بعد نصف ساعة أو ساعة على أقصى تقدير يخرج متابع القنوات الإخبارية العربية وهو على قناعة تامة بأن حرب القطاع صراع غير متكافئ، الضحية الأولى والأخيرة هم المدنيون العزل، فرد الفعل الإسرائيلي يفوق فعل حماس ” بأضعاف، والمأساة الدائرة رحاها في القطاع على مدار ساعات اليوم الـ 24 غير مسبوقة، وقادة “حماس” يرسلون من دول إقامتهم رسائل لشد أزر أهل غزة، وأهل غزة في حال غير مسبوقة من الخطر والتهجير القسري والحرمان وسلب الحقوق البديهية، وقوس الصورة والمحتوى مفتوح.
الصورة والمحتوى على مدار ساعات اليوم في الغالبية المطلقة من القنوات التلفزيونية العربية في غزة أو عنها، وحتى في ليلة قطع غزة عن العالم الخارجي، وحتى بين ابناء غزة وبعضهم بعضاً قبل أيام، ظلت القنوات الإخبارية العربية تركز عملها وتغطيتها على غزة، فالصورة والمحتوى من دون شرط التحليل والتنظير كافيان لنقل وشرح حقيقة ما يجري على أرض القطاع.
حقيقة ما يجري
لكن حقيقة ما يجري على أرض القطاع والتي تنقلها وتحللها وتركز عليها الشاشات العربية الإخبارية تظل تدور في الدوائر العربية، ومتلقوها يقتصرون على الجماهير العربية وبعض ممن يتحدثون العربية ويهدفون إلى متابعة ما يدور على الأثير العربي، وأثرها في تشكيل وتوعية وتوجيه الرأي العام يظل عربياً بحتاً، وتظل القنوات العربية الإخبارية تضخ وتبث هذا الكم الهائل من الأخبار والتحليلات واللقاءات السريعة والمعمقة، وتسأل خبراء الحرب والسلام والجماعات المسلحة والدول المحتلة بين خبر عاجل وآخر، ويظل المتلقي العربي مثبتاً أمام هذه الشاشات ومتجولاً بين هذه القناة التي أثبتت تميزاً في نقل القصف أثناء وقوعه، أو تلك المميزة في عرض آثار الدك عقب حدوثه، أو تتمتع بصلات وعلاقات مباشرة مع قادة حركة “حماس” ومسؤولي القسام وغيرهما، فتنقل مواقفهم وتبث خطبهم، أو مأساة السكان أثناء النزوح من شمال القطاع إلى جنوبه أو محاولاتهم العودة من الجنوب صوب الشمال، أو حال مزدوجي الجنسية المرابطين على أبواب معبر رفح البري، أو استضافة مسؤولين سابقين ومحللين وخبراء إسرائيليين يتحدثون العربية على مدار ساعات الاستيقاظ.
ساعات الاستيقاظ التي يمضيها ملايين المشاهدين العرب أمام الشاشات الإخبارية العربية تدعم عاطفتهم تجاه فلسطين وتعمق مشاعر الغضب لما يجري لأهل غزة، وتوغر صدورهم لما تفعله إسرائيل وكذلك الدول الداعمة لها والساكتة على حق المدنيين الفلسطينيين، أما مواقف ملايين المشاهدين من العرب تجاه حركة “حماس” والحركات والكتائب الفلسطينية المسلحة أو المقاومة في ضوء ما يجري بثه عبر الشاشات العربية، فتتأرجح بين ثلاث توجهات لا رابع لها، توجه داعم منذ أعوام لهذه الحركات وتحول الدعم إلى تعضيد ومؤازرة ومفاخرة غير مشروطة لها بعد “طوفان الأقصى”، وتوجه لم يكن داعماً لها لكن تحول إلى التعاطف معها باعتبارها مدافعة عن الحقوق الفلسطينية، وتوجه ثالث وأخير رافض ومناهض ومعارض لها من قبل “الطوفان” وتحول إلى ناقم عليها بعدها، باعتبارها ضربت ضربة صغيرة تعلم تماماً مغباتها المهولة التي سيتم تسديد فواتيرها من قبل أهل غزة.
