كنيسة القديس برفيريوس الغزيّة: معلم أثريّ دينيّ فريد
مساحة كنيسة القديس برفيريوس 216 مترًا مربعًا
على الرغم من صِغر مساحة قطاع غزّة، التي لا تتجاوز ثلاثمئة وستين كيلومترًا مربعًا، فإنّه يعدّ ملتقى للحضارات، وممرًّا للحقب الزمنيّة، والمعارك، والغزوات والحملات، ما جعله أرضًا غنيّة بإرثه الحضاريّ وتراثه الثقافيّ الذي يعود إلى ما لا يقلّ عن خمسمئة ألف عام.
منذ العصور القديمة، مرّت على المدينة الغزّيّة حضارات صنعت تاريخها الحافل المجيد، وتركت على أرضها إرثًا ثقافيًّا هائلًا، ومعالم عمرانيّة مسيحيّة وإسلاميّة مميّزة بعمارتها في أجزاء مختلفة منها. ولعلّ من أهمّ هذه المعالم كنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس، الواقعة في حيّ الزيتون جنوبي المدينة، والتي تعرّضت مساء يوم الخميس الموافق 19 أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي، أيّ بعد أربعة عشر يومًا من عملية “طوفان الأقصى” البطوليّة، إلى غارة جوّيّة صهيونيّة، كغيرها من معالم غزّة، كالمساجد والمستشفيات والمدارس والأسواق والأبراج السكنية في القطاع، رغم أنها جميعًا تُعَدّ “أماكن محميّة” بموجب اتّفاقيات جنيف الأمميّة والقوانين الدوليّة الإنسانيّة، والالتزامات الناشئة بموجب المعاهدات الدوليّة لحقوق الإنسان!
الغارة الجوّيّة الصهيونيّة أدّت، بحسب مصادر فلسطينيّة، إلى استشهاد ثمانية عشر فلسطينيًّا، بينهم أطفال ونساء، وإصابة العشرات بجروح مختلفة.
كما ألحقت الغارة أضرارًا مادّيّة جسيمة في أجزاء من مبنى الكنيسة، حيث انهار مبنى “مجلس وكلاء الكنيسة” بالكامل؛ وهذا الأمر بالتحديد يعيد إلى الأذهان ضرورة التفكير بالسبل الممكنة لحماية تراثنا الثقافيّ والحضاريّ في ظلّ الحرب الهمجيّة الصهيونيّة على كلّ ما هو فلسطينيّ، ذلك أنّ المحافظة على هذا التراث الثقافيّ والحضاريّ المعماريّ الفلسطينيّ عامّة، والغزيّ على وجه الخصوص، من المخاطر التي يتعرّض لها جراء الاحتلال الصهيونيّ الاحلاليّ الاستيطانيّ التوسعيّ، التي لا توفّر العمران بصُورِه المُختلفة المادّيّة والمعنويّة وتعرّضه لخطر التدمير المتعمّد، ممّا يمثّل خسارة فادحة لتراث وتاريخ المدينة الكنعانيّة، الطويل والغنيّ بإرثه الثقافيّ وكنوزه المعماريّة الأثريّة والتاريخيّة، والذي يعود إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، وهو ما دفعنا لأن نخصّ كنيسة القديس برفيريوس، هذا المعلم الأثريّ والدينيّ الفريد، بمقالةٍ نستعرض فيها تاريخ الكنيسة العريق وحاضرها المشرق.

يعود تاريخ البناء الأوّل للكنيسة، إلى القرن الخامس ميلاديّ، أيّ أنّ عمرها اليوم نحو 1616 عامًا، ما يجعلها تُعَدّ ثالث أقدم كنيسة في العالم، في مدينة غزّة العتيقة، وهي تقع على بعد أمتار من المستشفى الأهليّ العربيّ “المعمدانيّ”، التابع للكنيسة الأسقفيّة الأنغليكانيّة في القدس؛ وقد كانت على مرّ العصور شاهدًا موثوقًا على تعايش قام بين أتباع الديانتين المسيحيّة والإسلام، ذلك أنّ أجراسها تعانق مئذنة مسجد “كاتب ولاية” العتيق، الذي يعتقد أنّ بناءه يعود إلى عام 1432م. كما ويقع في نفس المنطقة على مسافة لا تزيد عن ثمانمئة متر سوق الزاوية الأثريّ، ومسجد العمريّ الكبير في شارع عمر المختار.
