شدّت احتجاجات السويداء، بزخمها واستمراريتها واتّساعها وخيارها السلمي وتوجهها الوطني العام، انتباه السوريين والعالم. وأثارت، في الوقت نفسه، جدلا حول ارتباطها بثورة الحرية والكرامة على خلفية سماتها العامة وتوقيتها وراياتها، حيث تناولتها أقلام كتّاب من المعارضة بالتقويم والتصنيف، وثمّة من شكّك بدوافعها وتوقيتها في ضوء الإحباط العام، الذي أصاب الثوار وحاضنتهم الشعبية، ودفعهم إلى اتهام كل من لم يشارك في ثورة الحرية والكرامة عام 2011 في بدايتها بالتسبّب بفشلها، وهناك من أشاد بها واعتبرها بعثا وتجديدا للثورة، وجعلتها بعض الأقلام رافعة حقيقية للتغيير وجعلتها أخرى دون ذلك بكثير.
لفتني من بين الكمّ الهائل من التعليقات والتحليلات حديث كتّاب من المعارضة عن ثمرة رئيسة من ثمرات هذه الاحتجاجات، وهي “سحب ورقة حماية الأقليات من أيدي النظام”، في ضوء أن السويداء درزية في أغلبها، وخروجها ضد النظام يعني أنها لا ترضى به لا حاكما ولا حاميا. واقع الحال أن سردية حماية الأقليات تكتيك سياسي أكثر منها واقع فعلي، جزء من عدّة الشغل، كما يقال، سبق للدول الاستعمارية استخدامها لتبرير غزوها ونهبها ثروات الشعوب، وقد تقمّصت روسيا هذا الدور في أوكرانيا وسورية وأفريقيا الوسطى. حماية الأقليات أكذوبة، والقول إن النظام خسرها كون المحتجّين أقلية من الأقليات السورية العديدة التي يزعم حمايتها يشير، عن غير قصد، إلى صحّة زعمه إنه حامي الأقليات، ألم يقتل النظام ويجرح أكثر من 30 من دروز السويداء الذين تجمّعوا عند باب المشفى في المدينة للاحتجاج على مناصرة المحافظ البدو في الاقتتال الذي وقع بين الطرفين عام 2000، وذهب فيه ضحايا منهم.
ولفتني بشكل خاص ما ذهب إليه كاتبٌ معارضٌ عن حرمان النظام من خصمه السنّي في حراك السويداء، ما قيّد قدرته على البطش واستخدام القوة المفرطة. قول ينطوي على تجريد مخلٍّ وإسقاطٍ غير موفّق، فالنظام لم يمتنع عن استخدام القوة والبطش المفرط ضد السويداء لأنها ليست سنّية، بل لاعتقاده أن حراكها لن يُحدِث فارقا في ضوء أنها محافظة طرفية قليلة العدد؛ ولأنها من دون موارد مؤثرة، ودورها في الدورة الاقتصادية السورية يكاد لا يُذكر؛ لذا هي قليلة التأثير في التوازن الميداني. أما دلالة الاحتجاجات السياسية فعمل على تمييعها باتّهامه الاحتجاجات بالانفصالية، وبتحريكها من قوى خارجية. وراهن على الوقت لبلوغها طريقا مسدودا وانصياعها بالتالي لآلية المصالحات التي نفّذها في محافظاتٍ سوريةٍ عديدة. إنه ينتظر تراجع زخمها وانفضاضها، خصوصا والشتاء على الأبواب، من دون أن يصطدم بها ويستنزف جزءا من إمكاناته الشحيحة التي يحشُدها على خطوط المواجهة في مناطق سورية أخرى. وهذا بالإضافة إلى أن التسليم بمقولة إن خصم النظام هو السنّة فقط، كما يوحي التحليل المذكور، يتعارض مع الواقع؛ فعدو النظام من يقف ضد سياساته، ألم يعتقل في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته عشرات العلويين والإسماعيليين والدروز والمسيحيين من حزبي العمل الشيوعي والمكتب السياسي، ويسجنهم سنوات طويلة لأنهم عارضوه؟.
واقع الحال أن سردية حماية الأقليات تكتيك سياسي أكثر منها واقع فعلي، جزء من عدّة الشغل، كما يقال
لقد تلحّف النظام في سورية، ومنذ اليوم الأول لانفجار ثورة الحرية والكرامة، بشعار أنه يواجه محاولة لإقامة إمارة إسلامية، ليكون جزءا من تيار دولي قائم ضد تنظيم القاعدة في أفغانستان وامتداداته الإقليمية والدولية، فيكسب تعاطف العالم ويوجّه تحرّكاته ويضبط ردود فعله على عنفه ووحشيته. وقد خدمه انخراط دول عربية وإقليمية في الصراع، من خلال دعم جماعات سلفية على أمل السيطرة على مجريات الصراع ومنع تحوّل سورية إلى دولة ديمقراطية.
