يحتفل العالم هذه الأيام بمرور 150 على ولادة الحركة الانطباعية. وكان متحف أورسيه المبادر لافتتاح معرض بعنوان “باريس 1874… ابتكار الانطباعية”. وتلي المعرض مؤتمرات علمية وجولات، وكذلك تنظيم معارض أُخرى. وتنتقل الاحتفالات عبر المحيط، وخاصةَ إلى غاليري واشنطن الوطني. وبهذا، يعبّر العالم القديم والعالم الجديد عن العرفان والتقدير لحركة الفنّ التعبيري، التي أتاحت للعالمين القديم والجديد أن يصبحا شريكين في محبته.
الانطباعية/ impressionnisme هي أحد أقوى تيارات الفن في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. نشأت في فرنسا، ومنها انتشرت إلى العالم. تميّز ممثلو الحركة الانطباعية بالسعي لابتكار وصياغة أساليب وطرق جديدة تتيح لهم، بصورةٍ طبيعية أكثر، التعبير عن العالم الواقعي وحركته، والتغيرات التي تطرأ عليه. وأهمّ طرق الانطباعية في الرسم أن يقوم الرسّام بفهم وتصوير الموضوعات من حوله ليس لذاتها، بل في علاقتها مع المحيط المكاني والضوء الذي ينير المكان. كما يؤكد الرسّام على الانعكاسات، ويركّز على البقع الضوئية، ويبرز العلاقة بين الظلّ والنور، وبصورةٍ أكثر شمولية: يقوم الرسّام من التيار الانطباعي برسم الزمان والمكان. كانت انطلاقة الحركة الانطباعية من الرسم، ولكنّها توسعت في ما بعد إلى الموسيقى والأدب.
فماذا نعرف عن الانطباعية بعد 150 عامًا على نشأتها؟
يعود تاريخ أصل كلمة Impressionism إلى 15 من أبريل/ نيسان عام 1874، حيث جرى افتتاح معرضٍ فنيّ نظمته جمعية مجهولة ضمت مجموعةً من الفنانين والنحاتين والنقاشين، وما شابه. بعد عشرة أيامٍ على المعرض، وفي مراجعةٍ أعدها الناقد الذكي والمشهور لويس ليروي لمجلة le Charivari وردت كلمة الانطباعيين للمرة الأولى كتعبيرٍ عن الإعجاب والتأثُّر. كانت لوحة الرسّام كلود مونيه (1840 ـ 1926) التي حملت عنوان “انطباع/ solei levant شروق الشمس” (1872) هي السبب في انتشار مصطلح الانطباعية. كتب لويس ليروي: “بالطبع، كنت أعرف. وليس عبثًا أن أكون واقعًا تحت تأثير مثل هذا الانطباع. من المستحيل هنا أن لا يوجد انطباع! فيا لها من حرية، ويا لخفّة اللمسة. سيبدو ورق الرسم في هذه المرحلة أكثر تفصيلًا من اللوحة نفسها”. أمّا في الملصقات الإعلانية فقد ظهرت كلمة “الانطباعية” فجأةً، وبمحض الصدفة: فقد كان إدموند، شقيق أوغست رينوار، يعد كتيب معرض ما، فشعر بإحباطٍ شديد من العناوين المضجرة والمتشابهة التي أطلقها مونيه على لوحاته، من قبيل “دخول القرية”، و”الخروج من القرية”، و”الصباح في القرية”. وعندما شارك إدموند أخاه الرسام امتعاضه، قال له أوغست رينوار ببساطة: “أضف إلى العنوان كلمة انطباع”، فطارت الكلمة والتقطها الجميع. في البداية، قاوم الانطباعيون أنفسهم لفترة طويلة تلك الكلمة. ومع ذلك، رفع المعرض المستقل التالي (1877) لوحة إعلانية ضخمة كتب عليها “المعرض الثالث للانطباعيين”، وكانت من بين معروضاته أعمال للفنانين الذين عارضوا التسمية. منذ تلك المرحلة، أصبحت كلمة الانطباعية راسخة في تاريخ الفنّ، وراحت تجذب إلى فلكها حتى أولئك الذين لم يوقعوا قط أعمالهم تحت هذا المسمّى.