سُميت الكنيسة بهذا الاسم نسبة إلى القديس برفيريوس، المدفون في الزاوية الشماليّة الشرقيّة للكنيسة، والذي يُعتقد أنّه عند بلوغه سنّ الثلاثين غادر مدينة سالونيك في اليونان نحو مصر، التي عاش فيها قرابة الخمس سنوات ناسكًا، ومن ثمّ ذهب إلى القدس عام 395م لزيارة الأماكن المقدّسة فيها، وسكن مدّة في مدينة القدس، ليرحل بعدها إلى غزّة برفقة الشماس مرقص، الذي كتب تاريخ حياة هذا القديس لأنّه كان معه طيلة أيّام حياته حتّى سنة وفاته عام 420م عن عمر ناهز الثالثة والسبعين عامًا.
وبحسب الروايات التاريخيّة، فإنّ القديس برفيريوس حارب المعتقدات الوثنيّة غير السماويّة التي كانت تسود غزّة، ومهّد إلى نشر المسيحيّةِ بأوامرَ من الإمبراطوريّة البيزنطيّة، وقد شكّل هذا الأمر عقبة أمام القديس اليونانيّ، الذي واجه صعوبات في الدخول للمدينة، حيث اعتُبر أنه جاء لنشر الديانة المسيحيّة، ومؤازرة المسيحييّن، إلى أن دخلها بعد أدائه “صلاة المطر”، والتي أنقذت المدينة، بعد سبع سنوات من القحط، الأمر الذي أدّى إلى علو صيت القديس في المدينة، خاصّة بعد علاجه لمختلف الأمراض.
وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ القديس برفيريوس ذهب بعدها إلى القُسطنطينيّة للطلب من الملكة أفذوكسيا بناء كنيسة داخل غزّة، وكانت الملكة زوجة أركاديوسس عاقرًا، فأنبأها القديس بأنّها ستنجب طفلًا، ما دفعها إلى وعده ببناء كنيسة في حال أنجبت الطفل. وبالفعل، بعد ولادة الطفل بأسبوع، أوفت الملكة بوعدها، وتمّ البدء بإدخال مواد البناء، وأعمدة المرمر “الحجر السكري” في ظلّ حماية ملكيّة. فكان أن بُنِيَت على هيئة سفينة، دلالة على أنّها تمثّل “طوق النجاة” من مخاطر البرّ ومن عليه، بعد القرن الخامس الميلاديّ ما بين عامي 402م فوق معبد وثنيّ خشبيّ تمّ حرقه، وتمّ تدشينها عام 407م.
مصادر تاريخيّة تذكر أنّ معالم قطاع غزّة الجغرافيّة كانت يوم تشييد الكنيسة الأرثوذكسيّة تختلف عن الوقت الحاليّ، إذ كان يحيط بها سور وثماني بوابات.
أُطلقت عليها أسماء عدة، حيث سُمّيت في البدء باسم “كنيسة أفذوكسيا”، نسبة إلى أفذوكسيا زوجة الإمبراطور أركاريوس، وابنة الفيلسوف ليونكيوس اليونانيّ، حتّى وفاة القديس برفيريوس، لتحمل بعد ذلك اسمه.
كذلك أُطلق عليها “كنيسة المقبرة”؛ إذ تحيط بها مقبرة لأموات المسيحيّين، وأصبحت برفيريوس الكنيسة الأمّ في قطاع غزّة، بعد أن تحوّلت الكنيسة الأمّ الأولى بعد الفتح الإسلاميّ، في القرن السابع الميلادي، إلى مسجد في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وتمّت تسميته بـ “المسجد العمريّ” نسبة إليه.

ألحقت الغارة الإسرائيلية أضرارًا مادّيّة جسيمة في أجزاء من مبنى الكنيسة

استلهام من فنّ العمارة البيزنطيّة
تبلغ مساحة كنيسة القديس برفيريوس ما يقارب 216 مترًا مربعًا من الداخل، وهي ترتكز على عمودين رخاميّين ضخمين، وتتوسّطها ساحة في المنتصف تبلغ مساحتها 200 متر مربع.
بُنِيَت الكنيسة بحجارة يصل سمكها إلى 1.8 متر، وتمّ استلهام تصميمها، من فنّ العمارة البيزنطيّة القائم على أعمدة الرخام المزيّنة بالنقوش الكورنثيّة وزهرة اللوتس، التي تميّزت بها الحقبة البيزنطيّة حينها.
