انهت المعارضة الانتخابات البلدية التركية بانتصار تاريخي اعتبرته إعلاناً عن “نهاية حكم الرجل الواحد” في البلاد، مسجّلة لائحة طويلة جداً من السوابق المقترنة بمصطلح “للمرة الأولى في تاريخ الجمهورية”.

تصدّر حزب “الشعب الجمهوري”، المعارضة الأم في البلاد، المشهد الانتخابي للمرة الأولى منذ 47 عاماً، وأصبح حزب “العدالة والتنمية” وصيفاً في الانتخابات للمرة الأولى أيضاً منذ انطلاقته السياسية قبل 22 عاماً، وحصل حزب “المساواة وديموقراطية الشعوب” (ديم) الموالي للأكرد على بلدية مركزية وجميع بلديات الولاية للمرة الأولى في تاريخ البلاد، وظفر حزب “الرفاه الجديد” اليميني المحافظ للمرة الأولى في تاريخه ببلدية مركزية، وقائمة “السوابق الأولى” تطول.

وبالنظر إلى خارطة توزع البلديات على الأحزاب السياسية، فقد وصل اللون الأحمر الذي عادة ما يرمز إلى البلديات المحسومة من قبل حزب “الشعب الجمهوري”، إلى شرق البلاد للمرة الأولى مروراً بالأناضول، بعد عقود من انحسار ورثة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك في الساحل الغربي وبعض الولايات في شمال شرق البلاد.

التشابه بين نتائج الانتخابات الأخيرة وحصيلة الانتخابات المحلية لعام 1989، التي انهت مسيرة “حزب الوطن الأم” اللامعة في حينه، يفسّر إلى حد كبير جو التفاؤل الطاغي على الأوساط المعارضة وحالة الانكسار التي باتت تخيّم على السلطة منذ اليوم.

“الشعب الجمهوري” يكسر “الحاجز النفسي”

وفقاً للنتائج النهائية غير الرسمية للانتخابات، حصل حزب الشعب الجمهوري على المركز الأول بنسبة 37.1% من الأصوات، مقابل 35.9% لحزب العدالة والتنمية.

ففي اسطنبول تقدّم رئيس البلدية المعارض أكرم إمام أوغلو، الذي خاض الانتخابات دون تحالفات، بفارق 10 نقاط على مرشّح “تحالف الشعب” الحاكم، مراد كوروم. كما انتزع حزبه، “الشعب الجمهوري”، 10 بلديات فرعية من حزب العدالة والتنمية وواحدة من الحركة القومية في أسطنبول.

وفي العاصمة، اكتسح رئيس بلدية أنقرة المعارض منصور يافاش الانتخابات بعدد قياسي من الأصوات، متفوقًا على منافسه تورغوت ألتينوك، مرشّح السلطة بـ28 نقطة. وزاد حزبه، “الشعب الجمهوري”، عدد البلديات الفرعية التابعة له في العاصمة من 3 إلى 14، محققاً انتصارات في بلديات رمزية مثل كيتشي أورين التي لم يتمكن من الفوز بها منذ عام 1989.

أما في إزمير، ثالث الولايات التركية الكبرى، ومعقل “تيار الجمهورية” في البلاد، فقد رفع حزب “الشعب الجمهوري” عدد البلديات التابعة له من 24 في انتخابات عام 2019، إلى 28، على حساب خصمه “العدالة والتنمية”، الذي احتفظ ببلدية فرعية واحدة مقابل احتفاظ شريكه في التحالف على بلديّته أيضاً.

وعلى الخارطة تمدد اللون الأحمر، رمز حزب الشعب الجمهوري إلى وسط الأناضول وبحر إيجه بأكمله ومعظم منطقة مرمرة لأول مرة بعد عقود من انحساره في السواحل الغربية والجنوبية فقط، كما أنّه نجح في الاستحواذ على بلديات للمرة الأولى في تاريخ الحزب في مانيسا وأفيون قره حصار.

ففي حين احتفظ حزب “الشعب الجمهوري” ببلديات أضنة وأنقرة وأنطاليا وأيدين وإسكي شهير ومرسين وموغلا وتكيرداغ وإزمير وإسطنبول، نجح في حصد بلديات المدن الكبرى في باليكسير وبورصة ومانيسا ودنيزلي ليرفع عدد البلديات الكبرى التابعة له في عموم البلاد من 11 إلى 14، بينها البلديات الخمس الأوائل، و35 مقاطعة و337 بلدية منطقة و48 بلدة بمجموع 420 منصباً بلدياً.

