مقالٌ معاكسٌ تماماً للتوقّعات العامّة بشأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا نُشر منذ 10 أيّام، ولم يحظَ على الأرجح بالأضواء المناسبة. أمرٌ مفهوم في ظلّ خروج حرب الظلّ بين إسرائيل وإيران عن ضوابطها السابقة. فبين 1 و20 نيسان (أبريل)، كان العالم يراقب ما إذا كانت الضربات المتبادلة بين الطرفين ستجرّ الشرق الأوسط إلى حريق شامل. بعدما هدأت ألسنة اللهيب قليلاً، يمكن العودة إلى المقال المثير للجدل.
بدعوة خاصّة من مجلّة “إيكونوميست”، كتب البروفسور في جامعة بكين فينغ يوجون تحليلاً في 11 نيسان يؤكّد أنّ روسيا ستخسر الحرب مع أوكرانيا. لو أنّ مقال الرأي صدر عن أحد المحلّلين الغربيّين المؤيّدين لكييف لكان استرعى بالتأكيد اهتماماً أقلّ. لكن أن يصدر التحليل عن محلّل صينيّ في إحدى أهمّ الجامعات الصينيّة أمرٌ يستدعي وقفة معيّنة.
أربعة عوامل تنبئ بـ”الهزيمة”
استند فينغ إلى أربعة عوامل ليخرج باستنتاجه: أوّلاً، مستوى المقاومة والوحدة الوطنيّة “الاستثنائيّين”، وثانياً، الدعم الدوليّ لأوكرانيا الذي يبقى واسعاً بالرغم من تعثّره مؤخراً. وهناك ثالثاً طبيعة الحرب المعاصرة التي تجمع القوّة الصناعيّة والإمرة والتحكّم والاتّصالات وأجهزة الاستخبارات، وأخيراً يبرز عامل المعلومات حيث أنّ الرئيس فلاديمير بوتين “محتجز” في “شرنقة معلومات” بسبب وجوده في السلطة لفترة طويلة. فـ”النظام الذي يديرونه (القادة الروس) يفتقر إلى آليّة فعّالة لتصحيح الأخطاء. (بينما) نظراؤهم الأوكرانيّون أكثر مرونة وفاعليّة”.
ليس هناك من جدال كبير في ما يخصّ العامل الأوّل. لا يزال الأوكرانيّون مصمّمين على مواصلة الحرب وإن كان هناك بعض التّعب الطبيعيّ. في الواقع، ربّما اجتاز الأوكرانيّون أكبر عقبة على هذا المستوى، حين أقال الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي قائد قوّاته الجنرال فاليري زالوجني بالرغم من معارضة داخليّة لذلك. لقد تمتّع زالوجني بشعبيّة تفوق شعبيّة زيلينسكي نفسه. لكن يبدو أنّ الأوكرانيّين أولوا الوحدة الوطنيّة الأهمّيّة العليا على ما عداها من اعتبارات.
في ما يتعلّق بالعامل الثاني، أشار فينغ إلى أنّ روسيا لا تزال تعاني من خفض التصنيع الدراميّ منذ تفكّك الاتّحاد السوفييتيّ. لكنّه لم يتطرّق إلى استعادة القاعدة الصناعيّة الدفاعيّة في روسيا توازنها إلى حدّ مساهمتها في رفع الناتج القوميّ الروسيّ بشكل أكبر من المتوقّع. ليس واضحاً ما إذا كان فينغ يعتبر، كما بعض المحلّلين الغربيّين، أنّ هذه القاعدة الصناعيّة ليست حلّاً طويل المدى لمشاكل روسيا، وأنّها ستبلغ ذروتها في مرحلة قريبة نسبيّاً من دون أن تلبّي تماماً متطلّبات الحرب. وربّما راهن على أنّ عرقلة المساعدات لأوكرانيا في الكونغرس لن تدوم إلى ما نهاية. واللافت أيضاً أنّ فينغ استخدم عبارة الدعم “الدوليّ” لأوكرانيا لا الدعم “الغربيّ”.
وبالرغم من أنّ المحلّلين الغربيّين ركّزوا في السابق على “افتقار” روسيا للمرونة والمعلومات والآليّات التصحيحيّة في بداية الحرب، أي عندما كان الإخفاق الروسيّ جليّاً، تراجع هذا التركيز الآن لمصلحة الاهتمام أكثر بعناصر القوّة المادّيّة كالعاملين البشريّ والتصنيعيّ. لقد وصل الأمر حتى إلى اعتراف الغرب بأنها قد تبدأ بمواجهة الخسائر في الصيف. بحسب تقرير في مجلّة “بوليتيكو” تمّ إعداده من داخل الأراضي الأوكرانيّة، لم يعد السؤال عمّا إذا كانت كييف ستخسر الأراضي بل مقدار المساحات التي ستخسرها.
