لشهر تشرين الأوّل (أكتوبر) مكانة خاصّة في الخطاب السياسيّ الأميركيّ. إنّه الشهر الذي يمكن أن تحدث فيه مفاجأة تُعرف باسم “مفاجأة أكتوبر”. تتضمّن الأخيرة أيّ حدث مقصود أو غير مقصود قد يقلب نتيجة الانتخابات الرئاسيّة التي تجري في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) من كلّ سنة كبيسة.
من نيكسون إلى كلينتون
يرى أنّ قرار مدير “أف بي آي” الأسبق جيمس كومي التحقيق في رسائل المرشّحة السابقة إلى الانتخابات الرئاسيّة هيلاري كلينتون كان بمثابة “مفاجأة أكتوبر” التي أثّرت في مجرى الانتخابات لمصلحة دونالد ترامب. قرّر كومي فتح التحقيق في تشرين الأوّل، وتحديداً قبل 11 يوماً من الانتخابات. لكنّ الإطار الزمنيّ الذي يمكن أن تحدث فيه مفاجآت من هذا النوع يتخطّى مداها شهر تشرين الأوّل الذي قد يتحوّل في هذا السياق إلى دلالة رمزيّة أكثر ممّا هي زمنيّة محصورة في 31 يوماً.
في صيف 1968 مثلاً، انتشرت شائعات مفادها أنّ الديموقراطيّين كانوا يتسابقون نحو اتّفاق ينهي حرب فيتنام في الوقت المناسب. في تلك السنة، جمع التنافس إلى البيت الأبيض نائب الرئيس هيوبرت همفري وخصمه الجمهوريّ ريتشارد نيسكون. أُطلِقت على ذاك الاحتمال عبارة “مفاجأة أكتوبر”، لكنّ مصير همفري حُسم في شتاء 1968 بفعل هجوم ناجح شنّه الفيتناميّون الشماليّون.
بالانتقال 55 عاماً إلى الأمام، أعدّت “حماس” مفاجأة يمكن أن تحمل الاسم نفسه، وإن كان اسمها الأساسيّ “طوفان الأقصى”. لا مشكلة في أنّ المفاجأة لم تحدث خلال سنة انتخابيّة. أزمة الرهائن الأميركيّين في إيران حدثت قبل عام كامل من الاستحقاق الأميركيّ، في تشرين الثاني 1979. مع ذلك، وُصف ذلك الحدث بأنّه “مفاجأة أكتوبر”. فشلُ محاولة إنقاذ الرهائن الأميركيّين طوال الفترة الفاصلة عن الانتخابات أدّى إلى حسم مصير كارتر.
ستساعد نتيجة الصراع الحاليّ بين إسرائيل و”حماس” في تحديد مسار الانتخابات إلى حدّ كبير. هزيمة إسرائيل أو اشتعال الشرق الأوسط سيقلّصان حظوظ رئيس لا يتمتّع بشعبيّة كبيرة حتى بين الديموقراطيّين. في أيلول (سبتمبر) الماضي، أظهر أحد استطلاعات الرأي أنّ نحو 66 في المئة من الديموقراطيّين رغبوا بايدن لولاية أخرى.
مشكلة بايدن الثانية أنّ الأميركيّين لا يشعرون بتحسّن الوضع الاقتصاديّ على الرغم من . في تمّوز (يوليو)، قالت رئيسة “معهد السياسة الاقتصاديّة” هيدي شيرهولز إنّه برزت بين ما تظهره البيانات لنا حول ما يحدث في الاقتصاد وما يظنّ الناس أنّه يحدث في الاقتصاد”. إذا كانت على مستوى البطالة والتضخّم والناتج القوميّ لا تستطيع أن تؤثّر إيجاباً في شعبيّة بايدن، فسيصعب تصوّر ما الذي قد يساعده في ذلك. ولم تكن السياسة الخارجيّة بالضبط إحدى نقاط قوّة الرئيس.