إلى ذلك، فاز حزب الشعب الجمهوري ببلديات أديامان، وأفيون قره حصار، للمرة الأولى منذ الانتقال إلى عهد التعددية الحزبية في عام 1946، وأماسيا وبارتين وجيريسون وكاستامونو لأول مرة منذ عام 1977، وكيركالي وكلس وكوتاهيا وأوشاك وزونجولداك لأول مرة في تاريخ الجمهورية. كما فاز حزب الشعب الجمهوري في السباق الانتخابي في آرتفين، وبيليجيك، وبولو، وبوردور، وجناكالي، وأدرنة، وكيرشهير، وسينوب، ويالوفا.

قلاع العدالة والتنمية المتهاوية

أظهرت نتائج الانتخابات أيضاً سقوط حزب “العدالة والتنمية” في العديد من المناطق التي كانت تعرف بقلاع اليمين المحافظ والإسلام السياسي، أو تحمل رمزية خاصة بالنسبة للحزب الحاكم وقياداته، ومنها بلدية أوسكودار في اسطنبول، التي تتمتع برمزية خاصة باعتبارها منطقة إقامة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الولاية، وتسمّى بـ”عاصمة المحافظين” في اسطنبول، الذين انتخبوا مرشّحة حزب الشعب الجمهوري السيدة سينيم ديديتاش.

وحصل حزب “العدالة والتنمية” الوصيف على 12 من أصل 30 بلدية كبرى (مركزية) أكبرها تأتي في المرتبة السادسة على مستوى البلاد من حيث الثقل السكاني والاقتصادي.

وكشفت نتائج الانتخابات اختلافاً كبيراً بين ديناميات الانتخابات العامة والانتخابات المحلية في تركيا، مناقضة التحليلات التي فسّرت فوز حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات الرئاسية والعامة في أيار (مايو) عام 2023، رغم الأزمة الاقتصادية، بعدم اكتراث الناخب التركي بالوضع الاقتصادي مقارنة بأولوية الانتماء والايديولوجيا.

فقد أجبر الناخبون المتأثرون سلباً بالأزمة الاقتصادية، خاصة في المدن الكبرى، الحكومة على دفع فاتورة تراجع أحوالهم المعيشية في الانتخابات المحلية، ليتجاوز حزب الشعب الجمهوري عتبة 25% الانتخابية النفسية للمرة الأولى منذ الانقلاب العسكري في عام 1980.

وخلقت خسارة مرشح حزب الشعب الجمهوري، كمال كلاشدار أوغلو، في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية العام الماضي، خيبة أمل كبيرة بين أنصار المعارضة، وخاصة حزب الشعب الجمهوري، وسط تكهّنات عن احجام متوقع من قبل “الناخبين الساخطين” عن المشاركة في الانتخابات المحلية.

لكن نتائج الانتخابات أظهرت أن التغييرات الجذرية التي طالت الحزب لناحية رئيسها وقياداتها وإداراتها المركزية والفرعية غداة مؤتمر العام في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، انعكس بشكل إيجابي على قاعدة “الشعب الجمهوري” وبالتالي على صناديق الاقتراع.

يمكن النظر إلى الانتخابات المحلية كاختبار حاسم للمسيرة السياسية لرئيس الحزب الجديد أوزغور أوزيل، ورئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، الذي من المتوقع أن يكون المرشّح الأبرز لرئاسة تركيا غداة انتخابات عام 2028.

وطوال الأشهر العشرة الأخيرة واصل الإعلام التركي الحديث عن عودة محتملة لرئيس حزب الشعب الجمهوري السابق كمال كليتشدار إلى الحياة السياسية على خلفية انتكاسة انتخابية للحزب، لكن نتائج الانتخابات الحالية ستعزز قيادة أوزيل وفريق التغيير داخل المعارضة الأم، مغلقة الطريق أمام احتمال عودة كلتشدار أوغلو الذي خسر جميع الاستحقاقات الانتخابية في فترة رئاسته.

