لا شيء حتمياً في السياسة العالمية. تنطوي العناصر القوية للقوي الوطنية ، مثل الديموغرافيا والجغرافيا والموارد الطبيعية، على أهمية كبيرة، بيد أن التاريخ يظهر أن هذه العناصر ليست كفيلة وحدها بتحديد أي البلدان مخولة برسم المستقبل، وذلك لأن القرارات الاستراتيجية التي تتخذها البلدان هي الأكثر أهمية، أي كيفية تنظيم نفسها داخلياً، ومكامن استثماراتها، وأي الجهات تختار لتصطف معها، وأي الجهات تتحالف معها، وأي الحروب تخوض، وأيها تردعها، وأيها تتفاداها.
عندما اعتلى الرئيس جو بايدن سدة الرئاسة، أدرك أن السياسة الخارجية الأميركية وصلت إلى منعطف حرج، حيث سيكون للقرارات التي يتخذها الأميركيون الآن تأثير جمٌّ على المستقبل. تعد نقاط القوة الأساسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة هائلة، سواء من حيث القيمة المطلقة أو بمقارنتها نسبياً بالبلدان الأخرى. تتمتع الولايات المتحدة بعدد متنام من السكان، وموارد وفيرة، ومجتمع منفتح يستقطب المواهب والاستثمار ويطلق العنان للابتكار وإعادة الابتكار. يجب على الأميركيين أن يتحلوا بالتفاؤل حيال المستقبل، لكن السياسة الخارجية الأميركية تطورت في عصر سريع التحولات، والسؤال الراهن هو ما إذا كانت البلاد قادرة على التكيف مع التحدي الرئيس الذي تواجهه: المنافسة في عصر الترابط المتبادل؟
كانت الحقبة التي أعقبت الحرب الباردة فترة تغيرات كبيرة، لكن القاسم المشترك طوال عقد التسعينيات والسنوات التي تلت أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) تمثل في غياب المنافسة الشديدة بين القوى العظمى. يعزى ذلك فيوالاقتصادي للولايات المتحدة، على رغم تفسيره على نطاق واسع باعتباره دليلاً على إجماع العالم على الاتجاه الأساس للنظام الدولي. لقد أسدل الستار الآن على حقبة ما بعد الحرب الباردة بشكل نهائي. احتدمت المنافسة الاستراتيجية وباتت الآن تمس كل جانب من جوانب السياسة الدولية تقريباً، وليس المجال العسكري فحسب، ما من شأنه زيادة تعقيد الاقتصاد العالمي. وهي تغير آلية تعامل البلدان مع المشكلات المشتركة مثل تغير المناخ والأوبئة، فضلاً عن طرح أسئلة جوهرية حول ما يخبئه المستقبل في جعبته.
ينبغي تكييف الافتراضات والهياكل القديمة لمواجهة التحديات التي ستواجهها الولايات المتحدة منذ اللحظة الراهنة حتى عام 2050. ففي الحقبة السابقة، كان هناك إحجام عن معالجة إخفاقات السوق الواضحة التي هددت مرونة الاقتصاد الأميركي. وبالنظر إلى عدم وجود نظير للجيش الأميركي خلال المرحلة الماضية، وكرد فعل على أحداث الـ11 من سبتمبر، صبت واشنطن جهودها على الجهات الفاعلة غير الحكومية والبلدان المارقة. ولم تركز على تحسين موقعها الاستراتيجي والاستعداد لعصر جديد يسعى فيه المنافسون إلى استنساخ تفوقها العسكري، إذ لم يكن هذا هو العالم الذي واجهته آنذاك، كما افترض المسؤولون إلى حد كبير أن العالم سيتوحد لمعالجة الأزمات المشتركة، على غرار ما فعله في عام 2008 مع الأزمة المالية، كما هو حري به إزاء مواجهة جائحة لا تحدث إلا مرة واحدة كل قرن من الزمان، بدلاً من التشرذم المشهود. في كثير من الأحيان، تعاملت واشنطن مع المؤسسات الدولية على أنها كيانات ثابتة غير قابلة للتغيير، من دون معالجة الطرق التي جعلتها إقصائية ولا تمثل المجتمع الدولي الأوسع.
تجسد التأثير الإجمالي لذلك بأنه على رغم تربع الولايات المتحدة على عرش القوة الضاربة في العالم، فقد بدأت بعض مواضع قوتها الحيوية تضمحل. وعلاوة على ذلك، مع انتخاب دونالد ترمب، بات لدى الولايات المتحدة رئيس يعتقد أن تحالفاتها كانت شكلاً من أشكال الرفاهية الجيوسياسية. وقد احتفلت بكين وموسكو بالخطوات التي اتخذها والتي ألحقت الضرر بتلك التحالفات، إذ رأتا أن التحالفات الأميركية مصدر للقوة الأميركية وليست حجر عثرة في طريقها. وقد انسحب ترمب من النظام الدولي، عوضاً عن العمل على تشكيله.
وهذا ما واجهه الرئيس بايدن عندما وصل إلى سدة الحكم، فقد كان مصمماً ليس فقط على إصلاح الضرر المباشر الذي لحق بتحالفات الولايات المتحدة وقيادتها العالم الحر فحسب، بل أيضاً على استئناف المشروع الطويل الأمد لتحديث السياسة الخارجية الأميركية لمواجهة تحديات اليوم. وقد برزت هذه المهمة بشكل صارخ مع الغزو الروسي غير المبرر لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، فضلاً عن عدوانية الصين المتزايدة في بحر الصين الجنوبي وعبر مضيق تايوان.
يتمثل جوهر السياسة الخارجية للرئيس بايدن في إرساء أساس جديد للقوة الأميركية بحيث تكون البلاد في موضع أفضل يخولها تشكيل العصر الجديد على نحو من شأنه صون مصالحها وقيمها وتعزيز الصالح العام. وسوف يتحدد مستقبل البلاد من خلال مسألتين: هل هي قادرة على الحفاظ على مزاياها الأساسية في المنافسة الجيوسياسية؟ وهل بإمكانها حشد العالم لمواجهة التحديات العابرة للحدود الوطنية بدءاً من التغير المناخي والصحة العالمية وصولاً إلى الأمن الغذائي والنمو الاقتصادي الشامل؟
في المقام الأول، يتطلب هذا تغيير منظور الولايات المتحدة الفكري في القوة. تولت هذه الإدارة زمام السلطة وهي تعتقد أن قوة الدولة تعتمد على اقتصاد محلي قوي، وأن قوة الاقتصاد لا تقاس بحجمه أو كفاءته فحسب، بل بمدى خدمته لمصالح جميع الأميركيين وخلوه من التبعيات الخطرة أيضاً. فهمنا أن القوة الأميركية تعتمد أيضاً على تحالفاتها، لكن لا بد من تحديث هذه العلاقات، التي يعود تاريخ كثير منها إلى زهاء سبعة عقود، فضلاً عن تفعيلها لمواجهة تحديات اليوم، كما أدركنا أن الولايات المتحدة تغدو أقوى عندما يكون شركاؤها كذلك أقوياء، لذلك فإننا ملتزمون طرح منظومة قيم أفضل عالمياً لمساعدة البلدان على حل المشكلات الملحة التي لا يمكن لأي بلد أن يحلها بمفرده. وأدركنا أن واشنطن لم تعد قادرة على تحمل عناء نهج غير منضبط في استخدام القوة العسكرية، حتى عندما حشدنا جهوداً هائلة للدفاع عن أوكرانيا وكبح جماح العدوان الروسي. تدرك إدارة بايدن الحقائق الجديدة للقوة، ولهذا السبب سنترك أميركا في حالة أقوى مما وجدناها عليها.
