لا تزال صدى الزيارة مستمرة، التحليلات والتفسيرات من جهة، والتوصيات والنزعة الأبوية على كوردستان العراق من جهة ثانية، وكأن المطلوب تصرف الإقليم وفق مزاج الفيسبوكيين، وتنامي ذلك الخطاب هو ما دفعني للكتابة حول الموضوع. حيث استقبل قسم من كورد سوريا، زيارة الرئيس التركي “رجب اردوغان” بحملة ضخمة من المسبات والشتائم البذيئة، وتخوين حكومة الإقليم، وبل ذهبوا لأبعد من ذلك، إلى إتهام الحزب الديمقراطي الكوردستاني-العراق، بالتآمر عليهم.
بضع الكلمات السابقة، تُشير إلى الهموم والغلاظة العقلية التي يحملها قسم من كورد سوريا بعجرهم وبجرهم، وفي مجملهم يحملون احقادهم التاريخية على البرزانيين؛ لأسباب تخص توجهاتهم ومشاريعهم وافكارهم.
الفيسبوك الكوردي السوري، تحول ومنذ رفع علم تركيا على قلعة هولير/أربيل، وهو عرف دبلوماسي تتبعه حكومة الإقليم في استقبال رئيس أيّ دولة يزور العاصمة الكوردستانية، كما حصل سابقاً اثناء زيارة الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون في2021، وزيارة بابا الفاتيكان، والزيارات المختلفة لرؤساء حكومات مختلف دول العالم، والتي يُرفع العلم سواء على اللوحات الطرقية أو المعالم التاريخية والمميزة في أربيل، تحولت مختلف صفحاتهم على وسائط التواصل الاجتماعي الى حفل شتائم، وتحليلات خشبية لا علاقة لها بالواقعية السياسية ولا بالتحولات التي تعصف بالمنطقة، فلماذا كل هذا الضغط الافتراضي على قضايا لا تخص كرد سوريا؟.
إن حجم البؤس السياسي الذي يعاني منه هؤلاء، وصل لدرجة إن قسم منهم مقيم في العاصمة أربيل، أو أن أبنائهم مُقيمين هناك، ويعتمدون على حوالاتهم المالية، كرافد أساسي في مداخيلهم الاقتصادية، ويعلمون جيداً أن تركيا أحد أبرز المصادر التجارية سواء المباشرة عبر معبر “إبراهيم الخليل” الرابط بين الطرفين، أو غير المباشرة والبضائع الواردة من أوربا إلى الإقليم وأيضاً عبر نفس المعبر، خاصة في ظل دفع بعض الأطراف الشيعية في بغداد لحصار الإقليم تجارياً عبر فتح باب العلاقات التجارية بين العراق وتركيا بعيداً عن الإقليم، والتي تبلغ قيمة الصادرات التركية إلى العراق 13 مليار دولار، والمساعي لرفعها إلى 15 مليار دولار على المدى القريب، ثم إلى 30مليار دولار خلال السنوات الخمس القادمة بين بغداد وأنقرة.
