ترك المبعوث الأميركي طوم باراك جميع اللبنانيين في حيرة. هو خيّب بلا شك آمال نصف اللبنانيين الذين كانوا “يتدخلون” في عمليات سلاح الجو الإسرائيلي و”يحاولون” تعديل وتوسيع برنامج غاراته اليومية على لبنان، مثلما أحبط أوهام النصف الآخر منهم الذين كانوا يفترضون أنه يمكن أن يسلّم لهم بالنصر على إسرائيل، ويتوقف عن التدخل في الشأن اللبناني.. ويعود الى قواعده التركية والسورية.
ولا تُستثنى من تلك الحيرة، السلطة اللبنانية نفسها، التي أنكرت ظهور الترويكا الرئاسية الموروثة من الحقبة السورية الاسدية البائدة، لكنها لم تقنع أحداً، بأن حزب الله مجرد “مستشار” يؤخذ رأيه في أمر يخصه وحده، وليس “الحزب السياسي الأكبر”الذي يحسب له حساب، حسب تعبير المبعوث الأميركي، ويفترض أن يكون رابع الثلاثي الرئاسي، أو ظلّه على الأقل.
لكن هذه الحيرة اللبنانية لم تكن، كالعادة وليدة التخريف السياسي اللبناني المعهود، الذي بلغ حدّ حبس الانفاس في الساعات التي سبقت وصول المبعوث الأميركي، وتحديد ساعة الصفر للحرب الإسرائيلية الساحقة الماحقة، التي تعوّض كل ما فات في حرب الشهرين المدمرة في خريف العام الماضي، وتمحو كل ما بقي من حجر وبشر في الجنوب والبقاع.. في الأصل كانت “ورقة” باراك نفسها التي أرسلت سابقاً الى الدولة اللبنانية ، محيرة فعلاً، فهي تتهم السلطة اللبنانية ب”عدم النجاح” في تنفيذ التزاماتها حسب اتفاق وقف النار، لكنها تلمّح الى ان حزب الله لم يخالف ذلك الاتفاق. وهي لا توجه أي إنذار ولم تحدد أي مهل زمنية لنزع السلاح، الذي بدا وكأنه بند من بنود الإصلاح، السياسي والاقتصادي والمالي في لبنان، مع أن الاعتقاد السائد لدى الغالبية الساحقة من اللبنانيين هو أن نزع السلاح هو شرط لأي إصلاحات يحتاجها لبنان على كل صعيد.
ما قاله المبعوث الاميركي في القصر الجمهوري، يحسم هذه المسألة بوضوح لا لبس فيه: نزع السلاح ليس شرطاً للإصلاح أبداً. وعلى الدولة اللبنانية مسؤولية ان تتعامل مع الحزب السياسي الأكبر في لبنان، الذي كان قبل هذا التصريح على لائحة المنظمات الإرهابية الأميركية، وأن تواجه وحدها مشكلة الطائفية السياسية الموروثة منذ عقود طويلة، والتي راكمت اجتماع 19 طائفة على الأرض اللبنانية ، التي يفترض أن تعود، كما يشتهي الرئيس دونالد ترامب شخصيا، “لؤلؤة المتوسط وجسر العبور بين الشرق والغرب”.
حزم المبعوث الأميركي بأن هذه التحديات هي مسؤولية اللبنانيين وحدهم، من دون ان يوضح أي لبنانيين يقصد، ومن دون أن يعترف بان الترويكا الرئاسية موجودة، برغم أنها “غير دستورية”، وبرغم أنها توجد هذه المرة بصيغة عجيبة لا تعكس الرغبات الأميركية: إثنان+ واحد.. ينضم إليها حزب الله، عندما يشاء فيدير الجلسات والنقاشات، بصفته طبعا الحزب السياسي الأكبر في لبنان، الذي يشبه تنظيم النصرة الخارج للتو عن لوائح الإرهاب الأميركية ليحكم سوريا.
أما توزيع المهمات والمسؤوليات بين لبنان وإسرائيل، فإن الامر سهل وبسيط، وهو يقتضي أن يواصل لبنان اصلاحاته بسرعة تتناسب مع التحولات الكبرى في المنطقة، التي لا ترضي حتى الإسرائيليين أنفسهم.. وأن يترك سلاح الجو الإسرائيلي يواصل غاراته اليومية من دون تدخل أو تشجيع أو تنديد من أي طرف لبناني، طالما أن حزب الله، لم يسلّم سلاحه الذي لو كان يحتفظ به في مخازن تحت الأرض اللبنانية، لما ترددت إسرائيل في قصفه وتدميره، على الاقل للحؤول دون وصوله الى الحركة الحوثية في اليمن!
في ما تبقى للسفير براك من وقت مع لبنان، قد تنفع مهمته في تبريد الرؤوس اللبنانية الحامية التي نسبت اليه ما لا شأن له به.
بيروت في 8 / 7 / 2025