أسس غريش عام 2013 موقع “أوريان 21” المتخصص في العالم العربي والإسلامي وفي الشرق الأوسط، ويصدر الموقع المستقل من دون إشهار بخمس لغات (العربية، والفرنسية، والفارسية، والإنكليزية، والإسبانية)، بفضل جامعيين وصحافيين وأعضاء جمعيات مناضلة ومتعاونين ديبلوماسيين ليسوا محسوبين كلهم على الخط الافتتاحي. ولد غريش عام 1948 في القاهرة، وهو رئيس تحرير سابق لصحيفة “لوموند ديبلوماتيك”، ومتخصص في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولدت أمه في سويسرا من زوج يهودي روسي، وهنري كورييل الناشط الشيوعي الأممي هو والده الطبيعي، الذي اغتيل يوم الرابع من مايو/ أيار 1978 في باريس. وبحسب “ويكيبيديا”، فإن والده بالتبني قبطي مصري. لم توجه له دعوة من كل القنوات الفرنسية بشقيها العمومي والخاص حتى لحظة كتابة هذا الحديث.
(*) أولًا، كيف حالكم شخصيًا في هذه اللحظة التي تحرق فيها غزة باسم محاربة حركة حماس التي أعرف أنكم لا تشاطرونها التوجه الأيديولوجي؟
أنا حزين ومفجوع ومنهار شخصيًا كما تدركون من دون شك مما يقع في غزة في ظل حصار قديم ضد شعب أعزل، وعلى مرأى ومسمع وعجز أسرة دولية تتفرج على قصف المدنيين، وإجبارهم على النزوح نحو الجنوب، فضلًا عن عدم تجاوب الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا مع الدعوة إلى وقف إطلاق النار.
(*) هل أستطيع القول إن حزنكم خاص جدًا إن صح التعبير بحكم تفردكم بموقف تاريخي معروف مؤيد لنضال الشعب الفلسطيني، ولا أدل على صحة ذلك كتبكم الكثيرة عن تاريخه العادل، وكتاباتكم الصادرة قبل أيام في الموقع الذي تديرونه؟
نعم… نعم… لا شك في ذلك، ولكن حزني لا يساوي شيئًا أمام حزن الفلسطينيين، بحكم تواجدي في باريس بعيدًا عن مأساة يعجز اللسان عن وصفها.
(*) خلافًا لآخرين يأخذ عجزهم طابعًا تراجيديًا بحكم عدم قدرتهم على تمرير مواقفهم مثلكم، يمكن القول إنكم أمام سياق يمكنكم من تأكيد صحة مواقفكم التاريخية الداعمة لعدالة النضال الفلسطيني بشكل يدحض الدعاية الغربية المزدوجة المعايير حينما يتعلق الأمر بتفسير الإرهاب ليس في فلسطين فقط. أليس كذلك؟
هذا أمر أكيد، وأكثر من واجب. الحزن لا يكفي حيال هكذا مأساة إنسانية قبل كل شيء، وهي المأساة التي كتبت عنها مئات المقالات وعدد من الكتب كما تعلمون. كما فعلت في السابق، وكما سأفعل لاحقًا انطلاقًا من موقفي الثابت حيال قضية الشعب الفلسطيني العادلة، كتبت مقالًا مطولًا سيصدر في صحيفة “لوموند ديبلوماتيك” التي ترأست تحريرها لعقدين، كما نشرنا في موقع “أوريان 21” ملفًا شاملًا يتضمن مقالات عدة، بما فيها مقالي. زيادة عن ذلك، ألبي من دون تردد وسائل الإعلام بكافة أشكالها لإبداء رأيي المعروف. ولكن، وللأسف الشديد، لم يحصل هذا الأمر حتى هذه الساعة.