الجبهة الداخلية
في أعقاب الحرب الباردة، قللت الولايات المتحدة من أهمية الاستثمار في تعزيز الحيوية الاقتصادية داخلياً. في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية، اتبعت البلاد سياسة الاستثمار العام الجريء، بما في ذلك في البحث والتطوير وفي القطاعات الاستراتيجية. وقد كانت هذه الاستراتيجية بمثابة حاضنة لنجاحها الاقتصادي، ولكن مع مرور الوقت ابتعدت الولايات المتحدة عنها، فقد صممت حكومة الولايات المتحدة سياسات تجارية وقانوناً ضريبياً لم يول التركيز الكافي لكل من العمال الأميركيين ولكوكب الأرض. وفي خضم “نهاية التاريخ”، أكد عديد من المراقبين أنه من شأن المنافسات الجيوسياسية أن تفسح المجال أمام التكامل الاقتصادي، وكان معظمهم يعتقدون أن البلدان الجديدة التي تدخل النظام الاقتصادي الدولي ستعدل سياساتها لتلعب وفقاً للقواعد. ونتيجة لذلك، بات الاقتصاد الأميركي يعاني نقاط ضعف مثيرة للقلق. فبينما ازدهر الاقتصاد على المستوى الكلي، تم تقويض مجتمعات بأكملها إذ تخلت الولايات المتحدة عن زمام المبادرة في قطاعات التصنيع الحيوية. وفشلت في ضخ الاستثمارات اللازمة في بنيتها التحتية، وبذلك تلقت الطبقة الوسطى ضربة قاصمة.
منح الرئيس بايدن الأولوية للاستثمار في الابتكار والقوة الصناعية في الداخل، فيما بات يطلق عليه اسم “بايدنومكس Bidenomics”. ولا تهدف هذه الاستثمارات العامة إلى اختيار الفائزين والخاسرين أو إنهاء العولمة، بيد أنها تعمل على تمكين الاستثمار الخاص بدلاً من الحلول محله، كما تعزز قدرة الولايات المتحدة على تحقيق النمو الشامل، وبناء القدرة على المرونة، وحماية الأمن القومي.
وقد أطلقت إدارة بايدن ممكنات الاستثمارات الجديدة الأوسع نطاقاً منذ عقود، بما في ذلك قانون الاستثمار والوظائف في البنى التحتية الذي وافق عليه الحزبان، وقانون الرقائق والعلوم (قانون تحفيز صناعة أشباه الموصلات)، وقانون الحد من التضخم. وإننا نعكف على تعزيز الإنجازات الجديدة في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، والتكنولوجيا الحيوية، والطاقة النظيفة، وأشباه الموصلات، بالتوازي مع حماية مزايا الولايات المتحدة وأمنها من خلال ضوابط التصدير الجديدة وقواعد الاستثمار، بالشراكة مع الحلفاء. أحدثت هذه السياسات نقلة نوعية. وتضاعفت الاستثمارات الواسعة النطاق في إنتاج أشباه الموصلات والطاقة النظيفة بمقدار 20 ضعفاً منذ عام 2019. وتشير تقديراتنا الآن إلى أن الاستثمارات العامة والخاصة في هذه القطاعات ستبلغ بمجملها 3.5 تريليون دولار على مدى العقد المقبل. وقد تضاعف الإنفاق على البنى التحتية في مجال التصنيع منذ نهاية عام 2021.
تم تطوير السياسة الخارجية للولايات المتحدة في عصر سريع التحولات.
في العقود الأخيرة، أضحت سلاسل التوريد الخاصة بالمعادن الحيوية في الولايات المتحدة تعتمد إلى حد كبير على الأسواق الخارجية العصية على التنبؤ، التي تهيمن الصين على بعض منها. ولهذا السبب تعمل الإدارة على بناء سلاسل توريد مرنة ودائمة مع الشركاء والحلفاء في القطاعات الحيوية، بما في ذلك أشباه الموصلات، والطب والتكنولوجيا الحيوية، والمعادن الحيوية، والبطاريات، بحيث لا تكون الولايات المتحدة عرضة لقيود الأسعار وتقلبات العرض. يشمل نهجنا المعادن التي تعتبر مهمة لجميع جوانب الأمن القومي، مع الأخذ في الحسبان أن قطاعات الاتصالات والطاقة والحوسبة لا تقل أهمية عن قطاع الدفاع التقليدي. وقد كان من شأن كل هذا وضع الولايات المتحدة في موقف يخولها من استيعاب محاولات القوى الخارجية على نحو أفضل للحد من وصول أميركا إلى المدخلات الحيوية.
عندما تولت هذه الإدارة السلطة، وجدنا أنه على رغم أن الجيش الأميركي هو الأقوى في العالم فإن قاعدته الصناعية عانت سلسلة من نقاط الضعف التي لم تتم معالجتها. وبعد سنوات من شح الاستثمار، وهرم القوى العاملة، وتعطل سلسلة التوريد، باتت قطاعات الدفاع المهمة أضعف وأقل ديناميكية. تعكف إدارة بايدن على إعادة بناء تلك القطاعات، وتفعل كل شيء بدءاً من الاستثمار في القاعدة الصناعية للغواصات وانتهاء بإنتاج ذخائر أكثر حيوية حتى تتمكن الولايات المتحدة من صنع ما هو ضروري للحفاظ على قوتها الرادعة في المناطق التنافسية. نستثمر في الردع النووي الأميركي لضمان استمرار فعاليته بينما يقوم المنافسون ببناء ترساناتهم مع الإشارة إلى الانفتاح على المفاوضات المستقبلية للحد من الأسلحة إذا كان المنافسون مهتمين بذلك، كما أننا نعمل بجهود متضافرة مع المختبرات والشركات الأكثر ابتكاراً لضمان استفادة القدرات التقليدية المتفوقة للولايات المتحدة من أحدث التقنيات.
قد تختلف الإدارات المستقبلية عن إدارتنا في تفاصيل كيفية تسخير مصادر القوة الوطنية الداخلية. يعتبر هذا الموضوع مشروعاً للنقاش، بيد أنه في ظل عالم أكثر تنافسية، ليس ثمة أي شك في ضرورة قيام واشنطن بكسر الحاجز بين السياسة الداخلية والخارجية، وأن الاستثمارات العامة الكبرى تشكل عنصراً أساسياً في السياسة الخارجية. وقد فعل ذلك الرئيس دوايت أيزنهاور إبان خمسينيات القرن الـ20. وأننا بصدد فعل ذلك مرة أخرى اليوم، ولكن بالشراكة مع القطاع الخاص، وبالتنسيق مع الحلفاء، ومع التركيز على التقنيات المتطورة اليوم.
يداً واحدة الآن
كانت تحالفات الولايات المتحدة وشراكاتها مع الديمقراطيات الأخرى أعظم ميزة دولية تتسم بها، فقد ساعدوا في خلق عالم أكثر حرية واستقراراً، كما أسهموا في ردع العدوان أو درئه. وكانوا يقصدون أن واشنطن لن تضطر البتة إلى تحقيق ذلك بمفردها، لكن هذه التحالفات بنيت لعصر مختلف. وفي السنوات الأخيرة، لم تستغل الولايات المتحدة هذه الفرص بالقدر الكافي، أو حتى تعمل على تقويضها.