الشاشات الآمنة
وعلى مدار ما يزيد على ثلاثة أسابيع وملايين المشاهدين العرب غارقون تماماً في الشاشات العربية الإخبارية، منهم من يتجول قليلاً في أرجاء الشاشات الأجنبية الناطقة بالعربية، إذ يعي أن المحتوى إما يختلف عن الشاشة الأم الناطقة بلغة أجنبية، وذلك ربما إرضاء للمشاهد العربي، أو أن المحتوى هو نفسه ما يجري بثه عبر الشاشة الأم ولكن باللغة العربية، فيقدم حقيقة غير تلك التي يراها عبر الشاشات عربية المنشأ، فيعتبرها حقيقة مشوهة أو منقوصة أو موجهة أو مسيسة فيهرع عائداً لشاشاته الآمنة، فهي الشاشات التي تجمع الغالبية المطلقة من العرب على قلب متضامن واحد مع فلسطين وأهلها، وإن بقيت المواقف متراوحة تجاه الحركات والجماعات الفلسطينية.
الرواية الأخرى
لكن الشعور بالأمان الإعلامي حيث العدو لا يتم تقديمه باعتباره صديقاً أو معتدى عليه أو له رؤية أو يحمل معاناة إنسانية، لا يعني عدم وجود الرواية الأخرى، كما أن الاكتفاء بعرض الحقيقة على مدار ساعات الحرب وأيامها وأسابيعها على شاشة لا يعني أن الحقيقة الأخرى لا يجري عرضها أيضاً على مدار الحرب، ولكن من وجهة النظر المناقضة والتي تخلق هي الأخرى رأياً عاماً مؤيداً للجبهة الأخرى.
الجبهة الأخرى أو الإعلام الغربي يتعرض لانتقادات عدة تتصاعد حدتها مع تواتر أيام حرب القطاع، والمتلقي العربي العادي حين يتابع القنوات الغربية بلغاتها أو الناطقة بالعربية يلحظ تحيزاً للرواية والموقف والمظلومية الإسرائيلية، وملاحظة المتلقي العربي هي نفسها التي دعت مجموعة من خبراء الإعلام العربي إلى تنظيم فعالية عنوانها “الإعلام العربي في مواجهة الرواية الزائفة حول العدوان على غزة” قبل أيام في القاهرة.
وتطرق المتحدثون إلى ما سموه بـ “حالات سافرة من التحريض الإعلامي غير المسبوق على الشعب الفلسطيني، وتزوير الحقائق والإساءة للقضية الفلسطينية”، وقالوا إن هذه الصورة التي يجري تقديمها في الإعلام الغربي “شجعت إسرائيل على التمادي في جرائم إبادة الشعب الفلسطيني وسط صمت وعجز من المجتمع الدولي عن إيقاف العدوان”.
كلمات نارية ومواقف حماسية
وجاءت الكلمات نارية والمواقف حماسية، فالأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية ورئيس قطاع الإعلام والاتصال السفير أحمد رشيد خطابي تحدث عن “حرب إعلامية دعائية من خلال شبكات التواصل الاجتماعي هدفها الترويح لزيف الرواية الإسرائيلية”، وهي من تقف وراء “الصور المأسوية للهجمات الشرسة اللاإنسانية على قطاع غزة الذي يعاني حصاراً خانقاً”.
وأشار خطابي إلى ضرورة توضيح الصورة على حقيقتها وبث الجرائم التي ترتكب في حق الشعب الفلسطيني، وتكثيف الجهد العربي لاحتواء الرواية الإسرائيلية والعمل على تعزيز الحضور الإعلامي الداعم للقضية الفلسطينية.