منذ انطلاقته، ظهرت صعوبات في فهم هذا المصطلح. فمن كان هؤلاء “الانطباعيون” الذين أطلقوا هذا التيار الفني الجديد؟ إنّهم 31 فنانًا اختاروا بأنفسهم حوالي 200 عمل من إبداعهم، من دون لجنة تحكيم، أو ممثلين للمشاركين. ومن بين أسماء أولئك الفنانين دخل سبعة منهم فقط تاريخ الفنّ، وهم: مونيه، رينوار، إدغار ديغا، بيرث موريسوت، كاميل بيسارو، ألفريد سيسلي، والشابّ بول سيزان، الذي شكّك به المنظمون وقتها بقوة. كان اسم الشاب بول سيزان القشّة التي قصمت ظهر البعير، والتي أكّدت للفنان إدوارد مانيه أنّه لا ينبغي له الانضمام إلى هذه الشراكة، الأمر الذي أفصح عنه لصديقه إدغار ديغا عندما دعاه للمشاركة في المعرض، أجابه: “لن أعرض لوحاتي أبدًا إلى جانب لوحات السيد سيزان”. على الرغم من الأسماء اللامعة التي سبقت الإشارة إليها، فقد كان الجزء الأكبر من اللوحات المعلقة على جدران الاستديو البنية والحمراء لفنانين آخرين. والأهمّ من ذلك أنّ الأعمال المعروضة كانت في مجملها بعيدة كلّ البعد عن أسلوب مونيه ورفاقه. لم تكن هنالك قواسم مشتركة تجمع بين المؤلفين، بل على العكس كانت بينهم تناقضات عدّة واضحة للعيان؛ أولّها فارق العمر بين المؤلفين (40 عامًا تفصل بين أدولف فيليكس كالز، وأصغر المشاركين ليو روبرت)، وثانيها التناقض الكبير بين أصول المشاركين (عائلات ديغا، أو بيرث موريسوت البرجوازية الغنية لم تكن لها علاقة بأي حالٍ من الأحوال مع البيئة الاجتماعية للرسام الفوضوي بيسارو، أو رجل كومونة باريس أوغست أوتن)، وثالثها تناقض وجهات النظر السياسية لدى المؤلفين (من معاداة السامية التي عرف بها رينوار وديغا إلى يهودية بيسارو)، وأخيرًا تناقض الأفكار الجمالية (كان عدد من أعضاء تلك الجمعية المجهولة قد عرضوا في الصالون الرسمي، ورأوا فيه وفي تقاليده قوة مؤثرة). إن كان هناك قاسم مشترك بين المشاركين في المعرض فهو المصلحة المالية، والرغبة في تقديم أنفسهم إلى الجمهور.
من حيث اكتساب الشهرة، فقد نجح الأمر بالفعل، إذ أمَّ المعرض حوالي 3500 زائر، وكانت هنالك كثير من المراجعات والنقاشات (وإن كانت سلبية في غالبيتها)، ولكنّ المهمّ أنّ الجمهور بدأ يتحدث عن الانطباعية بالفعل. من الناحية المادية، كانت النتائج محبطة تمامًا، فعلى الرغم من العرض المشوق، وعلى الرغم من استمرار العروض على ضوء الكاز حتى العاشرة ليلًا، إلاّ أنّ رسوم الدخول وأسعار الكاتالوغات كانت منخفضةً، وبالتالي لم يتم تغطية نفقات أعضاء الجمعية. وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه، حُلّت الجمعية.