كان الرئيس بايدن واضحاً منذ لحظة وصوله إلى سدة الحكم في شأن الأهمية التي يوليها للتحالفات الأميركية، ولا سيما في ضوء تشكيك سلفه فيها، لكنه أدرك أنه حتى أولئك الذين دعموا هذه التحالفات على مدى العقود الثلاثة الماضية غالباً ما غضوا الطرف عن الحاجة إلى تحديثها من أجل المنافسة في عصر الترابط المتبادل. وبناء على ذلك، عززنا هذه التحالفات والشراكات بطرق مادية تعمل على تحسين الموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة وقدرتها على التعامل مع التحديات المشتركة. على سبيل المثال، حشدنا تحالفاً عالمياً من البلدان لدعم أوكرانيا في دفاعها عن نفسها ضد حرب مجحفة فضلاً عن فرض الكلف على روسيا، فقد توسع الناتو ليشمل فنلندا، وسرعان ما حذت السويد حذوها، وهما بلدان تاريخيان من بلدان عدم الانحياز، كما أعاد الناتو ترتيب أوراقه على جبهته الشرقية، ونشر القدرة على مكافحة الهجمات السيبرانية ضد أعضائه، ناهيك بالاستثمار في دفاعاته الجوية والصاروخية، كما شرعت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في تعزيز التعاون بشكل كبير في مجالات الاقتصاد، والطاقة، والتكنولوجيا، والأمن القومي.
نخطو خطوات مماثلة في آسيا. ففي شهر أغسطس (آب)، عقدنا قمة تاريخية في كامب ديفيد كان من شأنها تعزيز عصر جديد من التعاون الثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان وكوريا الجنوبية، في حين ارتقت بالتحالفات الثنائية بين الولايات المتحدة وتلك البلدان إلى آفاق جديدة. وفي مواجهة البرامج النووية والصاروخية الخطرة وغير المشروعة لكوريا الشمالية، نعمل على ضمان أن يكون الردع الموسع للولايات المتحدة أكثر فاعلية من أي وقت مضى حتى تظل المنطقة تحظى بالسلام والاستقرار. ولذلك، أبرمنا إعلان واشنطن مع كوريا الجنوبية، وهو السبب الكامن وراء تعزيزنا مناقشات الردع الثلاثية الموسعة مع اليابان كذلك.
قمنا من خلال اتفاق “أوكوس”، الشراكة الأمنية الثلاثية بين الولايات المتحدة وأستراليا والمملكة المتحدة، بدمج القواعد الصناعية الدفاعية للبلدان الثلاثة لإنتاج غواصات مسلحة تقليدياً تعمل بالطاقة النووية، وزيادة التعاون في مجال القدرات المتقدمة مثل الذكاء الاصطناعي، والمنصات المستقلة، والحرب الإلكترونية، كما أن الوصول إلى مواقع جديدة من خلال اتفاق التعاون الدفاعي مع الفيليبين يعزز الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وفي سبتمبر، سافر الرئيس بايدن إلى هانوي ليعلن أن الولايات المتحدة وفيتنام ستعززان علاقاتهما إلى مستوى شراكة استراتيجية شاملة. وقد أطلقت المجموعة الرباعية، التي تضم الولايات المتحدة وأستراليا والهند واليابان، العنان لأطوار جديدة من التعاون الإقليمي في مجالات التكنولوجيا والمناخ والصحة والأمن البحري. ونستثمر كذلك في شراكة القرن الـ21 بين الولايات المتحدة والهند، على سبيل المثال، من خلال “المبادرة الأميركية الهندية في شأن التقنيات الحرجة والناشئة”. ومن خلال “الإطار الاقتصادي من أجل الازدهار لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ”، نمضي قدماً لتعميق العلاقات التجارية والتفاوض على اتفاقات هي الأولى من نوعها في شأن مرونة سلسلة التوريد، واقتصاد الطاقة النظيفة، ومكافحة الفساد والتعاون الضريبي مع 13 شريكاً من أطياف مختلفة في المنطقة.
تعمل الإدارة على تعزيز الشراكات الأميركية خارج آسيا وعبر الروابط الإقليمية التقليدية. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي، قدمت الولايات المتحدة، في أول قمة جمعت قادة الولايات المتحدة وأفريقيا منذ عام 2014، سلسلة من الالتزامات التاريخية، بما في ذلك دعم عضوية الاتحاد الأفريقي في مجموعة الـ20 وتوقيع مذكرة تفاهم مع أمانة منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية، في جهد من شأنه أن يخلق سوقاً مشتركة على مستوى القارة يضم 1.3 مليار نسمة و3.4 تريليون دولار. وفي وقت سابق من عام 2022، حشدنا الجهود للتشمير عن ساعد الجد في نصف الكرة الغربي بخصوص الهجرة من خلال إعلان لوس أنجليس في شأن الهجرة والحماية وأطلقنا “شراكة الأميركتين من أجل الرخاء الاقتصادي”، وهي مبادرة تهدف إلى دفع التعافي الاقتصادي في نصف الكرة الغربي. وشكلنا تحالفاً جديداً يعرف باسم مجموعة “آي2 يو2” مع الهند وإسرائيل والولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة. وهو تحالف يجمع بين جنوب آسيا والشرق الأوسط والولايات المتحدة من خلال مبادرات مشتركة في شأن المياه والطاقة والنقل والفضاء والصحة والأمن الغذائي. وفي سبتمبر من هذا العام، انضمت الولايات المتحدة إلى 31 بلداً أخرى في مختلف أنحاء أميركا الشمالية، وأميركا الجنوبية، وأفريقيا، وأوروبا لإنشاء “الشراكة من أجل التعاون الأطلسي” للاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، وتعزيز الاستخدام المستدام للمحيطات، ووقف التغير المناخي، كما صغنا شراكة إلكترونية عالمية جديدة، تضم 47 بلداً ومنظمة دولية لمواجهة آفة الفدية.