القضية حاضرة
والقضية الفلسطينية حاضرة على الأثيرين الإعلاميين العربي والغربي لكن على طرفي نقيض، فبين إعلام عربي يتضح من خلاله حجم المأساة التي يتعرض لها أهل غزة وغيرهم من سكان الأراضي الفلسطينية وفي داخل إسرائيل، وإعلام غربي يقتصد في هذه الرؤية ويتوسع في الرؤى التي تعكس المعاناة الإسرائيلية، يزداد الرأي العام ولا سيما الغربي حيرة واضطراباً، فالتضامن التقليدي مع القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني المهدورة على مدار عقود تعرض لهزة عنيفة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، وهي الهزة الأعنف في تاريخ تضامن قطاع عريض من الرأي العام الغربي مع القضية.
مندوب فلسطين لدى الجامعة العربية مهند العكلوك طالب وسائل الإعلام الغربية التي تعتمد على الرواية الإسرائيلية ضرورة مراجعة سياساتها، وبأن تسلط الضوء على ما يجري في قطاع غزة بمهنية وموضوعية، فمهنية بعضهم وموضوعيته هي تحيز ومحاباة للبعض الآخر، والشهيد هنا هو قتيل هناك وربما يكتسب أيضاً صفة إرهابي، والمقاومة هنا هي إرهاب وعدوان وترويع آمنين هناك، والحرب الضارية والقوة الغاشمة هما حق الرد وحق الدفاع في الوقت نفسه، وحتى الاحتلال والاغتصاب هنا هما حق أصيل وأرض الميعاد.
الدق على أوتار التسييس
الدق على أوتار التسييس يلقى هوى واستجابة لدى المشاهدين على الجبهتين في حال كحرب القطاع حيث الصدمة والمفاجأة وانقلاب موازين التضامن التقليدي مع الفلسطينيين، ثم عودة بعضها بتحفظ في ضوء الرد المبالغ فيه من قبل إسرائيل، لكن طبيعة الدق الإعلامي العربي المائل إلى العاطفة أحياناً والمعتنق بعضه نعوتاً تغدق صفات إيجابية خبرية على فريق دون آخر، لا سيما في مجريات الصراع العربي الإسرائيلي، تختلف عن طبيعة الدق الإعلامي الغربي المائل إلى ما يوصف بالموضوعية الخبرية، والمعتنق مبدأ نزع صفات إيجابية أو سلبية عن تفاصيل الأحداث تجعل محتوى هذا لا يناسب جمهور ذاك والعكس صحيح.
صحيح أن الإعلام الغربي لم يكن يوماً منزهاً بشكل كامل عن الانحياز، لكن انحيازه في غالبه من النوع البعيد عن العواطف والوقوع في فخ النعوت، لكنه يتجلى في اختيار مواضيع من دون غيرها والتركيز على زوايا أكثر من غيرها، وذلك من دون كثير من الأدلة الدامغة على التحيز اللفظي أو الوصفي.
الوصف الذي استخدمه الأمين العام لـ “ملتقى الإعلام العربي” ماضي الخميس على خطاب الإعلام العربي في ضوء تغطية حرب القطاع هو أن بعضه “عاطفي ومحدود وموجه للعرب ولا يجيد مخاطبة الآخر أو الأعداء، وذلك لجذب التأييد وتسليط الضوء على العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، ومواجهة ترويج إسرائيل روايات زائفة”.
