ملخص
أنجز الكاتب والناقد اللبناني فارس يواكيم، ترجمة كاملة لديوان “عينا إلسا” للشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون، وكتب له مقدمة ضافية، وخص القصائد بشروح وهوامش، تساعد القارئ العربي على الإلمام بظروف القصائد وخصائصها.
يفاجئ فارس يواكيم الكاتب المتعدد الحقول مسرحاً وسيناريو ونقداً وترجمة، قراء الشعر في العالم العربي بترجمة كاملة وموثقة لديوان الشاعر الفرنسي الكبير لويس أراغون (1897- 1982) “عينا إلسا” أو “عيون إلزا” بحسب العنوان الشائع في بعض الأوساط العربية. وقد أوضح في مقدمته الضافية، سبب اختيار هذا العنوان الذي يعود إلى جمع العين، “عيون”، بينما الأصل هو المثنى “عينان”، مستخدماً في الترجمة عبارة “عينا إلسا” وهي الصحيحة لفظاً وكتابة، ويرجع إلى الأصل الفرنسي للعبارة التي لا تجوز ترجمتها إلا بصيغة “عينا إلسا”، لكنه اختار لعنوان الغلاف الصيغة الرائجة شعبياً “عيون إلزا”. عطفاً إلى أن اسم إلسا بالفرنسية لا يلفظ “إلزا” بتاتاً، وهذا من الأخطاء الشائعة عربياً.
تُرجم هذا الديوان سابقاً في القاهرة وقد أنجز ترجمته شاعر العامية فؤاد حداد واختار عنوان “عيون إلزا” واستطعت أن أحصل على نسخة مأنجزصورة منه (صدر العام 1969)، فقرأت ما قرأت من الترجمة ولم أستطع أن أكملها نظراً إلى رداءة الطباعة أولاً وعدم تحريك الكلمات حين لا بد منه، علاوة على الأخطاء اللغوية والمعاني المضادة وركاكة الأسلوب وعدم مراعاة شعرية أراغون لا سيما في هذا الديوان الكلاسيكي المتين. واللافت ان الشاعر المصري الكبير استخدم كلمات كثيرة بالعامية المصرية، غير مبال بالقارئ العربي، ومنها مثلاً: “تفاريخ ترخّ” (زخات المطر)، “سرسعة التراجم” (صريف أدلّاء السياحة)، “الشراشيب” (الشرابات)، “البلكونات” (الشرفات)، “الصيع” (السوقة)، “البصباصين” (المتلصصين)، “النسوان” (النساء)… وتُرجمت من الديوان سابقاً بضع قصائد إلى العربية منها قصيدة “عينا إلسا” التي ترجمها الشاعر عبد الوهاب البياتي مع أحمد مرسي. واختلفت صيغ ترجماتها خصوصاً في المقطع الأول الذي حيّر المترجمين بسبب بنيته المعقدة والمتينة والسلسة في الحين عينه، لكن يواكيم وجد لها صيغة جميلة ومحكمة توائم بنيتها الأولى وكذلك إيقاعها الشعري.
أنجز يواكيم الذي يجيد الفرنسية عطفاً على الألمانية، ترجمة مميزة للديوان وقصائده المتراوحة بين شعر حب وغزل، وشعر التزام ومقاومة، والمسبوكة في صيغة كلاسيكية أو نيو كلاسيكية، انطلاقاً من الوزن “الألكسندري” الأشد كلاسيكية، فإلى إيقاعات عدة. ويبدو أن يواكيم منح الديوان هذا جهداً جهيداً وصرف له وقتاً طويلاً جداً متأنياً في اختيار المفردات والمترادفات والصيغ، وسبكها في لغة عربية أنيقة وغير متحذلقة، متينة وطليّة في وقت واحد، أمينة على المعنى و”خائنة” حين لا بد من الخيانة التي تخدم الشعر والقصيدة. وعطفاً على مقدمته المهمة التي قدم بها الترجمة وناقش بعض الصيغ، أرفق يواكيم القصائد بهوامش توضح ظروف القصائد أو مناسباتها وإشكالاتها إذا ما اقتضى الشرح.
واستهلالاً، لا بد من التوقف عند ما يسمى “سلسلة إلسا” التي ضمت دواوين عدة تحمل اسم الحبيبة التي شغلت حيزاً واسعاً من شعر أراغون وشعريته، كما من حياته ونضاله ووجوده. طغت إلسا على أراغون الإنسان والشاعر وحلت في الفترة التي كان ينتقل فيها من المرحلة السوريالية إلى مرحلة الالتزام السياسي والوطني، منتمياً إلى الحزب الشيوعي الفرنسي ومدخلاً في حركة المقاومة مع عدد كبير من الشعراء، ونجمت عن هذه الحركة دواوين وقصائد لا تحصى منها دواوين لأراغون.