وهذه ليست جهوداً معزولة، بل جزء من شبكة تعاون ذاتية التعزيز. يعد أقرب شركاء الولايات المتحدة عبارة عن ديمقراطيات زميلة، إذ سنعمل بحزم للدفاع عن الديمقراطية في جميع أنحاء العالم. أرست “القمة من أجل الديمقراطية”، التي دعا إليها الرئيس لأول مرة في عام 2021، قواعد مؤسسية لترسيخ الديمقراطية وتعزيز الحكم ومكافحة الفساد وحقوق الإنسان، ومكنت الديمقراطيات الزميلة من امتلاك الأجندة إلى جانب واشنطن، لكن مجموعة البلدان التي تعاضد رؤية واشنطن لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن هي مجموعة واسعة وقوية، إذ تشمل التي تتمتع بأنظمة سياسية متنوعة. وسوف نتعاون مع أي بلد مستعد للدفاع عن مبادئ ميثاق الأمم المتحدة بالتوازي حتى مع دعمنا الحكم الشفاف والخاضع للمساءلة ودعم الإصلاحيين الديمقراطيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
نعكف أيضاً على تنمية الروابط بين تحالفات الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ وأوروبا. تعد الولايات المتحدة أقوى في كل منطقة منهما بسبب تحالفاتها في المنطقة الأخرى، وذلك بأن الحلفاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ هم من أشد المؤيدين لأوكرانيا، في حين يساعد الحلفاء في أوروبا الولايات المتحدة في دعم السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، كما تسهم جهود الرئيس لتعزيز التحالفات أيضاً في أكبر قدر من تقاسم الأعباء منذ عقود، إذ تطلب الولايات المتحدة من حلفائها أن يكثفوا جهودهم في حين لا تتوانى هي بدورها عن بذل أضعاف ذلك. فثمة ما يناهز 20 بلداً من بلدان الناتو الماضية على المسار الصحيح لتحقيق هدف إنفاق اثنين في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع في عام 2024، بالمقارنة مع سبعة بلدان فقط في عام 2022. وقد وعدت اليابان بمضاعفة موازنتها الدفاعية، وتشتري صواريخ توماهوك الأميركية الصنع، ما من شأنه تعزيز ردعها للمنافسين المسلحين نووياً في المنطقة. وفي إطار اتفاق “أوكوس”، تعكف أستراليا على القيام بأكبر استثمار فردي في القدرة الدفاعية في تاريخها بينما تستثمر أيضاً في القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية، في حين أصبحت ألمانيا ثالث أكبر مورد للأسلحة إلى أوكرانيا، وهي تعمل على تحرير نفسها من الحاجة إلى الطاقة الروسية.
صفقة أفضل
أظهرت السنة الأولى لجائحة “كوفيد-19” أنه في حال كانت الولايات المتحدة غير راغبة في تسلم زمام الجهود الرامية إلى حل المشكلات العالمية، فليس ثمة من سيتدخل ليضطلع بذلك العبء. ففي عام 2020، لم يكد يتفوه عديد من قادة العالم بكلمة حيال ذلك، في حين كافحت مجموعة السبع من أجل توحيد كلمتها عندما ضربت جائحة “كوفيد-19”. وبدلاً من التنسيق الوثيق، بذلت البلدان جهوداً متباينة زادت من خطورة الوباء أكثر مما كان يمكن أن يكون عليه. وكثيراً ما اعتقد الرئيس بايدن وفريقه أنه لدى الولايات المتحدة دور حاسم تضطلع به في تحفيز التعاون الدولي، سواء في الاقتصاد العالمي أو الصحة أو التنمية أو البيئة، لكن التجربة الصادمة للأزمة العالمية في ظل غياب القيادة العالمية أزالت الغشاوة عن رؤية الرئيس للعالم. فعندما أمعنا النظر في المجموعة المروعة من التحديات العالمية، أدركنا أننا لن نضطر إلى استعادة القيادة الأميركية فحسب، وإنما سيتعين علينا أيضاً الارتقاء بمستوى أدائنا وأن نقدم للعالم، ولا سيما في الجنوب العالمي، منظومة قيم أفضل.
قسم كبير من العالم غير مبال بالمنافسات الجيوسياسية، فمعظم البلدان تريد أن تعرف أن لديها شركاء يمكنهم مساعدتها في معالجة المشكلات التي تواجهها، والتي يبدو بعضها مصيرياً. وهذه البلدان لا تشتكي الهيمنة الأميركية الزائدة عن اللزوم، بل على العكس تشتكي شحها. صحيح أنهم يقولون نحن ندرك أخطار التقرب من القوى الاستبدادية الكبرى، لكن أين البديل؟ يعلم الرئيس بايدن هذا. إذ أضحت الولايات المتحدة الآن قادرة على المنافسة في بقاع كانت غائبة فيها في السابق. وفي تلك المناطق التي كانت تتمتع فيها بميزة تنافسية أصبحت الآن تتسلم دفة القيادة بعزيمة ماضية وهدف جلي. وهي تفعل ذلك بالشراكة مع بلدان أخرى، ونتوصل إلى كيفية حل المشكلات الملحة معاً.
تربعت الولايات المتحدة على عرش قيادتها الطويلة الأمد في مجال التنمية العالمية، وحافظت على استثماراتها الحيوية في الصحة والأمن الغذائي، وحافظت على مكانتها كبلد سباق في تقديم الإنسانية والمساعدات الغذائية الطارئة في وقت يشهد حاجة عالمية غير مسبوقة. وفي الوقت الراهن، يقود الرئيس بايدن جهداً عالمياً لرفع سقف الطموحات إلى مستويات أعلى. تعطي الولايات المتحدة الأولوية لدفع عجلة التقدم نحو أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة. ولا تفتأ تعمل على توسيع نطاق بنوك التنمية المتعددة الأطراف، وتعبئة القطاع الخاص، ناهيك بمساعدة البلدان على إطلاق العنان لرأس المال المحلي. وكحجر زاوية في هذا الجهد، تعمل الإدارة على تحديث البنك الدولي بحيث يتسنى له معالجة التحديات الآنية الملحة بالسرعة الكافية وعلى نطاق واسع، ونحن نعمل مع الشركاء لزيادة تمويل البنك بشكل كبير، بما في ذلك البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، كما نمارس ضغوطاً من أجل إيجاد حلول لمساعدة البلدان الضعيفة على معالجة الديون غير المستدامة بسرعة وشفافية، فضلاً عن تحرير مواردها للاستثمار في مستقبلها بدلاً من تسديد أقساط الديون المرهقة.
في السنوات الأخيرة، تصدرت مبادرة الحزام والطريق الصينية المشهد، وتخلفت الولايات المتحدة في الاستثمار على نطاق واسع في البنى التحتية في البلدان النامية. والآن، تعمل الولايات المتحدة على حشد رؤوس أموال بمئات مليارات الدولارات من خلال “شراكة مجموعة السبع للبنية التحتية العالمية والاستثمار” لدعم البنى التحتية المادية والرقمية والطاقة النظيفة والصحة في جميع أنحاء البلدان النامية.
تدرك إدارة بايدن الحقائق الجديدة للقوة
تسلمت الولايات المتحدة دفة القيادة في مجال الصحة العالمية. وتعكف على الاستثمار أكثر من أي وقت مضى لإنهاء الأوبئة مثل فيروس نقص المناعة البشري/الأيدز والسل والملاريا باعتبارها تهديدات للصحة العامة بحلول عام 2030. وقد تبرعت بما يناهز 700 مليون جرعة لقاح ضد جائحة “كوفيد-19” لأكثر من 115 بلداً وما يقارب نصف جميع صناديق الاستجابة العالمية للوباء، في حين أنها تظل متيقظة حيال التهديدات الناشئة، كما تساعد 50 بلداً على الاستعداد لحالة الطوارئ الصحية المقبلة والوقاية منها والاستجابة لها. ولعله من المرجح أن معظم الناس لم يسمعوا عن حالات تفشي مرض “فيروس ماربورغ” أو “الإيبولا” في الآونة الأخيرة، لأننا تعلمنا الدروس من وباء “الإيبولا” في غرب أفريقيا عام 2014 واستجبنا قبل أن ينتشر المرض في شرق ووسط وغرب أفريقيا.
