يبلغ عدد ضحايا الصراع العربي-الإسرائيلي خلال العقود السبعة الماضية حوالي المائة ألف قتيل من الطرفين بينما يبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين الذي نزحوا من أرضهم حوالي المليون ومائتي ألف، أغلبهم سكن دول الجوار وأزداد عددهم ليصل لعدة ملايين اليوم بينما تعطيك بعض المصادر الرقم مائتي ألف قتيل بمن فيهم المدنيين على الجانين الجانبين كحصيلة لصراع بين الطرفين العربي والإسرائيلي الذي أمتد منذ إعلان دولة إسرائيل وحتى اليوم، وقبل أن نبدأ المناقشة نؤكد على عدالة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، غير أن ماورد من خسائر يقدر بما فعله طاغية العراق صدام حسين بالكرد في شمال العراق خلال حملة الأنفال وحدها بين عامي ثمانية وثمانين وواحد وتسعين حيث بلغ عدد ضحايا حملة الأنفال أكثر من مائة وثمانين ألفاً قضى الكثير منهم بغارات بالسلاح الكيماوي التي بلغ عددها الثلاثمائة غارة وتم تهجير الملايين من سكان جنوب كوردستان وقتها.مآسي الفلسطينين تبدو صغيرة إذا ما قارنتها بمثيلاتها لدى الكرد وقضيتهم التي يتجاوز تعداد شهدائها الملايين خلال القرن العشرين حيث تقدر المصادر المختلفة أعداد الضحايا من أثنين إلى أربعة ملايين شهيد، بينما مجمل أعداد ضحايا فلسطين يكاد لا يساوي عديد الضحايا الكرد في مجزرة واحدة من مجازر عديدة ارتكبها طاغية عراقي أو تركي بحقهم وأعداد المهجرين الكورد بلغ مليونا ونصف بعيد ثورة الشيخ وحدها وهذا أكبر من أعداد المهجرين الفلسطينيين كلهم خلال سبعة عقود. كردستان أكبر بستين ضعفاً من الضفة والقطاع مجتمعين وحجم ألمها كذلك أكبر وأطول زمنا بما لا يقاس، الأمر نفسه إذا ما قارنت القضية الفلسطينية بالحدث السوري خلال العقد الماضي فقط حيث أعداد الضحايا عن المليونين والمهجرين الأثني عشر مليونا، ليست هناك نسبة بينهما أبداً والشيء نفسه إذا ما قارنتها بالمجازر في جنوب السودان التي تجاوز عدد ضحاياها المليوني إنسان كذلك، علماً أنني أورد تقديرات متداولة فقط ولا أقوم بإحصاء دقيق لأعداد الضحايا، ببساطة ليست مآسي فلسطين وأهلها إلا نسبة صغيرة من مآسي شعوب كالكرد والسوريين والسودانيين وغيرهم وببساطة أكثر كل ما حدث في فلسطين لا يتجاوز ما حدث في دير الزور وحدها عامي 2011 و2012 أو في ديرسم شمال كردستان عامي 1937 و1938 .
التساؤل المنطقي الكبير الذي يفرض نفسه هو : لماذا تحظى فلسطين بكل هذا الدعم السياسي والتغطية الإعلامية والاهتمام الشعبي بينما يتم تجاهل قضايا اكبر من فلسطين حجماً وألماً بكثير، فلطالما أعُتبر أن القضية الفلسطينية قضية العرب والمسلمين المركزية في إشارة واضحة على هامشية بقية القضايا أو ثانويتها في أفضل الأحوال؟ فإن كتبت على غوغل كلمة فلسطين فستحصل على 233 مليون نتيجة وأما كردستان فستعطيك ثمانية مليون نتيجة فقط، أي أن كل ما كتب عن كردستان على الانترنت لا يتجاوز الأربعة بالمائة مما كتب عن فلسطين، وأغلب سكان الكوكب لم يقرؤوا مقالا واحد عن كردستان بينما تدرس فلسطين بالتفصيل في كثير من الدول في المدارس والجامعات، لقد غزت الدعاية فلسطين عقول وعواطف الجميع دون منافس بمن فيهم الكرد أنفسهم، أصحاب الألم الأكبر والاهتمام الأقل، لقد نسي الكردي نفسه ألمه ومأساة شعبه وأنشغل بعشق فلسطين، لقد تم غسل دماغهم أيضا بفلسطين، فمثلا كردي أخوت ترك وطنه مشاعاً وسافر إلى لبنان يحارب خلف عرفات أو جبريل وأخوت ثانٍ أمتطى ناصية الأدب العربي وأبدع صور البلاغة المزهوة بعلم فلسطين وقصائده ترتم في حبها بينما لا يجيد كتابة جملتين بلغته الكردية لأنها ممنوعة من التداول وهذا لا يشغل باله، المهم أن يمجد فلسطين ليصفق العرب له.