خسارة روسيا… “حتميّة”
بصرف النظر عن كلّ الأدلّة التي تقلق الغربيّين، يبقى فينغ على قناعة بأنّ خسارة روسيا “حتميّة”، وأنّها “ستُضطر إلى الانسحاب من كلّ الأراضي الأوكرانيّة، بما فيها القرم”. وقدرتُها النوويّة “ليست ضمانة للنجاح”، بما أنّ أميركا النوويّة انسحبت أيضاً من فيتنام وكوريا وأفغانستان. كذلك، “قد تنهض أوكرانيا من الرماد” متطلّعة إلى “احتمال الانضمام إلى الاتّحاد الأوروبّيّ والناتو” فيما أودت الحرب بـ”نظام السيّد بوتين إلى عزلة دوليّة واسعة”.
باختصار ما كتبه فينغ يعجز اليوم عن كتابته حتى أشدّ المسؤولين الغربيّين، بل الأوكرانيّين، تفاؤلاً. لكن يبقى السؤال الأساسيّ هو التالي: هل يعبّر فينغ عن رأيه الشخصيّ أم عن رأي الحزب الشيوعيّ الصينيّ؟ ولماذا عبّر عنه الآن وسط ظروف هي الأشدّ غموضاً لإطلاق توقّعات جازمة؟
من نافلة القول إنّه من غير الضروريّ أن يكون ما يكتبه المحلّلون في بكين معبّراً عن وجهة النظر الرسميّة. قراءة التطوّرات السياسيّة تحمل عادةً أكثر من تفسير، وبالتالي، لا يشذّ تحليل فينغ عن هذا الواقع. علاوة على ذلك، يبدو أنّ لدى المحلّل السياسيّ نفسه وجهة نظر معارضة على العموم لسياسة الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين. كذلك، يمكن التذكير بأنّ الصين نفسها “ليست حليفاً” لروسيا. يبدو أنّ بكين تعتمد سياسة متوازنة نوعاً ما تجاه موسكو: من جهة، هي تشتري موارد الطاقة الروسيّة بأسعار مخفّضة وتدعمها ببعض المكوّنات الحربيّة بحسب اتّهامات أميركيّة، لكنّها من جهة أخرى أوقفت تعاملات تجاريّة معها على مستوى بعض البنوك خوفاً من العقوبات الأميركيّة.
وكتب فينغ: “يلاحظ المراقبون المحنّكون أنّ موقف الصين تجاه روسيا تحوّل من موقف ‘(شراكة بـ)لا حدود‘ منذ أوائل 2022، قبل الحرب، إلى المبادئ التقليديّة لـ‘عدم الانحياز، عدم المواجهة وعدم استهداف أطراف ثالثة‘”.
تقاطع محتمل
إن كان هناك من إمكانيّة لربط موقف فينغ بموقف محتمل لسياسة بكين الرسميّة فسيتجسّد ذلك بالتحديد في موضوع واحد: أوروبا. ذكر عالِم السياسة الأميركيّ-الصينيّ مينشين پَي أكثر من مرّة أنّه حتى ولو انتصرت روسيا في أوكرانيا، ستكون الصين الخاسر الأكبر من هذا الانتصار لأنّ الحرب أعادت أوروبا إلى التحالف مع الأميركيّين. من نتائج تلك الحرب “التمزّق الذي لا رجعة فيه للعلاقات الأوروبية-الصينيّة”، حيث أنّ أهمّ هدف بالنسبة إلى بكين في صراعها مع واشنطن هو “الحياد الاستراتيجيّ الأوروبّيّ”، كما كتب المحلّل نفسه في شباط (فبراير).
بهذا المعنى، يمكن أن يكون مقال فينغ، تحديداً في مجلّة أوروبّيّة (وإن من خارج الاتّحاد نفسه)، رسالة طمأنة إلى الأوروبّيّين: “سنقف إلى جانبكم بمواجهة الغزو الروسيّ إن عدتُم إلى الحياد”. ولا شكّ في أنّ توقيت الرسالة بالغ الأهمّيّة أيضاً: على أبواب عودة محتملة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
لهذه الفرضيّة ما يؤيّدها. فقد كتب فينغ أنّ الحرب “أيقظت” أوروبا على “التهديد الهائل” لـ”العدوان العسكريّ الروسيّ” لأمن أوروبا والعالم وتخلّت العديد من الدول الأوروبّيّة عن “أوهامها” بشأن روسيا بوتين. ولفت النظر كذلك إلى أنّ الصين لم تنضمّ إلى العقوبات الغربيّة، لكنّها لم تنتهكها أيضاً. حتى شراؤها النفط الروسيّ سنة 2023 لم يكن أكبر بكثير من مشترياتها قبل الحرب منبّهاً إلى أنّ اختيار بكين لمصدر آخر قد يرفع أسعار النفط العالميّة. وأوضح أيضاً أنّ الصين وروسيا “دولتان مختلفتان جداً” لأنّ الأولى تريد حلّ النزاعات سلميّاً والأخرى تريد تقويض الأنظمة الإقليميّة والدوليّة عبر الحرب بحسب وجهة نظره.
في جميع الأحوال، أكان موقفه معبّراً عن رأي شخصيّ بحت، أو عن رأي شخصيّ ورسميّ معاً، يبقى أنّ مراقبة موقف الصين من الحرب بين روسيا وأوكرانيا باتت أكثر إثارة للاهتمام بعد مقال فينغ في الـ”إيكونوميست”.