ليس بمقدور أي بلد أن يقدم عرضاً ذا صدقية للعالم إذا لم تكن جادة في ما يتعلق بالتغير المناخي. ورثت إدارة بايدن فجوة هائلة بين الطموح والواقع عندما يتعلق الأمر بالحد من الكربون. تقود الولايات المتحدة الآن عملية النشر العالمي لتكنولوجيا الطاقة النظيفة على نطاق واسع. ولأول مرة، ستفي البلاد بالتزامها الوطني بموجب اتفاق باريس للحد من صافي انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، والالتزام العالمي بجمع 100 مليار دولار سنوياً للبلدان النامية للتعامل مع التغير المناخي. وقد أطلقت مبادرات مشتركة مثل “شراكة التحول العادل للطاقة” مع إندونيسيا، والتي من شأنها تسريع انتقال قطاع الطاقة في ذلك البلد بدعم من المصادر العامة والخاصة.
لا تتمثل الغاية من الشراكات الجديدة الملائمة لأغراضها المنشودة في أن تحل محل المؤسسات الدولية القائمة. وتعمل إدارة بايدن على تعزيز وتنشيط تلك المؤسسات، وتحديثها بما يتناسب مع العالم الذي نواجهه اليوم. وفضلاً عن تحديث البنك الدولي، اقترح الرئيس أيضاً منح البلدان النامية دوراً أكبر في صندوق النقد الدولي. وستمضي الإدارة في محاولة إصلاح منظمة التجارة العالمية، حتى تتمكن من دفع التحول إلى الطاقة النظيفة، وحماية العمال، وتعزيز النمو الشامل والمستدام مع الاستمرار في دعم المنافسة والانفتاح والشفافية وسيادة القانون. وقد دعا الرئيس إلى إجراء إصلاحات شاملة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لزيادة عدد أعضائه، الدائمين وغير الدائمين، وجعله أكثر فاعلية وتمثيلاً.
يدرك الرئيس أيضاً أن الدول في حاجة إلى أن تكون قادرة على التعاون في مواجهة التحديات التي لم يكن من الممكن فهمها قبل وقت ليس ببعيد. وتبرز ضرورة هذه الحاجة الملحة بشكل خاص في ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي. ولهذا السبب جمعنا الشركات الأميركية الرائدة المسؤولة عن ابتكار الذكاء الاصطناعي لتقديم سلسلة من الالتزامات التطوعية لتطوير الذكاء الاصطناعي بطرق آمنة ومضمونة وشفافة. ولهذا السبب تعهدت حكومة الولايات المتحدة نفسها بتحقيق هذه الغاية، وأصدرت في فبراير إعلاناً في شأن الاستخدام العسكري المسؤول للذكاء الاصطناعي. ولهذا، نبني على هذه المبادرات من خلال العمل مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها وبلدان أخرى لتطوير قواعد ومبادئ قوية لحوكمة الذكاء الاصطناعي.
إن تقديم منظومة قيم أفضل هو عملية مستمرة، ولكنه ركيزة حيوية لإرساء أساس جديد للقوة الأميركية. ولا يعتبر ذلك الخيار الصائب الذي ينبغي عمله فحسب، وإنما يخدم في الوقت عينه مصالح الولايات المتحدة. فمن شأن مساعدة البلدان الأخرى لتصبح أقوى أن يجعل أميركا هي أيضاً أقوى وأكثر أمناً. فهي بذلك تخلق شركاء جدداً وأصدقاء أفضل. وسوف نستمر في صوغ العرض الإيجابي الذي تقدمه أميركا للعالم. وإنه ضروري للغاية إذا ما أرادت الولايات المتحدة أن تفوز بمنافسة رسم ملامح مستقبل النظام الدولي ليغدو حراً ومنفتحاً ومزدهراً وآمناً.
اختر معاركك
هيمنت على سياسة الدفاع الأميركية إبان تسعينيات القرن الـ20 أسئلة حول ما إذا كان يجب التدخل في البلدان التي مزقتها الحروب لمنع وقوع فظائع جماعية وآلية ذلك، لكن بعد أحداث 11 سبتمبر، حولت الولايات المتحدة تركيزها إلى الجماعات الإرهابية. بدا خطر الصراع بين القوى العظمى شبحاً بعيداً، بيد أن ذلك بدأ يتغير مع غزو روسيا جورجيا في عام 2008 وأوكرانيا في عام 2014، فضلاً عن التحديث العسكري الخطر الذي قامت به الصين واستفزازاتها العسكرية المتزايدة في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان، لكن أولويات أميركا لم تتأقلم بالسرعة الكافية مع التحديات المتمثلة في ردع عدوان القوى العظمى والرد عليه فور وقوعه.
كان الرئيس بايدن مصمماً على التأقلم، فقد أنهى مشاركة الولايات المتحدة في الحرب في أفغانستان، وهي أطول حرب في التاريخ الأميركي، وحرر الولايات المتحدة من قيود الاحتفاظ بالقوات العسكرية في الأعمال العدائية النشطة لأول مرة منذ عقدين. ومما لا شك فيه أن هذا التحول كان مؤلماً، ولا سيما بالنسبة إلى شعب أفغانستان والقوات الأميركية والموظفين الآخرين الذين خدموا هناك، بيد أنها كانت ضرورية لإعداد الجيش الأميركي لمواجهة التحديات المقبلة، والتي جاء أحدها بسرعة أكبر مما توقعنا، مع الغزو الروسي الوحشي لأوكرانيا في 24 فبراير 2022. ولو أن الولايات المتحدة كانت لا تزال تقاتل في أفغانستان، فمن المرجح أن تفعل روسيا كل ما في وسعها الآن لمساعدة “طالبان” على إغراق واشنطن في وحل الحرب هناك، ومنعها من تركيز اهتمامها على مساعدة أوكرانيا.
وحتى مع تحول أولوياتنا بعيداً من التدخلات العسكرية الكبرى، فإننا نبقى على أهبة الاستعداد للتعامل مع التهديد الدائم المتمثل في الإرهاب الدولي. نشطنا في أجواء أفغانستان، وعلى الأخص من خلال العملية التي صفت زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، وحيدنا أهدافاً إرهابية أخرى في ساحة المعركة في الصومال وسوريا وأماكن أخرى. وسوف نمضي قدماً في القيام بذلك، لكننا سنتجنب أيضاً الحروب الطويلة الأمد التي يمكن أن تقيد القوات الأميركية والتي لا تسمن ولا تغني من جوع في ما يتعلق بالحد من التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة.
وفي ما يتعلق بالشرق الأوسط بشكل عام، فقد ورث الرئيس منطقة رزحت تحت وطأة شديدة. شددت النسخة الأصلية من هذا المقال، المكتوبة قبل الهجمات الإرهابية التي شنتها “حماس” في إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، على التقدم الذي تم إحرازه في الشرق الأوسط بعد عقدين اتسما بالتدخل العسكري الأميركي الهائل في العراق، وحملة الناتو العسكرية في ليبيا، والحروب الأهلية المتأججة، وأزمات اللاجئين، وظهور دولة الخلافة الإرهابية المعلنة ذاتياً، والثورات والثورات المضادة، وانهيار العلاقات بين البلدان الرئيسة في المنطقة. ووصفت جهودنا للعودة إلى جادة نهج سياسة أميركية منضبطة تعطي الأولوية لردع العدوان، ونزع فتيل الصراعات، ودمج المنطقة من خلال مشاريع البنى التحتية المشتركة، بما في ذلك بين إسرائيل وجيرانها العرب. كان ثمة تقدم ملموس. دخلت الحرب في اليمن شهرها الـ18 من الهدنة، فيما هدأت رحى الصراعات الأخرى. انخرط القادة الإقليميون معاً في بوتقة عمل مشترك بشكل علني. وفي سبتمبر، أعلن الرئيس عن ممر اقتصادي جديد يربط الهند بأوروبا عبر الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والأردن وإسرائيل.
