إنه جو الذي نعرفه. لديه قصتان مؤثرتان غالباً ما يعود إليهما بحسب المناسبة الإنسانية. أولهما مأساة وفاة زوجته الأولى وطفلته في حادث سيارة، في العام 1973، والثاني رحيل ابنه بسرطان في الدماغ.
جو الذي واجه الغول الرابض في البيت الأبيض باللجوء إلى الجانب الإنساني فيه، المتعاطف دائماً مع آلام الآخرين لأنه عاشها، الفتى الذي تغلب على التأتأة وصار مستعداً لمواجهة متنمر تاريخي مثل دونالد ترامب، العاقل، الرزين، الهادئ، المجرّب، السياسي التقليدي الذي تحتاجه أميركا للتخلص من عاصفة هوجاء التي استمرت طوال سنوات ترامب في الحكم.
الطيب جو لم يكن مشروعاً قائماً بنفسه كما كان باراك أوباما، ولم يكن في المقابل اشتراكياً “مخيفاً” مثل بيرني ساندرز حظوظه بالفوز في الرئاسة توازي حظوظه بالسفر إلى القمر. جو بايدن كان بالتحديد الحل الوحيد للتخلص من ترامب. انتخب ليس حباً به بل كرهاً بترامب الذي قدم له خدمة هائلة بالسيرك الذي أقامه وتوجه باقتحام مبنى الكابيتول. فكان دخوله إلى البيت الأبيض خلاصاً، ولو مؤقتاً، للاتحاد.
لكن جو الذي تعرفه المروحة الواسعة من الديموقراطيين والتقدميين والمستقلين وصولاً إلى أعداء “ماغا”، لا يحبونه بما يكفي لأن يغضوا النظر عن زلّاته في الكلام التي لم تتوقف مذ صار رئيساً، حتى باتت وسائل الأعلام تنتظر تعقيب البيت الأبيض على ما قاله (ونفيه بالتالي) لتبني على الشيء مقتضاه. لا يحبونه كفاية لأن يحافظ على أرقام قبول لدى جمهوره الديموقراطي نفسه، وهي تتهاوى شهراً بعد شهر. وعلى الأرجح أن ما قاله ويقوله، وما فعله وتفعله إدارته في الأسابيع الثلاثة الأخيرة، سيحوّل الكثير من الفئات التي كانت معه على مضض، إلى موقع الخصومة السياسية المباشرة.
هل سيؤثر دعم بايدن غير المحدود لإسرائيل على حظه في العودة إلى البيت الأبيض؟ هذا التنبؤ بصيغة سؤال بات يتكرر بشكل شبه يومي في مقالات وسائل الإعلام الغربية. إطلاق يد متطرف مثل بنيامين نتانياهو بالقتل بحجة حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها، السفر إليه على عجل وعناقه وتطييب خاطره، إرسال أكثر من 14 مليار دولار مساعدات عسكرية لسحق قطاع غزة على مدار الساعة. هذا الاحتضان العنيف المستمر منذ اليوم الأول لآلة الحرب الإسرائيلية، دفعت أطيافاً من اليسار الأميركي والأقليات على أنواعها، ومنها اليهودية، وفئات عمرية شابة إلى غضب لا ينفع معه حجة أن عدم التصويت له يعني عودة دونالد ترامب.
وفعلاً، ما الذي كان سيقوله ترامب بنزقه وعنصريته الفجّة، ولم يقله بايدن، وما الذي كان سيسمح به ترامب لنتنياهو ومنعه عنه بايدن؟
وإذا كان ترامب متصالحاً مع قيمه وأخلاقه وقاعدته الشعبية حين يقول إن الحرب تجري الآن بين المتحضرين والمتوحشين، فإن بايدن سيواجه غضباً عارماً وهو يقول بصلافة غير معتادة من جو الذي نعرفه، إنه لا يثق بأن “الفلسطينيين” صادقون في ما يعلنون عن عدد ضحاياهم. هذا الاختزال الشنيع للمأساة الواقعة الآن، بخلاف حول دقة أرقام “الفلسطينيين”، فيه من الفوقية والعنصرية ما يفوق التقسيم الترامبي البدائي للطرفين بين متحضر ومتوحش. بايدن يفاوض في الأسعار حتى قبل أن تنهي إسرائيل أعمالها في القطاع. كيف يقنع الفلسطينيون بايدن بأنهم يتعرضون لإبادة؟ ما هو الرقم الذي يقنعه بأن يشتري مأساة هؤلاء العرب المولودين لآلهة أقل؟ يقولون له مثلاً، لا بأس، نسامحك بألفين من ثمانية آلاف، وبأربعة آلاف من عشرين ألف جريح. هل هذا سعر مناسب لأن يحرك أحساسيك ويدفعك لأن تتماهى، ولو قليلاً، مع الضحايا بما أنك صاحب تجربة شخصية مع المآسي العائلية؟
جو بايدن ليس مقتنعاً بالأرقام بعد. يمنح إسرائيل المزيد من الوقت لأن تصحح الأرقام المغلوطة التي يعلنها الفلسطينيون. والحرب مفتوحة، كلما تقدمت، تقل الاختلافات الفارقة بين بايدن وترامب. في ختامها، وبغض النظر عن “الأرقام”، وكما في نهاية “مزرعة الحيوان” لجورج أورويل، سيكون جو بايدن قد تحوّل، في نظر مقترعين، إلى دونالد ترامب. أرقام هؤلاء ليست واضحة الآن، لكنها ستكون شديدة الدقة في الانتخابات التي باتت على الأبواب. وهناك الكثير ممن بدأ يقول لجو بادين: لن أغفر لك ما فعلته.