيف الضغوط على غزة، وهو يعلم أنّ إسرائيل المرتبكة بعد عملية “حماس” ليست في وارد فتح جبهة جديدة، أو إشعال حرب ضدّ الحزب الآن، رغم أنّه يبقى احتمالاً قائماً. وإذا كانت المعطيات تفيد أنّ الدخول البري الإسرائيلي إلى غزة سيفجّر جبهة الجنوب أو على الأقل سيوسّع دائرتها في شكل كبير، لكن ذلك يبقى غير محسوم، خصوصاً إذا تمكنت “حماس” من الصمود، أو لم تستطع إسرائيل توجيه ضربات قاتلة لها أو تهجير قسم من الفلسطينيين إلى جنوب غزة أي على الحدود مع مصر. وبخلاف ذلك قد يرمي “حزب الله” بثقله في المعركة بقرار من دون أي اكتراث لواقع لبنان، بالتوازي مع تسخين للوضع في سوريا والعراق واليمن ضدّ الأميركيين، ظهرت مؤشراته أخيراً في إطلاق الصواريخ على قواعد أميركية.
ويبدو أنّ إيران ومعها “حزب الله” تراهن على عدم قدرة إسرائيل على الدخول إلى غزة، أو حتى شن حرب برّية بتغطية أميركية واسعة، خصوصاً أنّ هناك خلافات داخل إسرائيل وصراعات قائمة بين الجيش والحكومة، وهذا ما يجعل بنيامين نتنياهو في وضع مرتبك إذ لم يتمكن من اتخاذ قرار بالحرب بالبرية. وكلما تعثرت إسرائيل في الحرب يتشكّل وضع دولي جديد لإنجاز حل يؤدي الى التفاوض بشأن الأسرى والرهائن، وهو ما ينزع ورقة أساسية ومهمّة في التصعيد. وعلى هذا، فإنّ الفشل الإسرائيلي ستستثمره إيران باعتباره نصراً لها، فإذا جرى التوصل إلى وقف لإطلاق النار، ستعيده طهران إلى تهديداتها بإشعال الجبهات، وإذا حدث الهجوم البرّي ولم تتمكن إسرائيل من تحقيق أهدافها، ستعتبره إيران أنّه نصر بفعل دعمها للمقاومة.
الواقع أنّ المواقف الغربية للدول الكبرى خصوصاً الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ضدّ الفلسطينيين وحركة “حماس” وتغطيتها لما يحدث من قصف في غزة، والتفافها حول إسرائيل وحتى إدارة حربها، يمنح إيران التي حيّدت نفسها رسمياً عن الحدث، صدقية وموقعاً يحوّلها إلى لاعب أساسي، ليس من خلال أذرعتها فحسب، إنما من خلال التعاطف العربي الذي يرى ما يحدث للفلسطينيين من قتل وتهجير، ويكرّس أيضاً توازنات جديدة في المنطقة لإيران دور حاسم فيها.
كل ذلك لا يعني أنّ الحرب انتهت في غزة، إنما لا تزال الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات، ومنها الحرب البرّية أو اشتعال جبهة جنوب لبنان. إسرائيل تحاول أن تخرج من أزمتها عبر تدمير القطاع، إذا لم تتمكن من دخوله، أو بتوسيع الحرب شمالاً نحو جنوب لبنان، والأكيد أنّ نتائج الحرب مهما تكن، ستفتح خطوطاً جديدة في المنطقة، تعيد عمليات التفاوض بين الأميركيين والإيرانيين، وهو ما تسعى إليه طهران لتعيد ترتيب برنامجها النووي.
Twitter: @ihaidar62