أكدت النسخة الأصلية من هذا المقال هشاشة التقدم وأن التحديات الدائمة لا تزال قائمة، بما في ذلك التوتر بين إسرائيل والفلسطينيين والتهديد الذي تفرضه إيران، كما ألقت هجمات السابع من أكتوبر بظلالها على المشهد الإقليمي برمته، التي لا تزال تداعياتها تتكشف، بما في ذلك خطر حدوث تصعيد إقليمي كبير، لكن النهج المنضبط الذي تبنيناه في الشرق الأوسط يظل جوهر موقفنا وتخطيطنا في إطار تعاملنا مع هذه الأزمة.
كما أظهر الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بالمطلق في إطار حمايتها لمواطنيها ودفاعها عن نفسها ضد الإرهابيين الهمجيين، عندما سافر إلى إسرائيل في زيارة نادرة في زمن الحرب في الـ18 من أكتوبر. وأننا نعمل بشكل وثيق مع الشركاء الإقليميين لتسهيل التوصيل المستدام للمساعدات الإنسانية للمدنيين في قطاع غزة. وقد أوضح الرئيس مراراً وتكراراً أن الولايات المتحدة تؤيد حماية حياة المدنيين أثناء النزاع واحترام قوانين الحرب. لا تمثل “حماس”، التي ارتكبت فظائع تذكرنا بأسوأ ويلات “داعش”، الشعب الفلسطيني، ولا تدافع عن حقه في الكرامة وتقرير المصير. وإننا ملتزمون حل الدولتين الذي يضمن ذلك. وفي الواقع، كثيراً ما تضمنت مناقشاتنا مع المملكة العربية السعودية وإسرائيل في شأن التطبيع على الدوام مقترحات مهمة للفلسطينيين. وفي حال الاتفاق على هذا المكون، فإن من شأنه بث الحياة في حل الدولتين وجعله قابلاً للتطبيق، مع اتخاذ خطوات مهمة وملموسة في هذا الاتجاه من قبل جميع الأطراف المعنية.
نتوخى الحذر من خطر تحول الأزمة الحالية إلى صراع إقليمي. وقد أجرينا اتصالات دبلوماسية واسعة النطاق وعززنا تموضع قوتنا العسكرية في المنطقة. ومنذ وصول هذه الإدارة لسدة الحكم، تصرفنا عسكرياً عند الضرورة لحماية الأفراد الأميركيين. ونحن ملتزمون ضمان عدم امتلاك إيران السلاح النووي بالمطلق. وفي حين أنه يجب ألا تكون القوة العسكرية الخيار الأول بالمطلق، إلا أننا نقف على أهبة الاستعداد لاستخدامها عند الضرورة لحماية أفراد الولايات المتحدة ومصالحها في هذه المنطقة المهمة.
نهجنا في أوكرانيا مستدام.
لا تغير الأزمة في الشرق الأوسط حقيقة أن الولايات المتحدة في حاجة إلى الاستعداد لعصر جديد من المنافسة الاستراتيجية، ولا سيما من خلال الردع والرد على عدوان القوى العظمى. وعندما علمنا أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يتأهب لغزو أوكرانيا، واجهنا تحدياً: لم تكن الولايات المتحدة ملتزمة بموجب معاهدة الدفاع عن أوكرانيا، بيد أنه إذا لم يتم الرد على العدوان الروسي، فسوف يندثر بلد ذو سيادة، وسترسل رسالة إلى المستبدين في جميع أنحاء العالم مفادها أن القوة تصنع الحق. وسعينا إلى تجنب الأزمة من خلال إيصال رسالة واضحة لروسيا مفادها أن الولايات المتحدة سترد من خلال دعم أوكرانيا وإظهار الاستعداد للانخراط في محادثات حول الأمن الأوروبي، حتى وإن لم تكن روسيا تأخذ القيام بذلك على محمل الجد، كما استخدمنا النشر العلني المتعمد والمصرح به للمعلومات الاستخباراتية لتحذير أوكرانيا، وتعبئة شركاء الولايات المتحدة، وحرمان روسيا من القدرة على خلق ذرائع كاذبة لغزوها.
عندما غزا بوتين أوكرانيا، نفذنا سياسة لمساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها دون إرسال قوات أميركية إلى ميدان الحرب. أرسلت الولايات المتحدة كميات هائلة من الأسلحة الدفاعية إلى الأوكرانيين وحشدت الحلفاء والشركاء لتحذو حذوها. ونسقت المهمة اللوجيستية الهائلة لتوصيل تلك المعدات القتالية إلى ساحة المعركة. وقد تم تقسيم هذه المساعدة إلى 47 حزمة مختلفة من المساعدات العسكرية حتى الآن، التي تم تنسيقها للاستجابة لحاجات أوكرانيا مع تطورها على مدى الصراع. وتعاونا بشكل وثيق مع الحكومة الأوكرانية في شأن متطلباتها ورتبنا التفاصيل الفنية واللوجيستية للتأكد من امتلاك قواتها كل ما تحتاج إليه. ورفعنا من وتيرة التعاون الاستخباراتي الأميركي مع أوكرانيا، فضلاً عن جهود التدريب. وفرضنا عقوبات شاملة على روسيا للحد من قدرتها على شن الحرب.
كما أوضح الرئيس بايدن بجلاء أنه إذا هاجمت روسيا أحد حلفاء الناتو، فإن الولايات المتحدة ستدافع عن كل شبر من أراضي الحلفاء، عبر دعم ذلك بنشر قوات جديدة. وأطلقنا عملية مع حلفاء الولايات المتحدة وشركائها لمساعدة أوكرانيا على تشييد جيش قادر على الدفاع عن نفسه براً وبحراً وجواً، وردع أي عدوان مستقبلي. يعتبر نهجنا في أوكرانيا مستداماً، على النقيض من أولئك الذين يروجون لخلاف ذلك، ومن شأنه تعزيز قدرة الولايات المتحدة على مواجهة كل الطوارئ في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. فالشعب الأميركي يعرف المتنمر عندما يراه. وهم يدركون أنهم إذا سحبوا الدعم الأميركي من أوكرانيا، فإن ذلك لن يقتصر أثره على وضع الأوكرانيين في موقف صعب أثناء دفاعهم عن أنفسهم فحسب، بل سيشكل سابقة رهيبة أيضاً، مما يشجع العدوان في أوروبا وخارجها. والدعم الأميركي لأوكرانيا واسع النطاق وعميق، وسوف يستمر.
المنافسة المقبلة
اتضح أن العالم أصبح أكثر قدرة على المنافسة، وأن التكنولوجيا ستغدو قوة مغيرة لموازين القوى، وأن المشكلات المشتركة ستصبح أكثر حدة بمرور الوقت، لكن كيفية تجلي هذه القوى ليست واضحة على وجه التحديد، فقد فوجئت الولايات المتحدة في الماضي (مع أزمة الصواريخ الكوبية في عام 1962 وغزو العراق للكويت في عام 1990)، ومن المرجح أن تفاجأ في المستقبل، بغض النظر عن مدى جهود الحكومة الحثيثة لتوقع ما هو آت (وقد أصابت وكالات الاستخبارات الأميركية كثيراً، بما في ذلك التحذير الدقيق من الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022). تم تصميم استراتيجيتنا للعمل في مجموعة واسعة من السيناريوهات. ومن خلال الاستثمار في مصادر القوة الداخلية، وتعميق التحالفات والشراكات، وتحقيق النتائج في مواجهة التحديات العالمية، والتحلي بالانضباط لدى ممارسة القوة، ستكون الولايات المتحدة مستعدة لتعزيز رؤيتها لعالم حر ومنفتح ومزدهر وآمن، بغض النظر عن المفاجآت التي يحملها المستقبل في جعبته. وقد خلقنا، على حد تعبير وزير الخارجية دين آتشيسون، “مواقف قوة”.
