عرضت فضائية الجزيرة، قبل نحو عشرين عامًا، استطلاع رأي مرتجلا في بعض المدن العربية، شمل عيّنات من الشباب في الشوارع والمجمّعات التجارية، قام على سؤال وحيد: ماذا تعرف عن نكسة حزيران؟ كانت الردود الصادمة، في غالبيتها الساحقة، صمتا واستغرابا وتلكؤا أمام سؤال غريب لأنهم لم يسمعوا بتلك النكسة. كان هذا قبل شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، وفي بلدانٍ عربيةٍ لا تصنّف بأنها مما تسمّى “دول المواجهة”.
الوضع اليوم مختلف، لم يعد هناك حدث يمكن أن يقع في أي بقعة من الأرض، إلّا وتصل الأخبار والصور والمشاهد الحية عنه في الدقائق الأولى لوقوعه، فكيف بحربٍ كالتي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة؟ لقد تحرّكت الشعوب في الدول العربية وفي عواصم ومدن عديدة تطالب بوقف الحرب، بحماية المدنيين، بحماية الأطفال، بفكّ الحصار، وتجاوزتها إلى شعار جامع يردّده المتظاهرون “الحرّية لفلسطين”، وهذا مؤشّر طيب، يبشّر بأن هناك وعيًا بدأ يتشكّل حول قضية شعبٍ يعاني من الاحتلال والتهجير والتشريد وشنّ الحروب، ومحاولات محو الهوية، وبدأ الاهتمام بها.
غالبية المتظاهرين في العالم من جيل الشباب، هذا عدا الفيديوهات التي تتدفّق بغزارة على “يوتيوب” ومنصّات التواصل المختلفة، ينتمي قسم كبير من معدّيها إلى جيل الشباب، ولهذا دلالاته الإيجابية، فما يحصل اليوم في العالم من حروب وأزمات في الدول وفي الاقتصادات الكبيرة، وينعكس على حياة الشعوب، جعل جيل الشباب يطرح أسئلته الخاصة، بل دفعه إلى تحطيم يقينيّاته التي نشأ عليها، والسرديات التي تشربها بواسطة الثقافة السائدة في محيطه برعاية الأنظمة المسيطرة، سياسيًّا كان أو اجتماعيًّا أو حتى دينيًّا، وراح يتقصّى الحقائق، مدفوعًا بقيم نشأ عليها، وطالما سعت تلك الأنظمة إلى رفعها عنوانًا يحمل قيم العدالة والحرية والمساواة وحقوق الشعوب والأفراد، بينما أظهر الواقع ازدواجية المعايير عندما تعلق الأمر بالحرب على غزّة، وأن التحالفات دائمًا تتبع المصالح في صراعها على سيادة العالم ولو بالقوة.

الشارع الفلسطيني منقسمٌ منذ أول خلاف نشأ بين الطرفين بعد قيام السلطة الفلسطينية في العام 1994

في الوقت نفسه، نرى أن فاتحة أي نقاش أو تحليل لما يجري في غزّة، في العالم الغربي بشكل صريح، وفي معظم الدول العربية بشكل موارب، هو إشهار النيّات بإعلان الموقف تجاه ما قامت به حركة حماس في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، ليكون الموقف المعلن، أو المفنّد، عتبة الدخول إلى نقاش وقائع الميدان، وما يقترف من جرائم بحق الإنسانية.
من الطبيعي أن يكون هناك خلافٌ بشأن ما قامت به “حماس”، فالشارع الفلسطيني منقسمٌ منذ أول خلاف نشأ بين الطرفين بعد قيام السلطة الفلسطينية في العام 1994، وانضواء قطاع غزّة تحت سلطتها، إذ تعمّقت الفجوة بين السلطة و”حماس”، ونفّذت السلطة حملات اعتقالات واسعة تركّزت على قيادات حركة حماس وعناصرها وجهازها العسكري، خصوصا الحملة الكبيرة في فبراير/ شباط 1996 عندما قامت الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة بأوسع حملة اعتقالات ضد عناصر حركتي حماس والجهاد الإسلامي في الضفة الغربية وقطاع غزّة استمرّت عدة أشهر، تبعها اعتقال قيادات في “حماس”، في مقدمتهم محمود الزّهار وأحمد بحر وغازي حمد وإبراهيم المقادمة. إلى أن قامت انتفاضة الأقصى في العام 2000، فاتحد الفلسطينيون حولها ضد الاحتلال، وفتحت أبواب الحوار الداخلي برعاية مصر وانتهى باتفاق القاهرة بين الفصائل في مارس/ آذار 2005.
وفي العام 2006 جرت الانتخابات التشريعية الثانية الفلسطينية، شاركت فيها “حماس” للمرّة الأولى، وفازت بأغلبية المقاعد في المجلس التشريعي، ما لم ترضَ عنه السلطة أو حركة فتح، شكّلت الحركة حكومتها برئاسة إسماعيل هنيّة، وكل ما تلا ذلك معروف، ومعروفة الخلافات التي وصلت إلى حد المواجهات والاغتيالات أحيانًا، وماثل في البال احتلال إسرائيل لها، والحروب التي شنّتها منذ ذلك التاريخ، مضافة إلى حروبها السابقة.