هدايا
من حسن حظّ بايدن أنّه اختار الانسحاب من أفغانستان مباشرة بعد وصوله إلى الرئاسة. لو أجّل الأمر إلى 2023 أو حتى 2022، لربّما مثّلت تلك الخطوة “مفاجأة أكتوبر”، بما أنّ أرقام شعبيّته منذ آب (أغسطس) 2021. ومع أنّ بايدن استطاع أن يشدّ أواصر حلف شمال الأطلسيّ منذ سنة 2022، يبقى أنّ جزءاً من مكسبه ارتبط بهديّة بوتين التي تمثّلت بغزو أوكرانيا وتهديد أوروبا، بينما ارتبط جزء آخر بعدم هروب الرئيس الأوكرانيّ فولوديمير زيلينسكي من البلاد. مع ذلك، يبقى أمل الأوكرانيّين بتحقيق اختراق على الأرض ضئيلاً بفعل بـ”البطء” و”التردّد” الأميركيّ في منحهم ما يحتاجون إليه من الأسلحة. وساهمت سياسته الإيرانيّة في تعزيز قدرة “حماس” على مهاجمة الإسرائيليّين بحسب ما يقوله الجمهوريّون.
لن يكون مبالغاً القول إنّ حربين استنزافيّتين يخوضهما حليفان للولايات المتحدة ستضرّان بحظوظ بايدن. من جهة، يرى قسم من اليسار أنّ الرئيس يدعم إسرائيل. من جهة أخرى، يرى معارضو بايدن أنّه متردّد في دعم تل أبيب بالكامل وهذه علامة أخرى على أنّه “. بعد عمليّة “طوفان الأقصى” وجد استطلاع للرأي أنّ فقط يوافقون بايدن في سياسته الخارجيّة. لكنّ “مفاجآت أكتوبر” قد لا تتعلّق فقط بالانتخابات الرئاسيّة الأميركيّة.
ارتدادات على مدى سنوات
حين أطلقت “حماس” عمليّة “طوفان الأقصى”، عادت ذاكرة المراقبين إلى تشرين الأوّل 1973 حين شنّت مصر وسوريا حربهما على إسرائيل بطريقة مفاجئة. لكنّ ذلك الشهر لم يحدّد فقط تطوّرات قصيرة الأجل. لقد ساهم في رسم مسار عقد من الزمن كما لاحظ المعلّق السياسيّ ويليام كريستول.
شهد العالم حينها توتّراً نووياً بين موسكو وواشنطن وحظراً نفطياً فرضته المملكة العربيّة السعوديّة وانكماشاً اقتصادياً وسقوط فيتنام ونجاح الثورة الإيرانيّة. وكما كان شهر تشرين الأوّل 1973 غير مستقرّ على المستوى الداخليّ الأميركيّ بفعل فضيحة “ووترغيت”، كذلك كان تشرين الأوّل 2023 بفعل الفوضى في الكونغرس. لكنّ العقد الذي تلى كان أكثر نجاحاً مع رئاسة ريغان واللبرلة الاقتصاديّة في الهند والصين ونهاية الحرب الباردة. أن يكون العقد المقبل مماثلاً لكنّه لفت إلى أنّ كلّ الاحتمالات واردة.
من الطراز الرفيع
ما إذا كان “طوفان الأقصى” مفاجأة أكتوبر هو رهن الأشهر المقبلة. حالياً، بالرغم من ضعف جو بايدن المتصوّر و/أو الحقيقيّ في السياسات الخارجيّة والداخليّة، يبقى أنّ ما يمكن مساعدته على بقاء حظوظه في السباق الانتخابيّ هو وجود خصم اسمه دونالد ترامب، على الرغم من أنّ هذه الحظوظ غير ثابتة إطلاقاً. مهما كانت نقاط ضعف بايدن ثمّة ميل لدى قسم كبير من الأميركيّين لتفضيل ولاية رئاسيّة هادئة بعيدة من صخب وفضائح ترامب إن لم يكن ” على الديموقراطيّة والأمن القوميّ الأميركيّ.
ما يمكن اعتباره “مفاجأة أكتوبر” من الطراز الرفيع هو اختيار الجمهوريّين مرشّحاً آخر غير ترامب إلى السباق نحو البيت الأبيض، وهو احتمال ضئيل كما يبدو لغاية اليوم. ما هو مؤكّد أنّ انتخابات 2024 ستكون واحدة من أكثر الانتخابات تأثيراً وتأثّراً بالأحداث العالميّة في التاريخ الحديث.