سيكون عصر المنافسة القادم مختلفاً عن أي شيء عهدناه من قبل، فقد كانت المنافسة الأمنية الأوروبية في القرن الـ19 ومطلع القرن الـ20 عبارة عن منافسة إقليمية إلى حد كبير بين قوى متوسطة الحجم ومتناظرة، وأفضت في نهاية المطاف إلى كارثة. اندلعت الحرب الباردة التي أعقبت الحرب الأكثر تدميراً في تاريخ البشرية بين قوتين عظميين كانت مستويات الترابط المتبادل بينهما متدنية للغاية. وانتهت تلك المنافسة بشكل حاسم لمصلحة أميركا، بيد أن المنافسة اليوم مختلفة جذرياً، وذلك بأن الولايات المتحدة والصين مترابطتان اقتصادياً. تغلب الصبغة العالمية على المنافسة حقاً، ولكنها ليست صفرية المحصلة. فالتحديات المشتركة التي يواجهها الجانبان غير مسبوقة.
كثيراً ما نسأل عن الوضع النهائي للمنافسة الأميركية مع الصين. نتوقع أن تظل الصين لاعباً رئيساً على الساحة العالمية في المستقبل المنظور. إننا نسعى إلى نظام دولي حر ومنفتح ومزدهر وآمن، نظام يحمي مصالح الولايات المتحدة ومصالح أصدقائها ويوفر المنافع العامة العالمية، لكننا لا نتوقع حالة تحول جذرية كتلك التي أسفر عنها انهيار الاتحاد السوفياتي. ستشهد المنافسة مداً وجزراً، إذ ستحقق الولايات المتحدة مكاسب، على غرار الصين التي ستحقق ذلك أيضاً. يجب على واشنطن أن توازن بين الشعور بالإلحاح والصبر، وفهم أن ما يهم هو محصلة أفعالها، وليس الفوز بجولة إخبارية واحدة. وأننا في حاجة إلى شعور مستدام بالثقة في قدرتنا على التفوق على أي بلد، فقد قلبت فترة السنتين ونصف السنة الماضية الافتراضات في شأن المسارات النسبية للولايات المتحدة والصين رأساً على عقب.
سيكون عصر المنافسة المقبل مختلفاً عن أي شيء شهدناه من قبل.
لا تزال الولايات المتحدة تتمتع بعلاقات تجارية واستثمارية كبيرة مع الصين، لكن العلاقة الاقتصادية مع الصين معقدة لأن البلد منافس لنا. ولن نقدم أي اعتذار في إطار ردعنا للممارسات التجارية غير المنصفة التي تضر بالعمال الأميركيين. وإننا نشعر بالقلق من أنه يمكن للصين أن تستفيد من انفتاح أميركا لاستخدام التقنيات الأميركية ضد الولايات المتحدة وحلفائها. وعلى هذه الخلفية، نسعى إلى “نزع المخاطر” والتنويع، وليس الفصل. فنحن نريد حماية عدد مستهدف من التقنيات الحساسة من خلال قيود مركزة، وخلق ما سماه البعض “ساحة صغيرة وسياجاً عالياً”. وقد واجهنا انتقادات من مختلف الجهات بأن هذه الخطوات تجارية أو حمائية، لكن هذا غير صحيح، وذلك بأنه تم اتخاذ هذه الخطوات بالشراكة مع الآخرين، وهي تركز على مجموعة ضيقة من التقنيات، وهي خطوات تحتاج الولايات المتحدة إلى اتخاذها في عالم تغلب عليه صبغة النزاعات لحماية أمنها القومي بالتوازي مع دعم الاقتصاد العالمي المترابط.
وفي الوقت عينه، نعمل على توثيق التعاون التكنولوجي مع الشركاء والحلفاء ذوي المشرب الفكري المماثل، بما في ذلك مع الهند ومن خلال مجلس التجارة والتكنولوجيا المشترك بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وهو منتدى تم إنشاؤه في عام 2021. وسنواصل الاستثمار في قدرات الولايات المتحدة وفي سلاسل التوريد الآمنة والمرنة، كما سنواصل تعزيز أجندة من شأنها ترسيخ حقوق العمال في السعي إلى الحصول على عمل لائق وآمن وصحي في الداخل والخارج لخلق فرص متكافئة للعمال والشركات الأميركية.
ستكون المنافسة محتدمة في بعض الأحيان، ونحن على أهبة الاستعداد لذلك. ونتصدى بقوة للعدوان والإكراه والترهيب ونذود عن قواعد الطرق الأساسية، مثل حرية الملاحة في البحر. ولعل قول وزير الخارجية أنتوني بلينكن في خطابه الذي ألقاه في سبتمبر خير شاهد على ذلك: “إن مصلحة أميركا الذاتية المستنيرة في الحفاظ على هذا النظام وتعزيزه لم تكن في أي وقت مضى أعظم منها اليوم”، كما ندرك أيضاً أن منافسي الولايات المتحدة، ولا سيما الصين، لديهم رؤية مختلفة جذرياً.
لكن يتعين على واشنطن وبكين معرفة كيفية إدارة المنافسة لتهدئة التوترات وإيجاد طريقة للمضي قدماً في مواجهة التحديات المشتركة. ولهذا السبب، تعمل إدارة بايدن على تكثيف الدبلوماسية الأميركية مع الصين، والحفاظ على قنوات الاتصال الحالية وإنشاء قنوات جديدة. استوعب الأميركيون بعض الدروس المستقاة من أزمات العقود الماضية، وبخاصة احتمال الانزلاق إلى رحى الصراع. ينطوي التفاعل الرفيع المستوى والمتكرر على أهمية بالغة لتوضيح التصورات المغلوطة، وتجنب سوء التواصل، وإرسال إشارات لا لبس فيها، وقطع دابر الانحدار الذي قد يؤدي إلى أزمة كبرى، لكن لسوء الحظ، بدت بكين في كثير من الأحيان وكأنها استخلصت دروساً مختلفة حول إدارة التوترات، وخلصت إلى أنه يمكن للحواجز الوقائية إذكاء نار المنافسة على ذات المنوال الذي تشجع به أحزمة الأمان على القيادة المتهورة (وهو اعتقاد خاطئ. فكما يؤدي استخدام أحزمة الأمان إلى خفض الوفيات الناجمة عن حوادث المرور إلى النصف، فإن الاتصالات وتدابير السلامة الأساسية تقلل من خطر وقوع حوادث جيوسياسية)، ولكن في الآونة الأخيرة، لاحت بوادر علامات مشجعة تشير إلى أن بكين قد تدرك قيمة الاستقرار. وسيكون محك الاختبار الحقيقي هو ما إذا كانت القنوات قادرة على الصمود عندما تتصاعد التوترات حتماً.