كما لفتني تبشير كتّاب كثر بدعوة العلمانية التي عكستها شعارات المحتجين في السويداء وتصريحاتهم، بمن في ذلك شيخ العقل حكمت الهجري، واعتبارها تصحيحا لما شاب ثورة الحرية والكرامة من انقسام وتشتّت وتذرّر بسبب هيمنة النزوع الإسلامي على برامج (وخطط) عمل فصائل مسلّحة تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، علما أن الثورة انكسرت في النصف الثاني من عام 2012، حين لم يكن للفصائل المسلحّة الإسلامية دور وازن في الصراع، ودعوتهم السوريين إلى الاقتداء بالسويداء في توجّهها هذا. واقع الحال أن القول بعلمانية حراك السويداء ينقضه رفع الراية الخماسية الألوان، من جهة، ويثير، من جهة ثانية، من المشكلات أكثر مما يحلّ، فالنظام السياسي والدستور والمحدّدات القانونية لا تقرّرها جهة سياسية أو اجتماعية، وإنما يقرّرها مؤتمر وطني عام؛ وطرح العلمانية خيارا يصادر هذا الحقّ، ويمنع الوصول إلى توافق على عقد المؤتمر، طالما أن النتيجة حُددت سلفا.
حرّكت التعليقات المشكّكة بحقيقة انتفاضة السويداء أقلاما وأصواتا من أبناء المحافظة للتوضيح والتفسير والدفاع؛ ما عكس استمرار غياب التوافق الوطني العام وأشاع أجواء غير مريحة حول حصول توافق وطني سوري. وقد لفتني ذلك التبرير غير الموفق لرفع كتّاب من أبناء المحافظة الراية الدرزية خماسية الألوان وشرح دلالة ألوانها في العقيدة الدرزية. نحن هنا أمام إشكال عميق لن يحدّ من ضرره والحساسية التي أطلقها رفع شعارات وطنية عامة، كالمطالبة بإسقاط النظام والدعوة إلى دولة مواطنة وديمقراطية وتطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254، فالتناقض هنا كبير ولا يمكن جسره وتبريره بسهولة، فالارتباط بالشعب السوري عامة والتعبير عن مطالبه يقتضي وضع الخصوصية الدرزية جانبا والتركيز على القواسم المشتركة. كانت الحصافة تقتضي رفع علم الاستقلال فقط، أو في حال الاتفاق على ضرورة رفع الراية الدرزية من أجل التحشيد أن يكون عدد أعلام الاستقلال المرفوعة أكثر من عدد الرايات الدرزية، لتتضح طبيعة الاحتجاجات وهدفها المركزي.
حرّكت التعليقات المشكّكة بحقيقة انتفاضة السويداء أقلاماً وأصواتاً من أبناء المحافظة للتوضيح والتفسير والدفاع
في العودة إلى انتفاضة السويداء وآفاقها وقدرتها على إحداث فارق في المشهد السياسي في سورية، يكسر الاستعصاء القاتل، الذي جمّد المشهد السياسي منذ سنوات، ويفتح ثغرة، مهما كانت سعتها، نحو الخروج من المستنقع الراهن، لن يجد الباحث المدقّق والموضوعي كبير أمل في تحقيق ذلك، فالحشد المتزايد والشعارات الوطنية العظيمة والتضامن مع مآسي إدلب وغزّة وقتل المدنيين بنيران النظام وإسرائيل لن يخفيا مأزق الاحتجاجات؛ فمحافظة السويداء ليست قادرة بسبب خصائصها العامة على تحقيق ذلك. ما يجعل السؤال عن اليوم التالي للاحتجاجات جوهريا وضاغطا، ويجعل البحث عن فعاليات مختلفة ومسارات أخرى ضرورة حيوية.