زيف الرواية
زيف الروايات الإسرائيلية والانحياز لها في الإعلام الغربي يجد نفسه في مواجهة صريحة مع تغطية خبرية كثيراً ما يطغى عليها الشحن العاطفي أو الخطابة البليغة أو اعتبار التضامن مع الجانب الفلسطيني أمراً مفروغاً منه من دون شرح الأسباب، وجهود حثيثة ومحاولات عدة يبذلها باحثون عرب للتنديد بما يرد في الإعلام الغربي مما يصفونه بالاكتفاء بالرواية الإسرائيلية أو تجاهل حجم المأساة الواقعة على الجانب الفلسطيني أو كليهما، وتقول رئيسة وحدة الدراسات المصرية في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية دينا شحاتة في ورقة تحليلية عنوانها “كيف نظر الإعلام والرأي العام الغربي لحرب غزة 2023؟” (أكتوبر/ تشرين الأول 2023) إن ما يجري في غزة من أزمة ضخمة ومعقدة مثلت اختباراً كبيراً للإعلام الغربي، مضيفة أنه على العكس من الحرص على تقديم صورة موضوعية تعكس مختلف السرديات وأبعاد الأزمة، خصوصاً في ظل ما تمتلكه هذه الوسائل من قدرات تكنولوجية متقدمة وقدرة كبيرة على الوصول إلى أطراف الأزمة، فقد اتسمت معالجات الإعلام الغربي بدرجة كبيرة من الانحياز للجانب الإسرائيلي.
انحياز قديم لكن مستتر
وتصف شحاتة هذا الانحياز الإعلامي الغربي، ولا سيما الأميركي، بأنه ليس جديداً بل سمة معتادة ومستقرة، لكن في زمن السماوات المفتوحة وتزايد دور وسائل التواصل الاجتماعي زاد إدراك ووضوح هذا الانحياز بصورة غير مسبوقة، وهو ما أدى بحسب قولها إلى خلق حال من الغضب في أوساط الشعوب العربية تجاه أميركا والدول الغربية.
وسردت شحاتة سلسلة من الوقائع التي سمتها “سرديات أو ثيمات تروج لها إسرائيل وتم تبنيها في الإعلام الغربي، منها أن عملية 7 أكتوبر إرهابية أو أنها “11 سبتمبر (أيلول) جديد”، أو أنها “غير مبررة”، أو أن “حماس” جماعة إسلامية متطرفة”، أو أن “حماس” لا تمثل الفلسطينيين أو القضية الفلسطينية”، أو أن “مصر تعرقل فتح معبر رفح”.
وعلى رغم أن بعض السرديات المذكورة تتداول في الإعلام العربي بنبرات هادئة أو مستترة، وأحياناً بتلميحات لا يحول دون تصعيدها إلا فداحة ما يجري لأهل غزة العزل، إلا أن شحاتة اعتبرتها جميعاً “مغالطات يعتنقها الإعلام الغربي وحده”.
البحث عمن يشرح
كيفية التعامل مع المغالطات أو مثل هذه السرديات من منطلق إعلامي عربي تظل تبحث عمن يشرحها ويفعلها، وبعضهم انبرى يشرح ويفعل رؤيته العربية الإعلامية للتفنيد مما أسفر عن حزمة من السرديات الاجتهادية.
ويتأرجح تقييم الاجتهاد بين الرائع المؤثر المجدي والهزلي السفيه المؤذي، وذلك بحسب انتماءات المتلقين ممن يقيمون الأثر، وأثر حوار الإعلامي والكوميدي والطبيب المصري المقيم في أميركا باسم يوسف كان ولا يزال واسعاً وممتداً على رغم تحفظ بعضهم على ما اعتبروه إفراطاً في اللجوء إلى سلاح السخرية اللاذعة واستخدامه ألفاظاً يصنفها المحافظون “خارجة على الآداب العامة”.
قال يوسف كثيراً مما تحول إلى “مقولات مأثورة” من شاشات التلفزيون الغربية التي يذاع عليها مثل “توك تي في” و”فوكس نايشن” و”سكاي نيوز أستراليا” إلى أثير الـ “سوشيال ميديا” في مشارق الأرض ومغاربها، ومن ضمن ما قال “أحيي إسرائيل لقيامها بشيء لا تفعله أية قوة عسكرية في العالم، إنها تحذر المدنيين قبل قصفهم وهذا لطيف للغاية”، مضيفاً أن “هؤلاء الفلسطينيون دراماتيكيون للغاية، فالإسرائيليون يقتلونهم لكنهم لا يموتون أبداً. إنهم يعودون دائماً. من الصعب جداً قتلهم. أعرف ذلك لأنني متزوج من واحدة منهم. حاولت مرات عدة ولم أتمكن من قتلها”.