علينا أن نتذكر كذلك أنه ليس كل ما يفعله المنافسون يتعارض مع مصالح الولايات المتحدة، فقد أدى الاتفاق الذي توسطت فيه الصين هذا العام بين إيران والمملكة العربية السعودية جزئياً إلى خفض التوترات بين هذين البلدين، وهو تطور ترغب الولايات المتحدة في رؤيته أيضاً. لم يكن بوسع واشنطن أن تحاول التوسط في هذه الصفقة، نظراً إلى عدم وجود علاقات دبلوماسية أميركية مع إيران، ولا ينبغي لها أن تحاول تقويضها. وإذا ما تناولنا مثالاً آخر، تنخرط الولايات المتحدة والصين في منافسة تكنولوجية سريعة وعالية المخاطر، ولكن يتعين على الجانبين أن يكونا قادرين على العمل معاً في مواجهة الأخطار الناجمة عن الذكاء الاصطناعي. ولا يعد القيام بذلك علامة على التذبذب، بل يعكس تقييماً واضحاً بأن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يشكل تحديات فريدة للبشرية وأن القوى العظمى تتحمل مسؤولية جماعية للتعامل معه.
ومن الطبيعي أن البلدان غير المتحالفة مع الولايات المتحدة أو الصين لن تتعامل مع أي منهما، سعياً إلى الاستفادة من المنافسة في حين تسعى إلى حماية مصالحها الخاصة من أي آثار غير مباشرة. ترى عديد من هذه البلدان نفسها جزءاً من الجنوب العالمي، وهو التجمع الذي يتمتع بمنطقه الخاص ونقده المتميز للغرب والذي يعود تاريخه إلى الحرب الباردة وتأسيس حركة عدم الانحياز. ولكن، خلافاً لما حدث إبان الحرب الباردة، ستتجنب الولايات المتحدة مغريات رؤية العالم من خلال منظور المنافسة الجيوسياسية فقط أو التعامل مع هذه البلدان كميادين للتنافس بالوكالة. وبدلاً من ذلك، ستواصل التعامل معهم بموجب شروطهم الخاصة. وينبغي على واشنطن أن تكون واقعية في توقعاتها لدى التعامل مع هذه البلدان، وأن تحترم سيادتها وحقها في اتخاذ القرارات التي تخدم مصالحها الخاصة، بيد أنه يجب أيضاً رسم حدود واضحة لما ينطوي على القدر الأكبر من الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة. وهذه هي الطريقة التي سنسعى من خلالها إلى تشكيل العلاقات معهم: بحيث يكون لديهم في المحصلة حوافز للتصرف بطرق تتناغم مع المصالح الأميركية.
وفي غضون العقد المقبل، سينفق المسؤولون الأميركيون وقتاً أطول مما قضوه على مدى السنوات الـ30 الماضية في التحدث مع البلدان التي هم على خلاف معها، غالباً حول قضايا جوهرية. بات العالم أكثر تنافسية، وليس بمقدور الولايات المتحدة أن تتحدث إلا مع أولئك الذين يشاطرونها رؤيتها أو قيمها. وسنواصل العمل على تشكيل المشهد الدبلوماسي الشامل بطرق تعزز المصالح الأميركية والمصالح المشتركة. على سبيل المثال، عندما أعلنت الصين والبرازيل ومجموعة مؤلفة من سبعة بلدان أفريقية أنها ستواصل جهود السلام لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، فإننا لم نرفض هذه المبادرات من حيث المبدأ، وقد دعونا هذه البلدان إلى التحدث مع المسؤولين الأوكرانيين وتقديم ضمانات بأن مقترحاتهم للتسوية ستكون متسقة مع ميثاق الأمم المتحدة.
ستستغرق بعض البذور التي نزرعها الآن، مثل الاستثمارات في التكنولوجيا المتقدمة أو غواصات “أكوس”، سنوات عديدة لتؤتي ثمارها، ولكن هناك أيضاً بعض القضايا التي يمكننا أن نعمل على حلها الآن، أو ما نسميه “الأعمال غير المكتملة”. ويتعين علينا أن نضمن كياناً أوكرانياً ذا سيادة، وديمقراطية، وحرية، فضلاً عن تعزيز السلام والاستقرار في مضيق تايوان. ويتعين علينا أن نعمل على تعزيز التكامل الإقليمي في الشرق الأوسط مع الاستمرار في كبح جماح إيران، ناهيك بوجوب تحديث القاعدة العسكرية والصناعية الدفاعية للولايات المتحدة. وينبغي علينا أن نفي بالتزاماتنا المتعلقة بالبنى التحتية والتنمية والمناخ تجاه الجنوب العالمي.
الأمر متروك لنا
وصلت الولايات المتحدة إلى المرحلة الثالثة من الدور العالمي الذي تولته بعد الحرب العالمية الثانية. في المرحلة الأولى، أرست إدارة ترومان أسس القوة الأميركية لتحقيق هدفين: تعزيز الديمقراطيات والتعاون الديمقراطي واحتواء الاتحاد السوفياتي. وتضمنت هذه الاستراتيجية، التي نفذها الرؤساء اللاحقون، بذل جهد شامل للاستثمار في الصناعة الأميركية ولا سيما في التقنيات الجديدة، من خمسينيات القرن إلى سبعينياته. وقد بدأ هذا الالتزام بالقوة الوطنية من خلال الاستثمار الصناعي في التلاشي في ثمانينيات القرن الـ20، وباتت الحاجة إليه أقل إلحاحاً بعد الحرب الباردة. وفي المرحلة الثانية سعت الإدارات المتعاقبة، مع غياب منافس ند للولايات المتحدة، لتوسيع النظام القائم على القواعد بقيادة الولايات المتحدة فضلاً عن إنشاء أنماط من التعاون في القضايا الحاسمة. حولت هذه الحقبة العالم إلى الأفضل بطرق عدة، فأصبحت عديد من البلدان أكثر حرية وازدهاراً وأماناً، وتم الحد من الفقر العالمي، واستجاب العالم بفعالية للأزمة المالية في عام 2008، بيد أنها فترة شهدت في المقابل تغييراً جيوسياسياً.
تجد الولايات المتحدة نفسها الآن على مشارف الحقبة الثالثة: حقبة تتأقلم فيها مع فترة جديدة من المنافسة في عصر الترابط المتبادل والتحديات العابرة للحدود الوطنية. ولا يعني هذا القطيعة مع الماضي أو التنازل عن المكاسب التي تحققت، وإنما يعني إرساء أسس جديدة للقوة الأميركية. ويتطلب هذا إعادة النظر في الافتراضات الراسخة إذا أردنا أن نترك أميركا أقوى مما وجدناها وأكثر استعداداً لما يحمله المستقبل في جعبته. ولن تحدد نتيجة هذه المرحلة عبر قوى خارجية فقط. وإنما سيتم تحديد ذلك أيضاً، إلى حد كبير، من خلال خيارات الولايات المتحدة الخاصة.
ملاحظة المحرر
قبل نشر هذا المقال على الإنترنت، تم تحديث مقطع فيه عن الشرق الأوسط لتناول هجوم “حماس” على إسرائيل، والذي حدث بعد إرسال النسخة المخطوطة من المقال للطبع.
جيك سوليفان هو مستشار الأمن القومي الأميركي.
مترجم عن فورين أفيرز نوفمبر/ديسمبر 2023