برزت إلسا في أول دواوين أراغون التي مهدت للسلسلة وهو “الحسرة” (أو “الغصة”) الذي صدر عام 1941 وضم قصائد عدة مع نص نقدي مهم بعنوان “القافية” لكنه لم ينل نجاحاً ملحوظاً، ثم تلاه في العام نفسه “نشيد إلى إلسا” وهو قصيدة طويلة ذات نفس غنائي (صدر لاحقاً بعنوان “إلسا” عن دار غاليمار1959)، ثم كان “عينا إلسا” (1942) الديوان البديع الذي ضم 21 قصيدة والذي ترسخت فيه تجربة أراغون الكلاسيكية أو النيوكلاسيكية التي توفق بين شعراء العصر الكلاسيكي وشعراء القصيدة الحرة، فراح يخلق الإيقاعات المنسابة بعذوبة ولين ويبتدع الصور الساحرة والمجازات والاستعارات غير المألوفة، وأخيراً ديوان “مجنون إلسا” (1964) الذي يوصف بالقصيدة الملحمية الجديدة والمعاصرة التي تستلهم الشعرية الأندلسية العربية والشعرية الفرنسية والأوروبية القروسطية والشعر الحديث في بوتقة واحدة، مركبة وغنائية تجمع بين السرد والمسرح والفلسفة الأندلسية والإسلامية والسوسيولوجيا والتاريخ.
ويعبر هذه الملحمة الحدث الرهيب المتمثل في سقوط غرناطة الذي صادفه تاريخياً اكتشاف أميركا، وفي هذه الملحمة الحديثة تشرق الأندلس بمسلميها ويهودها ويحضر في فضائها الرحب مجنون ليلى ودون كيخوته ولوركا وابن رشد وموسى بن ميمون، وفيها أطلق أراغون جملته الشهيرة التي راجت عالمياً “المرأة مستقبل الرجل”، ولم تغب إلسا المعشوقة مثلاً عن ديوان “العينان والذاكرة” فقصائده كلها عن الحبيبة نفسها، وقد ترجم ديوان “مجنون إلسا” الكاتب والسفير السوري سامي الجندي وصدر عام 1981 عن دار الكلمة (متوافر في مواقع عدة على الإنترنت)، وحاولت أن أقرأ الترجمة هذه وأقارنها بالأصل (دار غاليمار) فلم أتمكن من القراءة تبعاً لجفاف الترجمة وقسوتها وعدم شعريتها بل عدم إحساسها بالنفَس الغنائي والملحمي الأراغوني. ولهذا السبب سعى الكاتب والباحث السوسيولوجي والأكاديمي التونسي الطاهر لبيب إلى إيجاد مترجم جديد له ليصدره في سلسلة “نقل المعارف” التي أسسها بعد تجربته الطويلة في رئاسة منظمة الترجمة العربية، فلم يجد مترجماً قادراً على تطويع هذا النشيد وتعريبه بأمانة وإبداع.
إلسا تريوليه
يقول الناقد بيار ديكس عن إلسا إنها “أعادت بناء أراغون وأفكاره عن الحياة بعد الكارثة السياسية”، بل كانت بمثابة “اللقيا” التي وجدها أراغون في أقسى فترات حياته الفترة المضطربة سياسياً وشعرياً وإيديولوجياً، وكان في حال الصراع بين الدادائية والسوريالية التي كان من مؤسسيها، إلى جانب أندريه بروتون وثلة من الشعراء مثل بول اليوار وفيليب سوبو ورينه شار وسواهم، والشيوعية التي انتمى إليها، على رغم أن الستالينية أدت إلى ربيع براغ الرهيب.
