كما لو أن “يوسف” بطل رواية “جُلنار”، للسيناريست والكاتب السوري د. ممدوح حمادة، الصادرة عن دار موزاييك للدراسات والنشر (إسطنبول 2023)، في بحثه عن جُلَّنار الفتاةُ شقراءُ الشَعر، بيضاءُ النَحر، نافرةُ الصدر، نحيلة الخصر، التي صادفها وهي ترتدي ثوبًا أحمرَ، وتقف خلف نافذة بيتها المطلة على الشارع العام، كمن يُعذِّبُ نفسه طيلة سبعة وأربعين عامًا في البحث عنها فلا يجدها ـ يوسف يبحث وليس ينتظر كما في مسرحية “في انتظار غودو”، ولمَّا يجدُها لا يجدُها، فلم يترك نغمةً ولا رائحةً ولا لونًا يدلُّ عليها إلاَّ واقتفى أثره عسى أن يجدها، لكن من الطبيعي أنَّ يوسف في بحثه عن جلَّنار مثله مثل الذي يبحث عن إبرة في كومة قش، أو كما يقول المثل الذي يردِّدُه يوسف بمناسبة ومن دون مناسبة إنه من الصَّعب العثُور على قطَّةٍ سوداءَ في غرفةٍ مظلمة.
مع ذلك فهو لا يكلُّ ولا يمل، مع أنه تزوَّج من غالية، التي لم تكن أقل جمالًا من جلنار، ولم تكن الحياة معها متعبة، أو مملَّة، فقد كانت امرأة تكاد تصل إلى حد الكمال، إلاَّ أن جلنار هي الأنثى التي تتربَّع على عرش قلبه، وهي الفتاة التي لا يعرف اسمها، وهو مَنْ سمَّاها جلَّنار، ولا يعرف عنوانها، ولقد تعرَّض لمواقف كادت تودي به إلى السجون؛ إذ إنَّه في بحثه عنها يدقُّ باب بيتٍ سرى له أنَّها تسكنه، أو تتردَّد عليه، فتفتحُ البابَ امرأةٌ مُسنَّة، وتجيبه بأنَّ الفتاة التي كانت عندها هي خادمة، وقد تقاضت أجرها وانصرفت، لكن يوسف يسألها عن موعد حضورها في المرة القادمة، فتبلغه أنها لن تحضر مرة أخرى، ثمَّ يسألها إن كانت تعرف عنوانها، فتجيبه أن ابنها هو الذي اتفق مع الخادمة، أما هي فلا تعرف العنوان، وعندما سألها يوسف عن ابنها، وهل في إمكانه التواصل معه؟ تجيبه: إنُّه طيَّارٌ، وإنه صباح هذا اليوم أقلع في رحلة إلى الأرجنتين، فيرجوها يوسف أن يتصل ابنها به عندما يعود من الأرجنتين، وترك لها رقم هاتفه. لكن يوسف يفقد صبره ـ هنا يقوم المؤلف ممدوح حمادة بدور المحلِّل النفسي في تأزيم الحدث لتغدو حكايته شيِّقة فلا ثرثرة، بل سردٌ ناعمٌ متيقِّظ، إذ إنَّ يوسف، وخلال يومين كاملين، لم يترك المذياع دقيقة واحدة، ولم يفوِّت أيَّ نشرة أخبار، فجلَّ ما كان يخشاه هو أن تسقط الطائرة المسافرة إلى الأرجنتين، فلم يكن يطفئ المذياع، لكن يا للصدف؛ ففي صباح اليوم الثالث أعلنت نشرات الأخبار أن طائرةً أقلعت أمس من مطار بوينس آيرس، واختفت عن شاشات الرادار، وعندما سمع يوسف الخبر تمنى أن يضرب المذياع بالحائط، ويحوله إلى حطام، فيرتدي يوسف بدلته الرسمية السوداء التي كان يلبسها عندما يشارك في الأعراس والجنازات، وذهب ليواسي أهل الفقيد. فيدق الباب ولمَّا فتحت له المرأة الباب أعلنت على الفور بلهجة لا تخلو من التذمر أن ولدها لم يعد بعد، غير أن يوسف الذي شعر بلهجة العداء في كلامها سألها: هل سمعتِ نشرة الأخبار؟ فشهقت الأم واكتفت بكلمة واحدة متسائلة: الطائرة؟ ولم يجب يوسف على سؤالها، واكتفى بالقول بلهجة جنائزية وصوتٍ مخنوق: لا حول ولا قوة إلا بالله. لم تستطع المرأة تحمّل الخبر المؤلم فسقطت على الأرض مغميًا عليها.