وحاول مورغان التعاطف قائلاً إنه يفهم روح الدعابة السوداء التي يستخدمها يوسف، لكن يوسف تظاهر بعدم السمع ومضى قدماً: “إنها (زوجته) تستخدم أطفالنا كدروع بشرية ولا أستطيع إخراجها أبداً”.
وعلى رغم أن حوار يوسف لم يكن إعلاماً عربياً يخاطب رأياً عاماً عالمياً بالمعنى المعروف، إلا أنه قام بمهمة يصفها بعضهم بـ “غير المسبوقة إعلامياً”، وقال الإعلامي محمود سعد تعليقاً على حلقة باسم يوسف على قناته على “يوتيوب” إن أثر الحلقة لا يزال ممتداً وحققت ما يزيد على 20 مليون مشاهدة في شتى أرجاء العالم تلقفها بعضهم في دول غربية وكذلك عربية، وتناول محتواها عبر الكتابة في مواقع وصحف كثيرة مما أدى إلى مزيد من المشاهدة وإثارة مناقشات محورية من شأنها أن تثري معلومات الرأي العام العالمي وتنوع مصادره وتجعله أكثر انفتاحاً على التغيير والقابلية للتطوير.
هدوء وصرامة
يوسف لم يتحدث بالإنجليزية فقط، لكنه تحدث بالثقافة التي يعيها المتلقي في دول غربية، وهو ما فعلته الملكة رانيا قرينة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني في حوار أجرته معها المذيعة الشهيرة في شبكة “سي أن أن” الأميركية كريستيان أمانبور قبل أيام، إذ تحدثت بهدوء وصرامة وبلغة ومفردات مشحونة عاطفياً لكنها غارقة في واقعية حرب القطاع، وتطرقت إلى ازدواجية المعايير، إذ يدين العالم الغربي هجوم “حماس” لكنه لا يدين القصف الإسرائيلي على غزة أو يدعو إلى وقف إطلاق النار، وتحدثت عن مشاعر الصدمة والحزن لأهل الأردن “بصرف النظر عن أصولنا، ولا نستطيع تصديق الصور التي نراها كل يوم من غزة، نحن نشاهد هذه الصور ونحن ذاهبون للنوم ونستيقظ عليها”.
وأشارت إلى مشاعر الأمومة لدة رؤية صور أطفال غزة قائلة “لا أعرف كيف كأم، لقد شاهدنا أمهات فلسطينيات اضطررن إلى كتابة أسماء أطفالهن على أيديهم لأن احتمال قصفهم حتى الموت وتحول أجسادهم إلى جثث مرتفعة جداً”، مذكرة العالم أن “الأمهات الفلسطينيات يحببن أطفالهن مثل أي أم في العالم، واضطرارهن إلى أن يواجهن ذلك لا يصدق”.
وأنهت الملكة رانيا حديثها في إحدى قلاع الإعلام الغربي بقولها إن “الصمت يصم الآذان، وبالنسبة لكثيرين في منطقتنا يجعل العالم الغربي متورطاً عبر الدعم والغطاء الذي يمنحهما لإسرائيل التي تحاول الدفاع عن نفسها، وكثيرون في العالم العربي ينظرون إلى العالم الغربي ليس فقط على أنه يتحمل ذلك بل يدعمه أيضاً، وهذا أمر شنيع ومحبط للغاية بالنسبة إلينا”.