(*) كيف تفسرون التأييد اللامشروط لإسرائيل من معظم السياسيين والمثقفين الفرنسيين بدعوى محاربة “إرهاب” حماس الإسلامية، علمًا أنكم تعرفون أحسن مني أن مقاومة يساريين وشيوعيين وقوميين ووطنيين فلسطينيين وصفت بالإرهاب قبل عقود خلت قبل بروز المعارضات الإسلامية لاحتلال إسرائيل؟
سؤال في محله تفرضه مواقف معظم الأحزاب الفرنسية، سواء كانت من اليمين المتطرف، أو اليمين، أو اليسار الاشتراكي. الشيء نفسه يقال عن عدد كبير من المثقفين التابعين للتيارات التي تمثلها هذه الأحزاب بصفة مباشرة، أو غير مباشرة.
السياسيون والمثقفون الذين أصبحوا يجّسدون التأييد اللامشروط والمطلق لإسرائيل، كالذي يتعاظم مع مرور أيام مأساة غزة، كانوا حاضرين مبدئيًا ولو بمستويات متفاوتة قبل ثلاثين عامًا، وأصبحوا يجهرون به علنًا منذ حوالي 15 عامًا. تراجع دعم منظمة التحرير الفلسطينية يمكن ربطه بتغّير مواقف السياسيين الفرنسيين بمختلف توجهاتهم، فضلًا عن معظم المثقفين الذين تغيرت مواقفهم من القضية الفلسطينية. مقاربتهم الحالية تخضع في تقديرهم لسياق أيديولوجي مرفوض يستعمل للتغطية على المسؤولية التاريخية لإسرائيل باعتبارها تجسيدًا لاستعمار استيطاني ظالم في أرض احتلت بقوة الحديد والنار.
(*) هل تقصدون منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، الذي أرخ لـ”انطلاقة غير مسبوقة لصراع حضاري ضد الإسلاميين الإرهابيين”، كما قال بوش في حينه، وكما يُكرّر اليوم؟
بالضبط، وهو التاريخ المفصلي الذي أنهى موقف فرنسا الديغولي المعروف الذي توارثه منذ عام 1967 جيسكار ديستان، وجورج بومبيدو، وفرانسوا ميتران، وجاك شيراك، وهو الموقف ـ كما تعرفون ـ الذي ميزّ فرنسا باعتبارها الدولة الأوروبية التي أكدت في الماضي الذي أشرت إليه على حق الفلسطينيين في دولة مستقلة من دون إنكار حق إسرائيل في وجود سياسي جنبًا إلى جنب مع الفلسطينيين. وتأكيدًا على سلامة طرحكم بربط الحادي عشر من سبتمبر بالتغيير الجذري الذي أصبح يخدم إسرائيل فكريًا وسياسيًا في فرنسا، أضيف أن سياق الصراع الحضاري بين الخير والشر قد وجد في سياق ما بعد السابع من أكتوبر 2023 المبرر نفسه لشن حرب على إرهاب مرتبط بالإسلاميين، في خلط متعمد وممنهج مع السياقات التاريخية السابقة التي تثبت صحة الظلم الإسرائيلي، ورفضها الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، كما تنص عليه الأمم المتحدة.
(*) لهذا وصف معظم المثقفين والسياسيين الداعمين لإسرائيل بشكل غير مشروط السابع من أكتوبر بأنه الحادي عشر من سبتمبر الثاني، مجددين ومؤكدين نظرية الصراع الحضاري لصموئيل هنتنغتون (الحضارة ضد البدائية، والتقدم ضد التخلف). لعلمكم وعلم القراء، أضيف أن المفكر برهان غليون قد أكد صحة مقاربتكم في كتابه الجديد “سؤال المصير: قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية”. ولقد بينّ في مبحث كامل علاقة غرس إسرائيل في قلب الشرق الأوسط تكريسًا لخطة استعمارية أوروبية ممنهجة ومؤسسة فكريًا تحول دون تقدم العرب؟
تمامًا، تمامًا، ورفض هذه المقاربة ومحاربتها يؤكد صحة التفسير الطاغي والمهيمن ثقافيًا وإعلاميًا للإرهاب أميركيًا وغربيًا وإسرائيليًا منذ السابع من أكتوبر. استنادًا للتغير الجذري في الموقف الفرنسي فكريًا وسياسيًا وأيديولوجيًا بوجه عام، أصبح الإرهاب مرتبطًا ليس بالإسلاميين فقط، بل بالمسلمين في علاقتهم التاريخية بالهجرة. للأسف الشديد… هذا الربط الذي يكّرسه معظم المثقفين يلقى رواجًا كبيرًا.