على الرغم من ذلك، وبعد عقدين فقط، ستجتاح العالم حمّى الانطباعية، وستباع أعمال هؤلاء الفنانين، وأعمال فنانين آخرين غيرهم، كما يباع الرغيف الساخن. من الواضح أن معظم الأموال كانت من الخارج، لتستقرّ كلّ الأعمال التي كانت في السوق ضمن المجموعات الأميركية. من الجيّد أن الدولة الراعية للصالون (فرنسا) بادرت إلى شراء لوحات رفيعة المستوى من أعمال أفراد هذه “العصابة” كما أطلق عليها الناقد كورو. وقد نشأ متحف أورساي إلى حدّ كبير من هذه المشتريات. من ناحية أُخرى، عمل التجار الروس كثيرًا في هذا المجال، فاقتنوا عددًا من اللوحات الانطباعية التي تزين اليوم متاحف موسكو، وسان بطرسبورغ. لقد كان الفنان إدغار ديغا محقًا بالفعل بدعوته أصدقائه إلى المعرض: “إنّ فكرتنا شيءٌ جيد. إنّها بسيطة في جوهرها وخطوة شجاعة. قد نقوم، كما يقولون، بأعمالٍ وضيعة، ولكنّ المستقبل لنا بكلّ تأكيد”.
بدأت دراسة تاريخ الانطباعية بسرعة. وبعد تحليلات نقدية، جاءت أعمالٌ أساسية لتؤكّد: أولًا، أنّ الانطباعية شكلت بداية الحداثة ككل، وثانيًا، أنّ تاريخ الحركة الانطباعية قد كتب استنادًا إلى وثائق ومذكرات، وغيرها من المصادر المعتادة. خلال نصف القرن الأول من تاريخ الانطباعية، تمّ صياغة السمات الأساسية للرسم الانطباعي، التي رفض كثير منها في ما بعد. شكل الضوء وحالة الطبيعة محور اهتمام الفنانين الانطباعيين (على عكس الطبيعة كموضوع بحدّ ذاتها). ومن هنا، على سبيل المثال، احتوت لوحات الفنانين الانطباعيين طيوفًا ضوئيةً فاتحة أكثر بكثير مما كان في السابق. وبحسب بودلير، فإنّ ما ميّز الفنانين الجدد عن ما سبقهم من الفنانين هو تناولهم مواضيع “الحياة الحديثة”، وليس الأحداث التاريخية. كان الفنانون الانطباعيون يضعون اللمسات الأخيرة على لوحاتهم ليس من الطبيعة في الهواء الطلق، بل في ورشات العمل باستخدام صورٍ فوتوغرافية، أو باستخدام مسودات سبق أن رسموها.
في سبعينيات القرن العشرين، أصبح من المألوف دراسة فنّ الصالونات، لأنّه اتضح أنّه بدونه لا يمكن فهم الأمور التي يتجنبها الانطباعيون، وكذلك لا يمكن معرفة موضوع الجدالات التي كانت تدور بينهم. في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، برز إلى الواجهة بقوة الجانب الاجتماعي لفنّ القرن التاسع عشر، وهنا أصبح النقد الفني الماركسي مفيدًا. في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، شهدنا موجات مختلفة من التوجهات، مثل النقد الفني للنسوية، وحتى الخطاب المناهض للاستعمار. وقد وصل الأمر بأنّ النقاشات الجدية تتناول حتى مإ إذا كان الفنّ الانطباعي هو بمثابة الحركة البيئية الأولى، أو أنّه ليس أكثر من منتجات عصر الثورة الصناعية.
في عام يوبيل الانطباعية، وعلى الرغم من المحاولات التي يقوم بها النقاد، تبدو رؤية جوهر الأمور أهمّ من الحديث عنها والتفكّر فيها، وذلك على الرغم من وجود كثير مما يمكن الحديث عنه، أو التفكير فيه، مثل: الجندر، العرق، الانطباعية في الأدب، أو في الموسيقى، والسياسة في فنّ الانطباعيين… ولم يكن من قبيل المصادفة أنّه في عام 1874، وفي إحدى المراجعات، جرت صياغة الأمر الأهم: ما يثير الاهتمام ليس “أنّهم يرون الأشياء”، بل “كيف يرونها”. وبعد الانطباعيين، أصبحت هذه العبارة قانونًا.