أمر شنيع
“أمر شنيع ومرعب بالنسبة إلينا” كانت الكلمات التي تداولها بعض مستخدمي الـ “سوشيال ميديا” على سبيل السخرية من اجتهاد اقترفته، على حد وصف بعضهم، الإعلامية المصرية بسمة وهبة قبل أيام، فقد تفتق ذهنها عن إطلالة فريدة فقام أحدهم بكتابة جمل لها بالعبرية لتوجهها كرسالة إلى الشعب الإسرائيلي “لتعرفه بما يفعله رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بهم”.
نطقت وهبة الجمل بطريقة أضحكت بعضهم وبنطق بدا تماماً أنه يعكس جهلها باللغة، وبأسلوب إلقائي دراماتيكي تراجيدي، وقالت “حكومتكم لا تبحث عن الأمن، وأنتم رأيتم كم الغضب العربي في جميع أنحاء العالم، وليس في الوطن العربي فقط. نتنياهو ليس بالحكيم الذي يعمل على حماية شعبه”، إلى آخر الرسالة الإعلامية التي أدت إلى ردود إعلامية إسرائيلية ساخرة.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد الذي جمع الجبهتين المتناقضتين على السخرية من اجتهاد المذيعة المصرية، بل مضت قدماً في التصريح بأنها بصدد التجهيز لرسالة جديدة توجهها بـ “عبرية متقنة” عبر الذكاء الاصطناعي، لا سيما بعد نجاح رسالتها الأولى في “عمل انقسام في إسرائيل حيث أصبح هناك أناس مع نتنياهو وأناس ضده”.
رسالة بالصدفة
المراسلة المصرية الشابة رحمة زين اجتهدت هي الأخرى، وشاءت ظروف وجودها عند معبر رفح البري قبل أيام في المكان نفسه الذي كانت مراسلة شبكة “سي أن أن” كلاريسا وورد تقف فيه، أن توجه لها رسائل نارية تم تسجيلها بكاميرات هواتف محمولة، ومن ثم بثها على منصات الـ “سوشيال ميديا” وشاشات عدد كبير من القنوات العربية والغربية، وتحولت بعد دقائق إلى خطاب إعلامي عربي موجه لصميم الخطاب الإعلامي الغربي.
زين تحدثت بالإنجليزية وبغضب شديد وصوت مرتفع ولكن بحنكة شديدة، وقالت للمراسلة الأميركية “أين قناتكم من تغطية ما يحدث هنا؟ قولي الحقيقة، أعلم أن لديك أجندات وأنك مجرد موظفة ومجرد دمية، تعالي إلى هنا وخاطبيني كإنسان”، وحين توجهت إليها المراسلة بالفعل استطردت زين “أعلم أنك تتحدثين كما تريد بلدك وحكومتك لكن دولتك التي تتحدث عن حرية التعبير تتفرج الآن”، مضيفة “أنتم تتحكمون في الإعلام وتملكون الأمم المتحدة وهوليوود وكل الأبواق، لكن أصواتنا يجب أن تسمع، نحن نساند فلسطين”.
المعايير المزدوجة
واستكملت زين الرسالة الإعلامية العربية الصادرة بالصدفة والموجهة للغرب برسالة إعلامية عربية أخرى ولكن عبر برنامج بيرس مورغان الذي استضافها بعدها بأيام، وتحدثت زين مجدداً عن المعايير المزدوجة والعلاقة بين أميركا وإسرائيل والتي وضعت العالم كله في أزمة، وما يتعرض له أطفال ونساء فلسطين من إبادة، مؤكدة على أن ما يحدث ليس حرباً لأن الحرب تفترض أن كلا الطرفين على قدم المساواة، وهذا ليس ما يجري.