الكاميرات العالمية اليوم مثبتة على غزة بينما ترتكب تركيا المجازر بحق الكرد في غرب كردستان ويخرج رئيسها أمام الملايين متفاخرا بدعمه لقضية فلسطين العادلة وعالميتها الأوحد، بينما يقصف النظام السوري الشمال يومياً دون أن نسمع تعليقاً واحداً، غزة كل شيء وبقية العالم لا شيء، هكذا تبدو الصورة من وجهة نظر الإعلام العربي والعالمي على حدٍ سواء.
أوكد للمرة الثانية على عدالة القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، ولكن التساؤل يبقى مشروعا وإن ناقشنا الفكرة بعيداً عن كردستان وحق شعبها المشروع كذلك في تقرير مصيره، أيضا نتساءل لماذا تم إهمال قضايا حيوية مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والمرأة والتعليم والتنمية في العالم العربي والشرق الأوسط لثمانية عقود كاملة عمداً وتم غسل أدمغة الأطفال بالمدارس بقدسية فلسطين وجعلها بحساسية الدين نفسه؟ طغاة جبابرة حكموا الدول العربية وفتكوا بشعوبها وسرقوا ثرواتها ولم يتجرأ أحد يوماً على مسائلتهم، شعارهم الأبدي تحيا فلسطين وحدها ذات الجلال وليسقط كل ما سواها، طفل سوري على مقعد مدرسي مكسر يرتدي ثياب أخاه الأكبر القديمة الرثة يتبرع بثمن سندويشته اليتيمة لفلسطين ولم يدرك ما يجري حوله من ظلم واستعباد وتفقير لعائلته وشعبه، غُسل دماغه وقيل له أن فلسطين سليبة وكل ما سواها فداها، لا شيء يستحق الاهتمام في العالم سوى تحرير القدس والصلاة في الأقصى، غبار معارك فلسطين الكثيف أخفت بصفاقة مريبة كل ما تبقى من قضايا إنسانية عادلة وقومية تحررية محقة في الشرق, خلف غبار فلسطين الكثيف قضى أبطال حقيقيون وسجن آخرون لعقود وأبيدت مدن دون أن يلتفت لهم أحد ناهيك عن مد يد العون المساعدة لهم.
بالمناسبة بلغت ثروة زهوة كريمة السيد ياسر عرفات في باريس حيث تقيم مع أمها سهى عرفات عقيلة السيد ياسر عرفات الثمانية مليار دولار ولا يزال الأطفال في المدارس السورية يصمدون القرش فوق القرش لتحرير فلسطين السليبة، وزهوة ليست الوحيدة التي استرزقتك من التبرعات السخية لفلسطين حيث تتمتع اليوم برفاهية وغنج باريس، فهناك أيضا أبناء وبنات أحمد جبريل زعيم الجبهة الشعبية وأبناء وأحفاد إسماعيل هنية زعيم حماس وغيرهم وغيراتهم يقيمون في مدن فارهة بعيدة عن فلسطين وجميعهم طبعا يملكون شهية هائلة للسيارات والمجوهرات والفيلات يحدوهم الأمل للفوز برفاهية وجاه مماثلين لزهوة كريمة القائد التاريخي ياسر عرفات.
هذا في العالم العربي وأما في العالم الغربي فقد ارتأت الحكومات الغربية أنها يمكن أن تخبئ تعاونها الشائن مع طغاة الشرق في القمع والأستبداد ونهب ثروات الشعوب خلف غبار فلسطين الكثيف أيضاً، ويرددون خلف نتنياهو بأن حماس مثل داعش ويجب استئصالها ولكنهم يتجاهلون وجود حليف لهم وبنفس الوقت رأس داعش والنصرة في الناتو ومؤسسات الاتحاد الأوربي.