والأكثر خطورة على شريان الحياة الاقتصادية للإقليم الكوردستاني، هو طريق التنمية بين تركيا والعراق والذي تصر مصادر للقوى السياسية والعسكرية في بغداد إقصاء الإقليم منها، كما هو حاصل حالياُ حيال قضايا الطاقة، وبيع النفط والغاز، وتوقف عمل خط أنابيب كركوك-جيهان التركي، فلماذا كل هذا التحامل والتدخل أساساً في الشؤون الداخلية للإقليم؟
وفي تفكيك تلك المواقف والخطاب الشعبوي الباهت نجد إن هؤلاء يطلبون من إقليم كوردستان، وبشكل أخص الحزب الديمقراطي الكوردستاني، قطع كافة أشكال العلاقات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية والتجارية مع تركيا التي تغرق منتجاتها الأسواق في شمال شرق سوريا، وعلى سبيل المثال فالصحفيين الكرد المعترضين على الزيارة، هم نفسهم الصحفيين الكرد الذين يرتدون طاقية الاخفاء في كل انتهاك او اعتقال لزميلهم الصحفي الكردي السوري، وهم انفسهم الصحفيين الذين لا يملكون الجرأة للكتابة عن أحوال الناس والفقر وانعدام الخدمات وبشاعة أنماط المعيشة، والتجار الذي تحولوا لمحللين سياسيين مصادفة، هم انفسهم الذين يستوردون البضائع من تركيا، ويساهمون في انعاش الليرة التركية، والسياسيين المعترضين هم نفسهم الذين لن يُضيعوا دقيقة واحدة لو سنحت لهم الفرصة في أي زيارة او ادنى مستويات اللقاءات في تركيا، هذه الازدواجية ليست دليل على الغباء وحده بل على الاستقصاد في استغباء الناس ومحاولة منهم اغراقهم في تفاصيل لا فائدة منها ولن تأتي باي خيراً على المنقطة.
كُل هذا التحامل على كوردستان العراق والذي تحول الى مركز امان للكرد السوريين المنشقين عن الجيش السوري في بدايات الحراك الشعبي، واستقبل مئات الالاف من الفارين من جحيم الحرب او العسف السياسي ووجدوا في الإقليم ملاذً آمناً. كردستان الخاصرة التجارية التي يتنفس منها كرد سوريا، والرئة التي عبرها يصل المهاجرين الى ذويهم في مناطق شمال شرق البلاد، ولولا علاقاتها الخارجية والدبلوماسية، لتكاتفت دول الجوار الإقليمي وقسم من الكورد على هتك حدودها وإنهاء تجربتها. ولنفترض غياب الإقليم من الحسابات الجغرافية والأمنية والسياسية، اين كان سينتهي المطاف بالكتلة الكردية المهاجرة، إما إلى تركيا، التي كانت ستحصل على ورقة رابحة في استغلال الكرد السوريين هناك، أو في طرق الغابات والبحار.
تركيا التي كانت ترفض الاعتراف بإقليم كردستان العراق ككيان دستوري، ودخلت علاقاتهم في فتور وجمود عشية الاستفتاء التاريخي الذي قاده رئيس الإقليم آنذاك السيد “مسعود البارزاني”، هي تركيا التي لم تُنهي زيارتها لبغداد حيث بدأت. بل أكملت صوب أربيل؛ لرآب الصدع بين الكرد والترك، وتجاوز صراعات وجراحات الماضي، تلك الزيارة لرئيس دولة كتركيا التي كانت تقول شمال العراق، هي اعتراف بوجود حكومتين وعاصمتين وعلمين وجيشين أحداهما خاص بالكورد ومكونات كوردستان، والأخرى عامة لكل العراقيين من كورد وسنة وشيعة وتركمان، واشوريين وسريان.
وهي نفسها تُركيا التي يزور رئيسها وكبار قادة الحكم لديها عاصمة الإقليم وتحت راية كوردستان، وصور المشاركين في تأسيس جمهورية مهاباد في كوردستان إيران عام1964، وقائد سلسلة الثورات الكوردستانية، والأب الروحي للقومية الكوردية “المُلا مصطفى البارزاني”. ليأتي بعض “المثقفين” الأميين سياسياً ليستنكروا ظهور النخب الكوردستانية، وخاصة الرئيس مسعود البارزاني بالزي الكردي، والعلم الكردي، والحديث الكردي، وكل شيء بالكردي في استقبال احد اقوى القيادات الذين مروا على تاريخ تركيا بعد كمال اتاتورك، وغالب الظن إنهم أدركوا حجم التبدلات السياسية والتجارية التي ستغير الكثير من خرائط التحالفات والخلافات في المنطقة، والتي من الواضح دور وتأثير وحجم العاصمة الكوردستانية أربيل في ذلك.