ولم تتحدث زين عن دور المسلم في تحرير المسجد الأقصى أو الرؤية الدينية للصراع بين اليهود والمسلمين، أو تفسير الآيات القرآنية والأحاديث النبوية للعلاقة بين اليهود والمسلمين، بل تحدثت عن حق الفلسطينيين في فلسطين وعما يتعرض له الفلسطينيون من ظلم وإبادة، وقالت إن وسائل الإعلام والإعلاميين في الغرب غير قادرين على قول لا لإسرائيل من دون عواقب، وأنه يجب إدانة قتل المدنيين من الجانبين، ولكن المشكلة أنك (مورغان) تبدأ المقابلة بطلب مني أن أُدين “حماس” ثم يتحول إلى دفاع إسرائيل الأعمى عن دولتها مما يؤدي إلى مقتل آلاف الفلسطينيين، ويجب تغيير السرد فأنا لا أملك العلاقات العامة التي تمتلكها إسرائيل ولا أملك المال لتوظيف جاستن بير وغيرهم وجعل الناس يقولون صلوا من أجل إسرائيل وما إلى ذلك”.
الصلاة مهمة والإعلام أيضاً
الصلاة مهمة من دون شك، ودعوة العالم إلى الصلاة حين تأتي من شخصية مؤثرة قادرة على التأثير في الرأي العام، لكن الإعلام أيضاً مهم لتوضيح الحقائق حتى لو كان التوضيح يعكس رؤى بعينها، والفجوة في المفاهيم والمواقف بين الإعلامين العربي والغربي، ولا سيما في ما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، قديمة قدم الصراع.
منصات التواصل الاجتماعي تقوم بأدوار تعريفية تارة ومهمات تضليلية تارة أخرى، لكن يظل للإعلام التقليدي العربي الذي يخاطب الغرب، ولا سيما شاشات التلفزيون، دور يعاني الضعف والإهمال، لكن القوة والاهتمام لا يغيبان عن توجيه الاتهامات للإعلام الغربي بتجاهل الحقيقة والتحيز لإسرائيل، والاكتفاء بسردية واحدة لا تأخذ الجانب العربي في الحسبان.
غير مأخوذ في الحسبان
والجانب العربي غير مأخوذ في الحسبان لأسباب كثيرة، منها سياسية معروفة ومنها أن الإعلام العربي نفسه لا يقوم بما ينبغي أن يقوم به ليؤخذ الموقف العربي في الحسبان، وتقول المستشارة والمدربة الإعلامية التي عملت في كثير من وسائل الإعلام الغربية والعربية مريم سامي إن “فاقد الشيء لا يعطيه، إذ يعاني بعض وسائل الإعلام العربية من نقص الأدوات والقدرة على الوصول والتأثير، ومنه ما يعاني فقدان الثقة بين المتلقين العرب أنفسهم، إضافة إلى تضييقات أمنية كثيرة تمارس على العمل الإعلامي في داخل بعض الدول العربية مما يؤثر في المنتج الإعلامي النهائي”.
وتتساءل، “ما الذي يدفع متابعاً في نوفا سكوتيا أو سيدني أو غيرهما لمتابعة ما يبثه الإعلام العربي مقارنة بما يبثه أفراد عاديون مثلاً من موقع الحدث على ’يوتيوب‘ أو ما يبثه إعلامه الغربي من محتوى يفهم ثقافته وطريقة تفكيره ويوصل له الرسالة المراد توصيلها باللغة التي يفهمها والتي تؤثر فيه؟”.
وترى سامي أن مشاهد الدمار والنساء اللاتي يصرخن ويلطمن والجثامين المنتشلة من تحت الركام والرضع المقتولين والأطراف المبتورة التي تعرض على مدار الساعة على الشاشات العربية، وتؤدي إلى إحداث هذا الأثر الكبير جداً لدى المتلقي العربي، لا تلقى التأثير ذاته حال عرضها على شاشات غربية بل تؤدي غالباً إلى أثر عكسي.