مشاهد حشود المتظاهرين العرب والمسلمين في شوارع المدن الغربية وساحاتها تؤكد على ديمقراطية البلدان الغربية وتعمي في الوقت نفسه عن حقائق تعاون حكوماتهم مع طغاة الشرق في قمع شعوبهم، على فكرة هؤلاء المتظاهرين عشاق فلسطين هم أنفسهم كانوا أولائك الأطفال في المدارس العربية الذين يصمدون القرش على القرش لتحرير فلسطين، هربوا من طغاتهم لاجئين إلى الغرب ينعمون بديمقراطيتها ولكن أدمغتهم المغسولة بفلسطين لا تستجيب لأي حدث سوى اقتحام اليهود للأقصى، أنهم ، فمثلا إن تم محو السودان من الخريطة وتهجير سكانها البالغ عددهم اليوم الأربعين مليونا فلن يحتج عربي واحد في مظاهرة في الغرب، وأما بالنسبة لفلسطين فشعارهم قادمون يا قدس ولبيك يا أقصى في الحرب الدينية التي بدأتها حماس مؤخراً.
للمرة الثالثة وكي لا أتهم جزافاً بالتقليل من شأن فلسطين أوكد على عدالة القضية الفلسطينية وحق شعبها في تقرير مصيره وأؤكد كذلك بأن الفلسطينيين ليسوا أرفع شأنا من أحد حتى يقتل الآخرين خلف غبار معاركهم الكثيف، علماً أن بعض الفصائل الفلسطينية اشتغلت بطريقة هدامة وعدوانية جداً في البلدان التي تستضيفهم كلاجئين، فقد تسببوا في أحداث أيلول الأسود في الأردن وشاركوا في الحرب الأهلية اللبنانية، واحتلال الكويت مع صدام، وتعاونت مليشياتهم مع النظام السوري في قمع الثورة وشاركوا في عمليات الأنفال في جنوب كردستان حيث دُفن عشرات الآلف من أطفال الكورد مع عائلاتهم أحياء، مخلفين في كل هذه الحوادث أعداد هائلة من الضحايا والمهجرين تقدر بالملايين وتزيد بأضعاف مضاعفة عن ضحايا الصراع العربي-الإسرائيلي نفسه، هذا عدا عن خطفهم لطائرات دول محايدة وتفجيرها لإركاع المجتمع الدولي وخطفهم كذلك رهائن لا يمتون لهذا الصراع بصلة وغيرها من الأعمال التي لا يمكن وصفها إلا بكلمة واحدة، أين منهم مليشيات الهاجاناه والبلماح والشتيرن!!
وبالختام لا بد من تفحص مختلف جوانب القضية الفلسطيني وتأثيراتها، والإجابة بشجاعة على الأسئلة المطروحة : لماذا فلسطين فقط دون غيرها من القضايا الأخرى المصيرية تستفرد أغلب الوقت باهتمام السياسة والإعلام، كم قراراً دولياً صدر لأجلها وكم مؤتمر وكم من المال دفع لها بسخاء؟ ولماذا تم أستخدمها من قبل كل الطغاة لتثبيت حكمهم وإبقائها مشتعلة في خطاباتهم وخوض البطولات الوهمية بها لكسب ود الشعوب العربية الجاهلة، ففلسطين كانت دوما بوابة البطولة والزعامة، وهل يمكن أن نكون أكثر شجاعة ونتساءل: أليس كل ذلك يشير إلى مؤامرة ضد شعوب الشرق الأوسط بمن فيهم الفلسطينيون أنفسهم ملخصها أن فلسطين وقضيتها استخدمت بصفاقة وتهويل ومبالغة من قبل حكام الشرق والغرب على حدٍ سواء لصرف النظر عن قضايا لا تقل أهمية وتهميش استحقاقات سياسية واقتصادية مصيرية مما جعل الشرق الأوسط في حالة مأساوية تتضاءل فيها فرص النجاة وإيجاد أي نوع من الحلول .