يوسف لا يهدأ، يدخل في كارثة، ويخرج من كارثة، خلال زمن البحث (الجلجامشي) عن جلَّنار، كوارث تبكي مثلما تضحك، بل إن الكاتب ممدوح حمادة يقيم صراعًا عنيفًا بين الضحك والبكاء، ضحك أسود بارد، لأنه من طبيعة الكاتب الجدية والصارمة، فينزع الأقنعة، يوسف بدون أقنعة في رحلة بحثه، وهو يتهكم من المآل الذي وصل إليه في رحلته بحثًا عن جلَّنار؛ فما أن يمسك خيطًا ليوصله إليها حتى ينقطع.
صحيح أن يوسف يفكِّر، ولكنه طيلة عمره ـ زمنه الروائي، يبقى ضحية فكره، أو ضحية فكرةٍ متسلطة، في أن الفتاة التي رآها بعينيه هي من الـ (إنس)، وليست من الـ(جن) من اشتداد هيامه بها. حتى إنه وهو الذي لا يؤمن بالسحر والسحَرة يذهب إلى عند العراف المنجم، قارئ الكف مُحضِّر الأرواح؛ المشعوذ، عسى أن يجد، أو يهديه إلى طريق جلَّنار، آخذًا بنصيحة صديقه كمال، بل إنه صار يريد أن يستحضرها المشعوذ، حتى وإن كانت جنية، رغم أنه لا يثق بكلام المشعوذين، ويكره هذه الفئة من الناس التي ينسبها إلى عالم النصب والاحتيال، ولكن ربَّما، وعل وعسى.
الكاتب ممدوح حمادة في روايته “جلنار”، الاسم الذي أطلقه عليها يوسف لما رآها تلك الرؤية صارت مطلبًا وجوديًا له بصفتها شطره الأنثوي الخاص به، وليس أي أنثى، حتى لتحسب أنه مفرط في الأنثوية كذكر، إذ لا امرأة إلا جلَّنار. فها هو وقد دلَّه الحظ عليها في بحثه عنها، وبعد أن حادثها في الهاتف، وكانت في مدينة حلب تسوي معاملة حصر إرث في دوائر الدولة، وأن القضية ستنتهي بعد ثلاثة أيام، وإذا كان مستعجلًا على الزواج، ففي إمكانه تحضير الجو خلال الأيام الثلاثة، وفور عودتها من حلب سيتزوجان، وقد وافق يوسف على ذلك. وقد تبين له أنها طوال السبعة وأربعين عامًا لم تنسه، وعندما أعلمها بأنه سمَّاها جلنار أعلمته بأنها سمَّته بدر. ولمَّا عادت وكان صديقه كمال قد ناب عنه في كتاب عقد الزواج، ودخل إلى الغرفة التي كانت فيها سعاد، وجد امرأة في ثوب العرس، ولكنها لم تكن جلنار، أما سعاد فقد كادت تصرخ لأن الشخص الذي دخل لم يكن بدر. خرج الاثنان من الغرفة وعلى وجهيهما علامات حزن بدل الفرح. وقد ضحى، وليس خسر، مبلغًا من المال كان قد ادخره لجنازته، ومعه ثمنُ أربعة أوسمةٍ عثمانية كانت لجَدِّه، ورثها هو عن أبيه، فباعها لأحد المحال التي تتاجر بمثل هذه الأشياء، كما استدان مبلغًا من المال من صديقه وجاره كمال لإتمام بقية مصاريف زواجه من جلنار.
وما العمل الآن؟ سأل صديقه كمال بعد أن شعر أنه المسؤول عن هذا المأزق الذي كان يعتقد أنه سيكون مفاجأة سارة لكلا الطرفين. الطلاق. طلَّقها، وخرج في رحلة بحثٍ عن جلَّنار، فما كان من أولاده إلاَّ أن أودعوه في مشفى الأمراض العقلية، لكنه ما لبث أن حطَّم آخر تحصينات عقله، فنهض ونزع من شريانه الإبرة التي كانت تزوده بالمصل الذي يؤهله البقاء على قيد الحياة، وفرَّ من المشفى للبحث عن جلنار، وكانت هذه آخر مرة شوهد فيها يوسف.