تغطية مختلفة
والسبب في ذلك، على حد قول سامي، يكمن في اختلاف الثقافة والعوامل القادرة على التأثير ولغة الخطاب وطريقة التعبير عن الجزع والغضب وغيرهما، وتقول “التغطية المستمرة على مدار الساعة، لا سيما في الأيام الأولى التي تلت عملية ’حماس‘ على الشبكات التلفزيونية الغربية الكبرى مثل ’سي أن أن‘ و’بي بي سي‘ و’سكاي نيوز‘ الناطقة بالإنجليزية، كانت لا تخرج عن إطار مقابلات مع أسر القتلى والمحتجزين الإسرائيليين، إذ إن كثيراً من هذه اللقاءات أجري في غرف نوم الغائبين وحكايات عن ذكريات هنا وقصص هناك، وذلك على هيئة مشاهد ومشاعر إنسانية لأسر مكلومة”.
مضيفة، “نبرة صوت هادئة على رغم الغضب تأكيد على أنهم مدنيون ولم يقترفوا انتهاكاً ضد الفلسطينيين، ومطالبات بعودة الأقارب سالمين وجميعها هو الأقرب إلى ذهن وثقافة المتلقي الغربي، لذا هي الأكثر تأثيراً فيه، على العكس من الصراخ الهستيري والولولة والكلمات غير المفهومة حتى بالترجمة والصبغة الدينية للأحداث المروعة حيث الدعاء على المعتدي ومحتوى عنيف وقبلات للجثامين المسجاة، وهو ما يثير نفور المتلقي الغربي، لا لأنه عديم الإحساس بالضرورة، لكن لأن ثقافته مختلفة ولأن ما يثير عواطفنا ربما يثير عواطف مختلفة لدى غيرنا”.
استنزال اللعنات
وتضيف سامي، “نحن بصدد فجوة ثقافية شاسعة ولا يتوقع لها أن تردم أو يتم تجسيرها قريباً عبر خطاب إعلامي عربي يفهمه المتلقي الغربي، ونحن نصر على التأثير فيه بالأدوات نفسها التي تؤثر فينا، ونتصور أن عرضها واستخدامها بلغته تضمن توصيل الرسالة، وهذا ليس صحيحاً، فاستنزال اللعنات بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية والتهديد بلغاتهم أن المسلمين قادمون وأن الغضب الإلهي سيلحق بالمعتدين لن يحقق المراد في الغرب، فما يجب اعتماده للتأثير في الإعلام الغربي والمتلقي الغربي هو القانون الإنساني الدولي والكيل بمكيالين، والفصام بين ما تمثله أميركا وتدعو إليه من ديمقراطية وبعد عن العنف واحترام حقوق الإنسان، وما تقوم به من دعم كامل لإسرائيل التي تقترف هذا الكم من العنف والدمار”.
وتتساءل مريم سامي “لماذا لا يتم وضع طاولة أمام أحد المستشفيات في غزة وعقد مؤتمر صحافي يتحدث فيه أهل وأقارب الضحايا والمصابين شرط أن يكون حديثاً موجهاً للعقلية الغربية من دون إنزال لعنات إلهية، فقط حديث عن قانون إنساني لا يطبق وتهجير قسري وإبادة لا يلتفت لهما أحد وحصار وحشي؟ لماذا لا يتم توجيههم للحديث عن مشاعرهم تجاه أب قتل أو أم راحت في قصف أو طفل قضى من دون ذنب؟ وكل المطلوب حديث يفهمه المتلقي والإعلام في الغرب ويؤثر فيهما، وليس المتلقي والإعلام في الشرق فقط”.
وتمضي في تساؤلاتها قائلة “لماذا لا يتم تنظيم وتنسيق عربي بين خبراء الإعلام حيث كتابة مقالات رأي لكبرى الصحف الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها لشرح حقيقة القضية وحقيقة ما يجري على الأرض؟”.
وعن لقاءات باسم يوسف ورحمة زين تقول “إنها محاولات جيدة، لكنها تظل بعيدة من وسائل الإعلام التقليدية الجدية ذات التأثير الحقيقي”.