غادر أراغون السوريالية والشعر السوريالي و”الكتابة الآلية” وثورة اللاوعي والحلم و”المصادفة الموضوعية”، والتزم الشيوعية وزار موسكو وتغاضى عن مساوئ النظام الشيوعي المعروفة. وبين هذه المدارس والتمرد عليها، كان أراغون شاعر الحب ومثّل مع إلسا ثنائياً عشقياً وسم تاريخ الشعر، مثل الثنائي قيس وليلى وتريستان وايزولت ودانتي وبياتريس وبترارك ولور وتيد هيوز وسيلفيا بلاث، ولكن من كانت هذه الساحرة التي تدعى إلسا التي غناها شعراء الأغنية والموسيقى من أمثال ليو فيري وجان فيرا ؟
إلسا تريوليه حبيبة أراغون هي روائية وكاتبة ومترجمة من الروسية إلى الفرنسية ومن الفرنسية إلى الروسية، اسمها الأصلي آيلا يوريفينا كاغان ولدت في موسكو عام 1896 من عائلة يهودية مثقفة ومنفتحة على سائر الثقافات، درست الفرنسية منذ السادسة من عمرها وتخصصت لاحقاً في الهندسة، وفي موسكو أغرم بها العالم اللغوي الروسي الذي أصبح أميركياً رومان ياكوبسون الذي غزت نظرياته في الألسنية جامعات العالم.
صادقت بوريس باسترناك صاحب “الدكتور جيفاكو” الفائز بجائزة نوبل التي لم يتسلمها تحت ضغط الحكم الشيوعي، وصادقت أيضاً الناقد الكبير فيكتور شكولوفسكي. ففي العام 1911 التقت شاعر الثورة البولشفية الذي سينتحر لاحقاً ماياكوفسكي، وكان حبها الأول وكتبت عنه كتاباً عندما أصبحت فرنسية. لكن الصدفة جعلتها تتزوج عام 1911 من ضابط فرنسي يتولى وظيفة في موسكو يدعى أندريه تريوليه، واسم عائلته رافقها حتى بعد طلاقهما وزواجها من لويس أراغون عام 1938. زواجها الفرنسي أتاح لها الفرار من الثورة التي كانت تتبنى أفكارها ولكن ليس ما أحدثت من بؤس وفقر وجوع وحرب أهلية وظروف إنسانية قاسية.
جائزة غونكور
من كتبها الأولى بالروسية: “فراولة الغابة” (1926)، “تمويه” (1928)، وترجمت إلى الروسية رواية “رحلة إلى أقصى الليل” تفي الحفة الروائي الفرنسي سيلين، وروايتي أراغون “أجراس بال” و”الأزقة الجميلة”، كما ترجمت من الروسية إلى الفرنسية كتباً ونصوصاً لتشيخوف وماياكوفسكي وغوغول ومارينا تسفيتيايفا. روايتها الأولى بالفرنسية هي “مساء الخير تيريز” (1938)، وفي عام 1945 كانت أول كاتبة امرأة تفوز بجائزة غونكور عن مجموعتها القصصية “الناب الأول ثمنه 200 فرنك”. ومن كتبها أيضاً: “إخراج الكلمات” (1969) و”البلبل يصمت في الفجر” الصادر في 1970 عام وفاتها.
كانت إلسا تريوليه تكبر أراغون عاماً لكنها ماتت في الـ74، بينما رحل هو في الـ85 تاركة له عشرة أعوام يعيش مع طيفها ومع صورتها وقلبها، لكن إشاعات كثيرة دارت في فرنسا حول مثلية أراغون وعلاقته الحميمة مع الشاعر جان ريستا الذي ظل رفيقه حتى وفاته ووكيل أعماله بعد رحيله، والإشاعة عن مثلية أراغون لا يمكن أن تعبر بسهولة فما كتبه من شعر حب في إلسا من أجمل ما كتب شعراً في المرأة.
وبالعودة إلى ترجمة فارس يواكيم لديوان “عينا إلسا”، فمن يقرأ القصائد المترجمة ويقارنها بالقصائد الأصل يكتشف كم أن الترجمة أمينة وموثقة ومبدعة، على رغم الحرية التي منحها يواكيم الملم بالفرنسية لنفسه ليؤدي المعنى في اللغة التي يفترضها المعنى، والبعدين النفسي والفكري اللذين تختزنهما القصائد، ولكن مع مراعاة للبعد الجمالي أيضاً والتقنين والأسلوبي والمجازي في ما يعني المجاز الأراغوني، من صور وتشابيه تراوح ما بين الحسي والنفسي ومن بلاغة السهل الممتنع والانسياب الإيقاعي الذي لم تأسره الأوزان الألكسندرية (8 سيللاب) ولا سواها. لا تفسير هنا ولا شرح ولا استفاضة بل إيجاز يخدم القصيدة بصفتها الكلية.
في ترجمته قصيدة “عينا إلسا” مثلاً يقول في المقطع الأول الشهير جداً: “عيناك ما أعمقهما، حين انحنيت لأشرب/ رأيت فيهما الشموس جميعاً جاءت تتمرى/ وكل اليائسين يرتمون فيهما منتحرين / عيناك ما أعمقهما، فيهما أفقد ذاكرتي”.