بالمقابل كان الحزب الحاكم يستعد للضغط على زر إطلاق الدستور الجديد للبلاد، لكن الظروف السياسية التي أفضت إلى تصدّر حزب الشعب الجمهوري للمشهد الانتخابي الأخير متفوقًا في كل من معدّلات التصويت والروح المعنوية قد تدفع بحزب “العدالة والتنمية” إلى تغيير خطط “الدستور الجديد” أو التريث فيها لوقت طويل.

وأظهرت الانتخابات المحلّية التي تنافس فيها 34 حزباً سياسياً تراجعاً في معدّلات مشاركة الناخبين في الاقبال على 207848 صندوق اقتراع، ليبلغ 78.11%، اذ أدلى 48 مليون ناخب -من أصل أكثر من 61 مليونا مسجلين ضمن القوائم الانتخابية- بأصواتهم، لتغدو الانتخابات الحالية الأدنى لناحية نسبة المشاركة منذ استلام حزب العدالة والتنمية الحكم في البلاد.

ففي العام الماضي، شارك 88.92% من الناخبين في الانتخابات البرلمانية والرئاسية التي أجريت في 14 أيار (مايو) في رقم قياسي بتركيا المعروفة كأحد أعلى نسب المشاركة الانتخابية عالمياً.

ومطابقة أرقام تراجع أعداد المقترعين مع خسائر الحزب الحاكم لأصواته التقليدية يظهر بوضوح تشكيل مناصري العدالة والتنمية أغلبية مقاطعي المشاركة في الانتخابات التي جرت في ظل أزمة اقتصادية حادة انعكست على النتائج، إلى جانب بروز أزمة “انخفاض الزيادة الممنوحة للمتقاعدين” التي شكّلت خيبة أمل كبيرة لدى الفئة المعمّرة المتناغمة مع السلطة في خياراتها إلى حد كبير.

أما الضربة الثانية، فيمكن اعتبارها مزيجاً من السياسة والاقتصاد، وتمثّلت في رفض الناخبين المحافظين للازدواجية بين الخطاب الرسمي المعادي لإسرائيل ومواصلة الشركات المقرّبة من السلطة لتعاملاتها التجارية وعلاقاتها الاقتصادية مع تل أبيب، وهو الملف الذي استغلّه حزب “الرفاه مجدداً” اليميني بشكل جيد منتزعاً الكثير من الأصوات المحافظة المتعاطفة مع غزة.

خلاصات

وبانتظار صدور النتائج الرسمية بعد انتهاء البت في الاعتراضات، فإن نظرة سريعة على نسب الأصوات التي حصل عليها كل حزب وتوزيعها المناطقي، يمكن القول بأن:

  • حزب الشعب الجمهوري المعارض نجح في استقطاب أصوات الأكراد في الولايات الغربية على حساب “ديم”، بالإضافة إلى أصوات اليمين الوسط والتيار الجمهوري من كل من أحزاب “الجيد” و”النصر”، مقابل نسبة قليلة جداً من أصوات “تحالف الشعب” الحاكم.
  • تراجع أصوات حزب “العدالة والتنمية” بالدرجة الأولى ناتج عن مقاطعة مناصريه للانتخابات كنوع من التعبير عن رفضهم لسياسات الحزب الاقتصادية بشكل خاص، مع انزياح نسبة قليلة لكن مؤثرة منها باتجاه حزب “الرفاه الجديد” المخاطب للقاعدة الشعبية ذاتها.
  • أظهرت الانتخابات أهمية حزبي “ديم” و”الرفاه مجدداً” كلاعبين مؤثرين في السياسة التركية، مقابل تراجع تأثير حزب “الجيد” الشريك السابق لتحالف الأمة المعارض وغياب تام لأحزاب الطاولة السداسية.
  • فوز منصور يافاش ذي الخلفية اليمينية القومية في أنقرة، وأكرم إمام أوغلو المعروف بموقعه في اليمين الوسط برئاسة بلدية اسطنبول، ونجاح رؤساء بلديات من التيار اليميني المتطرف داخل حزب الشعب الجمهوري في بلديات مثل أفيون وبولو، يضعف التكهّنات حول نيّة حزب الشعب الجمهوري الاقتراب من الخط الاشتراكي الديموقراطي بقيادة أوزغور أوزيل، ويؤكد على استمرار هيمنة اليمين على المشهد السياسي في تركيا.