غاب هذا، للأسف الشديد، عن تعليقات وتحليلات كثيرة رافقت الاحتجاجات، فالباحث المدقق والموضوعي سيكتشف سيادة حالة من توازن الضعف بين النظام والمحتجّين، لا النظام قادر على الرد العنيف والمباشر، ولا الاحتجاجات قادرة على دفع النظام نحو الإقرار بالمطالب الشعبية المحقّة والانخراط في مفاوضات جادّة لوضعها على طريق التنفيذ، فالاحتجاجات وحدها، حتى مع استمرارها وتوسّعها، غير كافية لإحداث الأثر المطلوب، والحاجة ماسّة للتفكير في خطواتٍ أبعد وأشمل لها طابع عملي، كأن تقوم قيادة الاحتجاجات ممثلة بالقيادات الروحية والسياسية بضبط فوضى الشعارات واللافتات وشخصنة الخلاف، فالخلاف مع نظام سياسي، وليس مع أشخاص بعينهم، وتسمية ناطق رسمي يعبّر عن الخط السياسي للاحتجاجات، ووضع تصوّر عملي لتوفير احتياجات المحافظة من الغذاء، بما في ذلك وضع خطّة زراعية لتوفيره، والوقود والأدوية، كي يبقى ظهر المحتجّين مستندا إلى جدار صلب، من جهة. والعمل، من أخرى، على تأكيد هدف الاحتجاجات الوطنية بإجراء مصالحة عميقة وجذرية مع البدو من أبناء المحافظة، عددهم حوالى عشرة آلاف يعيشون في قرى في ريف السويداء، منطقة اللجاة بشكل خاص، بعدما شابت العلاقات بينهم وبين الدروز التوتّرات والصدامات الدامية، نذكّر بالاقتتال الذي وقع بين الطرفين عام 2000، وذهب ضحيته العشرات، ودفع قرى بدوية بكاملها إلى النزوح إلى محافظة درعا أو إلى بادية حمص وبتعرّض البدو في السنوات الأخيرة لهجمات من فصائل مسلحة درزية ليست كلها من الموالين للنظام، وتقديم ضمانات أمنية واجتماعية لهم، كونهم من أبناء المحافظة، تغلّب سياسة العيش المشترك وتقطع كل جذور الريبة والهواجس بحيث تقنع من نزح منهم بالعودة، وإجراء مصالحة مع محافظة درعا، بعد الخلافات على حدود الأراضي واللجوء إلى الاقتتال وعمليات الخطف المتبادل، وتكريس توجّه تعايشي وودّي بين المحافظتين، وتشجيع حركة انتقال الأفراد والسلع بينهما وتحويل درعا إلى جسر للعبور إلى محافظة القنيطرة.
نحتاج إلى تجنّب المواقف المسبقة والتفكير النمطي، وإلى إعمال العقل السياسي بقوة وحنكة
هذا على الصعيد المحلي والجوار القريب، وإجراء اتّصالاتٍ مع رموز اجتماعية وسياسية وروحية في المحافظات السورية الأخرى، ومع شخصيات وازنة من المعارضة لشرح الموقف وتطوراته وأهداف الاحتجاجات وطابعها الوطني الخالص والتشبيك والتنسيق معها، والتواصل على الصعيد العربي مع القوى السياسية المؤمنة بالتغيير الديمقراطي السلمي في سورية، من دون إهمال التواصل مع الحكومات العربية والتنسيق معها في محاربة تهريب المخدّرات عبر أراضي المحافظة، ومع المنظمات الحقوقية الأجنبية والقيادات الروحية ووسائل الإعلام في العالم، ومع هيئة الأمم المتحدة ممثلة بشخص أمينها العام ورؤساء منظماتها المتخصّصة لتوضيح الموقف وتطمينها إلى توجهات الانتفاضة السلمية وأهدافها الوطنية الخالصة، ومطالبتها بتبنّي مطالب الاحتجاجات، بحيث تقطع الطريق على محاولات النظام اللعب على التناقضات، وتسوّر الاحتجاجات والمحافظة بحمايةٍ مناسبةٍ وتفتح طرقا لمساعدتها على حل مشكلات الخدمات، الصحية والتعليمية والمواصلات، وتوفير الغذاء، وخصوصا أن النظام قادر على تجويع المحافظة من خلال قطع مستحقّاتها من الوقود والطحين والمواد الغذائية الأخرى وتوفير سبل عيش كريمة للمواطنين، ما يسمح بتوسيع الهامش الزمني للاحتجاجات والتفاعل مع المتغيّرات والاستثمار فيها وتوظيفها في تعزيز أمن المحافظة، والاستعداد لاستقبال التطورات الإقليمية والدولية التي يمكن أن تعيد الملف السوري إلى طاولة المفاوضات، والعمل جدّيا على حله وتحقيق التغيير المنشود.
نحتاج من أجل عدم ضياع الجهود والتضحيات التي بُذلت، ومن أجل مستقبل سورية وتحقيق آمال أبنائها وطموحاتهم في الحرية والكرامة، إلى تجنّب المواقف المسبقة والتفكير النمطي، وإلى إعمال العقل السياسي بقوة وحنكة.