لا قيمة لتفنيد ما قامت به “حماس” أمام ما يحصل، مهما اختلف بعضهم معها

يقابل هذا الانقسام بالتوازي انقسام بين الأنظمة العربية أيضًا، بين مؤيّد نهج “حماس” في المقاومة ومؤيد لسياسة السلطة في الضفة، هذا معروف، بل إن دولا عربية عديدة اتخذت لنفسها مسارات أخرى، وذلك بالتطبيع مع إسرائيل، تزامن هذا الحراك السياسي، وتوالي التطبيع والعلاقات مع إسرائيل مع اشتعال المنطقة العربية في أكثر من منطقة بما سمّي الربيع العربي، والحروب التي اشتعلت من دولةٍ إلى أخرى، اليمن، سورية، ليبيا، تونس المتعثرة، العراق قبلها، السودان، وقبلها الجزائر، ما جعل القضية الفلسطينية تنزاح بعض الشيء إلى هامش المشهد.
أمّا ما يحصل اليوم من إجرام إسرائيلي بحقّ سكّان قطاع غزّة، وبحقّ فلسطينيي الضفة الغربية والمخيمات فلا يمكن وضعه في الميزان نفسه، لا قيمة لتفنيد ما قامت به “حماس” أمام ما يحصل، مهما اختلف بعضهم معها، ولا يوجد تناسبٌ بين الفعل وردّة الفعل، لقد ذهبت المشكلة إلى ساحة أخرى. ما يحصل يرقى إلى إبادة شعب، فالدمار الذي يقع بالغارات المتلاحقة منذ اليوم الأول شمل أكثر من نصف أبنية القطاع ومرافقه العامة وبنيته التحتية ومشافيه ومراكز الإيواء والمراكز الصحية وغيرها، وحصد خلال فترة قصيرة ما يقارب تسعة آلاف شخص جلهم من الأطفال والنساء وكبار السن، عدا المفقودين، وهجّر الباقين على حافّة الموت المحدق بحياتهم إلى مناطق أخرى لاحقهم القصف إليها.

الأم الفلسطينية مرهونةٌ لواجب الولادة كي لا ينقرض شعبها المظلوم

كيف يقبل إنسانٌ يعيش في هذا العصر، عصر الحقوق الإنسانية التي تتبجّح بها أنظمة العالم “المتحضّر”، أن يُنظر إلى شعبٍ على أنه مجموعة من “الحيوانات البشرية” غير جديرة بالحياة، ما يبرّر إبادتها؟ أم أن النزعة الاستعلائية ما زالت في وجدان هذا العالم، عندما اقتاد المستعمرون الإنكليز “عيّنات” من “الحيوانات البشرية” من السكان الأصليين لأميركا، وعرضوهم في أقفاص أمام شعوبهم؟
إبادة ممنهجة لبذور الحياة، تستهدف النساء والأطفال، هل يفهم العالم هذه المعادلة البسيطة للأم الفلسطينية؟ الأم التي ترهن حياتها من أجل إنجاب الشهداء، لا تقوى على أن تعيش أمومتها وتفرح بضناها، الأم الفلسطينية مرهونةٌ لواجب الولادة كي لا ينقرض شعبها المظلوم، عندما نعرف أن هناك خمسين ألف حامل في القطاع اليوم، وأن خمسة آلاف منهن على أبواب الولادة خلال أيام، وأن ما ينتظر هؤلاء المواليد، وفقًا للجرائم التي ترتكب، هو الموت. نفهم لماذا يولد طفل في غزّة كل عشر دقائق، فلو حسبنا عدد الضحايا من الأطفال والمفقودين منهم، لفهمنا المعادلة، إذ يقتل كل عشر دقائق طفل، وكل ربع ساعة امرأة.
الموقف مما يجري في غزّة واجب أخلاقي إنساني، وليس موقفًا سياسيًّا، هذا ما يدفع الشعوب إلى التظاهر في مدن كثيرة. السياسة تأتي لاحقًا، لو كانت الحكومات المتلاحقة منذ النكبة في 1948 في الدول العربية، منتخبة فعليًّا من شعوبها، ولو أنها كانت تعمل لأجل شعوبها، ولم تمارس طغيانها وإقصاء الشعب عن صنع القرارات والسياسات، هل كانت قضية فلسطين وصلت إلى كل هذا الاستعصاء؟ هل كانت مساراتها ربما اتخذت احتمالات أفضل؟ وهل كانت الشعوب ترزح، في بعضٍ منها، تحت مقصلة الرقيب فيما لو انتفضت لتصرخ في وجه الحرب والغطرسة الإسرائيلية والصمت العربي؟