(*) الفيلسوف آلان فينكلكروت قال قبل أيام: “فرنسا تدفع ثمن تراخيها في محاربة الهجرة”، ورفض متحدثًا لقناة فرنسية خاصة اعتبار ما يحدث في غزة مذبحة.
إنه أمر طبيعي ومتوقع، وهو من المثقفين الداعمين لإسرائيل من دون قيد أو شرط، أو حدود.
(*) هل التحدث عن المكارثية مبدئيًا، ورغم اختلاف السياق، أي من منطلق المنع الأيديولوجي للتعبير عن مواقف مخالفة للخطاب السياسي الفرنسي الطاغي إعلاميًا، يبدو لكم مقبولًا؟
لا أعتقد أنه ينطبق على الوضعية الفرنسية، بحكم اختلاف السياق رغم سلامة الربط، ورفضي المبدئي والقاطع لمنع المظاهرات المؤيدة للشعب الفلسطيني باسم مبررات سياسية وغير قانونية. تمرير الخطاب الأحادي أمر مرفوض مبدئيًا أيضًا، ما دام يغطي على أصحاب الأصوات والمواقف المخالفة للرواية الإسرائيلية الطاغية، وليس كل المثقفين مع الطرح الفرنسي الرسمي لما يحدث في غزة. حرية التعبير لا تتجزأ، وكما كان من حق الجميع التعبير بحرية بالقول: “أنا شارلي” من باب التضامن مع الصحيفة الفرنسية، فمن حق الجميع التعبير بحرية حينما يتعلق الأمر بفلسطين كتاريخ نضالي مشروع.
يبدو أن حرية التعبير تتوقف عند بداية الحديث عن فلسطين، واعتراضي على استعمال وصف المكارثية رغم تفهمي لخلفية سؤالكم المشروع أدعمه بقولي إننا نستطيع إسماع الأصوات المخالفة التي لا تسمح بها وسائل الإعلام المهيمنة. أنا معكم عند الإقرار بأن رواية أيديولوجية واحدة تعمل وسائل الإعلام المسيطرة على تمريرها خدمة لإسرائيل مبدئيًا، لكن لا يجب التعميم، ونحن يمكننا تمرير صوتنا في موقعنا، وكذلك في “لوموند ديبلوماتيك”.
(*) لكن تعترفون بحكم تاريخكم المهني الطويل، ومعرفتكم الدقيقة بتاريخ نضال الشعب الفلسطيني، أن مصادرة الحريات إعلاميًا بالشكل الذي نعيشه في فرنسا منذ السابع من أكتوبر هو الأول من نوعه. أنا أتابع مصدومًا ليل نهار على حساب حياتي الشخصية والصحية بشكل منتظم هذا الإعلام الذي لم يعد يحسد بحكم ممارسته المهنية الشبيهة بإعلام الدول الشمولية التي تسيطر فيها آراء مثقفين يدعمون سياسيي الطرح الفكري الواحد الأوحد، وفرنسا ليست دولة شمولية في ظني…
ولأنها كذلك، أنا أمّرر صوتي مع زملاء كثر. صحيح أن التضييق اليوم على الحريات، بما فيها حرية الإعلام، لم تعرفه فرنسا، باستثناء التعتيم المماثل، ولو بدرجة لا تقارن مع الموقف الفرنسي الديغولي عام 1967. إعلام تلك الفترة ليس إعلام اليوم كما تعرفون، ووسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا لا يمكن السيطرة عليه كليًا رغم الرقابة التي أصبحت تخضع لها. أنبهكم أنه لا يجب الخلط في الحكم بين سيطرة الرأي الواحد في الإعلام المرئي والمسموع، وبين مثيله المكتوب الذي يسمح بمواقف مخالفة، ولا أتحدث عن الصحف التابعة أيديولوجيًا للإعلام المهيمن اليوم.