ومن أبرز ما يميّز الكنيسة، التي لم تستطع عوامل النحت والتعرية إزالتها، أو التأثير عليها، سقفها المزيّن بالألوان اللافتة، والأيقونات والنقوش والرسومات، التي تروي في جزءٍ منها حكاية النبي موسى والعهد القديم، بينما يروي الجزء الآخر حكاية العهد الجديد والسيد المسيح وصلبه، وقيامته، وتلاميذ المسيح، وبشارة المسيح، وموت العذراء مريم، وصعود المسيح إلى السماء.
فيما تحتضن الجدران أيقونات صغيرة وكبيرة لتزيين الكنيسة، تقصُّ على زوارها حكايات بعض الشخصيّات الدينيّة، كالقديسين الملكة هيلانة وابنها قسطنطين، الذي هيأته ليقبل الإيمان بالسيّد المسيح.
وللكنيسة بابان رئيسيّان؛ الباب الغربيّ المؤدّي إلى المدخل الرئيسيّ للكنيسة، والباب الشماليّ، وفتح لها باب إضافي حلّ محلّ الشباك الجنوبيّ من أعلى، وذلك ليكون مدخلًا ثالثًا للكنيسة، وهو يؤدّي إلى الطابق العلويّ عبر درجين يمتدّان نزولًا إلى قاعة المدخل الرئيس التي تمتدّ إلى الهيكل.

وتُقسم الكنيسة إلى قسمين من الداخل؛ الأوّل: هو الرواق أو الصالة الداخليّة، والتي تتّسع لنحو 500 من المُصلّين، وتضمّ الناحية الغربيّة للرواق “جرن المعموديّة” وهو طقس دينيّ لتعميد الأطفال، كما تمّ تعميد السيد المسيح في نهر الأردن، ويعد سرًا من أسرار الكنيسة السبعة، لتطهيرهم من خطيئة آدم وحواء، ولإحلال الروح القدس على المولود.
بينما يتمثّل القسم الثاني بهيكل “قدس الأقداس” وهو مكان وجود المذبح، أو الإنجيل المقدّس، ويخصّص للكاهن من أجل أداء الطقوس الدينيّة، ويمنع دخول النساء له لأيّ سبب من الأسباب، بينما يدخله الرجال للخدمة والضروريّات فقط.
وفي إحدى جنبات الكنيسة من الجهة الشماليّة، توجد مقبرة على مساحة تقارب ستمئة متر مربع، ما زال يَدفنُ فيها المسيحيّون أمواتهم، وهي مقبرة صغيرة وقديمة جدًا توجد فيها قبور ترجع إلى عام 1790م، ويتم الدخول إلى المقبرة من داخل ساحة الكنيسة.
ووفقًا لمؤرّخين فلسطينيّين، فإنّ البناء الحديث للكنيسة، التي لم تتمكّن عوامل الزمن من إخفاء معالمها المسيحيّة الواضحة والعريقة، قام به الصليبيون في خمسينيّات أو ستينيّات القرن الحادي عشر، وأهدوها للقديس برفيريوس، وتُظهر السجلات من القرن الخامس عشر أنّ تكريس الكنيسة كان أيضًا بمثابة “شهادة للسيدة العذراء”.
شهدت الكنيسة أحداثًا جسامًا وحروبًا طاحنة كانت شاهدة عليها على مدى القرون، أهمّها فترة حرب البيزنطيّين والفرس بين عامي 619م و622م، إضافة إلى زلزال ضرب جنوب فلسطين وسيناء عام 1033م.
كما لحقت بها أضرار أخرى في الهجوم المغوليّ على فلسطين عام 1260م، وهو الزلزال الذي ضرب المنطقة في نهاية القرن الثالث عشر ميلادي.
وكان الترميم الأوّل الواسع للكنيسة في أواخر العهد العثمانيّ عام 1856، لكن تعذّرت إعادتها إلى تصميمها الأوّل، غير أنّها بقيت محافظة على بعض الأفاريز والقواعد التي تعود إلى الفترة الصليبيّة.
ولا تزال كنيسة القديس برفيريوس تشهد في العاشر من شهر مارس/ آذار من كلّ عام فعاليّات خاصّة يحيي فيها المسيحيّون الفلسطينيّون في الكنيسة ذكرى رحيل القديس برفيريوس بوصفه “محطّم الأوثان”.