أحمد نظيف
الكلمة السحرية التي حملها الرئيس الفرنسي معه في رحلته إلى فلسطين، هي محاربة الإرهاب. كيف يمكن أن نسحب حق المقاومة الذي تمنحه جميع الشرائع، ممن يقعون تحت الاحتلال، من يد الشعب الفلسطيني؟ قطعاً بتحويل هذه الفاعلية المناهضة للاستعمار إلى سلوك إرهابي. لكأن إسرائيل دولة طبيعية تعيش في محيط طبيعي وتعاني هجمات تشنها جماعات إرهابية، شأنها شأن فرنسا أو أميركا أو حتى لبنان أو سوريا. لذلك أراد أن يختم رحلته القصيرة التي كان شعارها “التضامن مع إسرائيل” بإطلاق مقترح حول “تحويل التحالف الدولي ضد داعش، الذي تشارك فيه فرنسا في العراق وسوريا، إلى القتال ضد حركة حماس”!.
الإدارة الفرنسية التي دعمت طويلاً حلّ الدولتين، وكانت أكثر تعقلاً في الدفاع عن احترام حقوق الشعب الفلسطيني، في الحد الأدنى، على أيام جاك شيراك، وكانت رافضة للحرب الأميركية على العراق وما تبعها من “الحرب على الإرهاب” السيئة السمعة، تحولت في عهد ماكرون إلى مجرد تابع للولايات المتحدة، وقد ظهر ذلك واضحاً في الحرب الأوكرانية، رغم ما يطلقه ماكرون من شعارات حول “الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي”. لكن اللافت أكثر، هو صمت إدارة ماكرون المديد عن الانتهاكات الإسرائيلية في الضفة الغربية وانتشار المستوطنات وضحايا الاقتحامات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، وفجأةً انتبهت لوجود “جماعات إرهابية” تهدد إسرائيل.
بلا شكّ يأتي المقترح الفرنسي في سياق دعم لا مشروط للإدارة الإسرائيلية في حرب الإبادة التي تشنها ضد الشعب الفلسطيني، وبتأثير واضح من صدمة هجوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الذي أيقظ الجميع من سبات طويل تجاه صراع تعفن لسنوات من دون حلّ، وكان الفلسطينيون ضحيته الأولى والأكثر دفعاً للثمن. ولكنه يأتي أيضاً في سياق نقل الرئيس الفرنسي مشكلاته الداخلية حول الهجرة والإسلام واليمين المتطرف نحو الخارج، أو الاستفادة من مناخ الأزمة في الشرق الأوسط لخدمة أجندته، وبخاصة أجندة وزير داخليته جيرالد دارمانان المعادية للأجانب والتي تتخذ من فزاعة “الإسلام” وسيلة للكسب الشعبي، لا سيما أن دارمانان يعتبر من المرشحين المحتملين لخلافة ماكرون في عام 2027.
يجد اليمين الفرنسي – في وسطه وأقصاه – في موضوعات “حرب الحضارات” المادة المفضلة لخوض الصراع السياسي تجاه اليسار وبين بعضه بعضاً، حيث تعلب موضوعات الصراع مع الإسلام والغرب على المناخ الأبرز لكسب القواعد الانتخابية. لذلك فإن الصراع الدائر في الشرق الأوسط، والذي أضفى عليه الطرفان، إسرائيل و”حماس”، بعداً دينياً واضحاً، يجد صداه في فرنسا على نحو يخدم مصلحة هذا اليمين الذي بدأ يشحذ قواه لانتخابات الرئاسة لعام 2027، إذ يريد تيار ماكرون ألا يترك المكان لليمين المتطرف، ولذلك فهو يحاول أن يسرق منه موضوعه الأثير وهو الهجرة والإسلام وحرب الحضارات. وقد نلمس ذلك خلال الشهر الأخيرة في سياسات متصاعدة من طرف السلطة ضد الأجانب، بالدعوة إلى وقف الهجرة التي تمثل خطراً “ثقافياً وأمنياً” على فرنسا، وكذلك ضد المسلمين، بدعوى محاربة “الإسلاموية”، والتي ترفع في كليْها شعارات “محاربة الإرهاب”.
من الناحية الأخلاقية، وحتى القانونية، يقوم المقترح الفرنسي على منطق غريب في إدانة الضحية والتضامن مع الجلاد. لكنه أيضاً يقوم على منطق أشد غرابة في التقابل بين سعي ماكرون لإعادة نفوذ بلاده  وحضورها في المنطقة العربية وشمال أفريقيا، والانحياز إلى جانب إسرائيل انحيازاً فجاً. اللافت أن ماكرون والنخبة الفرنسية الحاكمة، دأبا على الشكوى من تصاعد المشاعر المعادية لفرنسا في أفريقيا (تحديداً الدول ذات الغالبية المسلمة) وفي المغرب العربي، من دون أن تدرك أن مواقف بلادها الرسمية في فلسطين التي ما زالت تشكل جزءاً أساسياً من الوجدان الشعبي السياسي في المنطقة، تزداد كل يوماً قرباً من تل أبيب وبعداً من الحد الأدنى لما يستحقه الشعب الفلسطيني، أي على الأقل المحافظة على مواقف شيراك، التي أصبحنا نراها شديدة التقدمية والتاريخية مقارنة بما يجري.
قبل ستين عاماً كانت فرنسا تتهم جبهة التحرير الجزائرية بالإرهاب، لأن الجبهة كانت تخوض حرباً من أجل استقلال الجزائر. وقبل ثلاثين عاماً كانت الدول الغربية تضع منظمة التحرير الفلسطينية على لوائح الإرهاب الدولي، وقبل أربعين عاماً كان نيلسون مانديلا وحزبه التحرير على لوائح الإرهاب الغربية. ثم هبت رياح التحول الجذري، وأصبح حزب جبهة التحرير الجزائرية مفاوضاً للفرنسيين على الاستقلال، كما نزع الغرب عن ياسر عرفات صفة الإرهاب وفاوضه وسيطاً بينه وبين الإسرائيليين، والحال نفسها مع مانديلا.
الشاهد من ذلك، أن هذه الأوصاف ذات الطابع السياسي لسلوك المضطهدين ضد من يستعمرهم، لا يعول عليها طويلاً. ومصيرها الفشل، لأن قوة الضحية التي يحملها هؤلاء الذين يقع عليهم الاضطهاد، أقوى من أي إرادة هيمنة ممكنة. وهذا التشخيص، يكاد يكون قانوناً تاريخياً تثبته دروس التجربة الإنسانية. لكن العتب الغربي على طبيعة حركة التحرر الوطني “الإسلاموية” اليوم في فلسطين، يتحمل هؤلاء الغربيون جزءاً من المسؤولية عنه، عندما شاركوا في مشروع إنهاء منظمة التحرير الفلسطينية، التي لم تكن يوماً ذات طباع ديني، عبر تحويلها إلى سلطة صورية ثم وسيطاً أمنياً بين الشعب الفلسطيني ومن يحتله.