(*) هل كتبت أن حماس منظمة إرهابية؟
لا، لا، لا، لم أكتب ذلك. ويمكن أن نناقش مفهوم الإرهاب، وقبل ربطه بحماس التي قتلت مدنيين إسرائيليين، الأمر الذي يسمح باعتبار فعلها فعلًا إرهابيًا، يجب القول والتأكيد إن إسرائيل دولة إرهابية قتلت الآلاف من المدنيين الفلسطينيين منذ عقود كمحتلة غاصبة لحقوقهم. في الحالة الإسرائيلية الحالية، وفي حالات سابقة، وصفت مقاومات كانت تناضل لتحرير أوطانها بالإرهابية، مثل جبهة التحرير الجزائرية، والمقاومة في أفريقيا الجنوبية، وحركات تحررية أخرى كثيرة.
(*) هذا يعني أن الإرهاب ليس وقفًا على إسلاميي حماس وداعش، وحتى على الإخوان المسلمين، كما أصبح يقال اليوم أوروبيًا وإسرائيليًا وأميركيًا، في خلط ممنهج… ومانديلا لم يكن إسلاميًا. أليس كذلك؟
نعم، لم يكن مانديلا إرهابيًا إسلاميًا. وأضيف في الأخير أن كلامي لا يعني أنني موافق مع التوجه الذي تمثله حماس، لكن الاختلاف معها أيديولوجيًا ليس مبررًا لقبول ازدواجية معايير الإعلام الفرنسي المهيمن، والذي لا يسمح بوصف إسرائيل بالإرهابية. سياسيًا، الأمر يختلف حينما نتحدث عن حماس، ولست أنا الذي يتحدث عنها أفضل من الفلسطينيين، ولا ننسى أنها حصدت 40 في المئة في الانتخابات، وهي قوة سياسية لا يمكن القفز عليها، وإذا كانت هناك مفاوضات عاجلًا أم آجلًا فستكون معها.
(*) ما رأيكم في مواقف عدد قليل من المثقفين الفرنسيين المنحدرين من أصول عربية، ومن بينهم الطاهر بن جلون، فضلًا عن الجزائريين، كمال داود، وبوعلام صنصال، وياسمينة خضرا، وآخرين أقل شهرة منهم. كتاب اختاروا صف الظالم الاستعماري التاريخي متمثلًا في إسرائيل من دون تأييدهم توجه حماس الأيديولوجي مثلكم. الفرق بينكم وبينهم يكمن في التضحية بنضال وعدالة نضال الشعب الفلسطيني باسم محاربة الإسلاميين بوجه عام، وكأنهم يقولون “إسرائيل ولا الإسلاميين” خارج سياق تحليلكم للمعتدي التاريخي الإرهابي. ما تعليقكم؟
بنوع من الانزعاج، ردّ على غير عادته، وهو البارد الهادئ: إن جيل بن جلون لا يمّثل شيئًا اليوم في تقديري، وهو جيل يعيش في ماضيه الذي تجاوزته المستجدات. هنالك جيل من المثقفين والمبدعين الذين تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والأربعين، وهم يؤيدون كفاح الشعب الفلسطيني، وغير معروفين للأسباب التي أسلفت ذكرها. دور المثقفين تراجع مقارنة بدور مثقفي الستينيات والسبعينيات، سواء تعلق الأمر بنوعية ثقلهم وتأثيرهم، أو انفتاحهم على الآخر. وهنالك من تحدث عن موتهم استنادًا للدور الذي يجب القيام به. المثقفون الذين ينتمون للجيل الفرنسي الجديد المنحدر من أصول عربية كثر، ولا أعرف أحدًا لا يؤيد نضال الشعب الفلسطيني، رغم أنهم ليسوا من مؤيدي توجه حماس. هؤلاء يجازفون بمواقفهم، ويمكن أن تطاولهم المطاردة في الجامعات بسبب مواقفهم، وهم غير معادين للسامية، ويتظاهرون في شوارع باريس ليس للدفاع حتمًا عن حماس.