وزير الخارجية الايراني مع رئيس حماس اسماعيل هنية

لا وقت للحرب إلا إذا فُرضت، هذا هو العنوان العريض لسياسة إيران واستراتيجيتها للربط بين الشمال والجنوب، فلا وقت للانشغال بأي معركة والرجوع إلى الوراء لمصلحة قوى قد تستغل الظرف الراهن للتقدم للأمام؛ إذ كانت طهران قلقة من فتح جبهتها الشمالية مثلما قلقت إسرائيل أيضاً من الجبهة نفسها!
كانت الجمهورية الإسلامية قلقة من أن تفعلها تركيا وتُشعل حرباً في القوقاز في ظل الانشغال بحرب غزة؛ إذ تطمح أنقرة لفتح ممر زنكه زور داخل جنوب أرمينيا لربط أراضيها بأذربيجان، وبذلك يصبح لدى تركيا ممر استراتيجي يربطها ببحر قزوين ومنطقة آسيا الوسطى الغنية بالطاقة والمعادن، التي تمثل جزءاً من معادلة الشرق الأوسط الجديد.
صحيح أن ما يحدث في غزة له جوانب إيجابية بالنسبة إلى إيران؛ فقد فتح الباب لمزيد من التدخل الروسي والصيني وكذلك الإيراني، كما أضر بالممر الاقتصادي والتجاري الذي يربط الهند بأوروبا عبر دول الخليج وصولاً إلى ميناء حيفا، لمصلحة الممرات الإيرانية؛ لكن مع ذلك فلا أحد يريد للحرب اتساعاً بما يعطل المنجزات والخطط الاقتصادية المستقبلية.
 
لا وقت للحرب
كان الجميع يراقب خطاب الأمين العام لـ”حزب الله” اللبناني، حسن نصر الله، الجمعة 3 تشرين الثاني (نوفمبر)، وقد تباينت الآراء حوله؛ لأن البعض كان يتوقع خطاباً ثورياً يُعلن فيه ساعة الصفر ضد إسرائيل، لكن مثل هذا التفكير خارج منطق الحرب، فقد كان ذلك الخطاب إعلاناً صريحاً لاستراتيجية إيران تجاه المنطقة، بأنها لن تسمح بفرط عقد جماعاتها المسلحة الموالية لها، وكذلك أيضاً لن تذهب إلى حرب واسعة إلا إذا فُرضت عليها.
لذلك كان خطاب نصر الله توضيحاً لهذه الاستراتيجية وإن أنكر وصاية إيران على قرارات فصائل محور المقاومة؛ لكن ما تقوم به هذه الجماعات المسلحة من عمليات استهداف للقوات الأميركية في سوريا والعراق هو ترجمة عملية لكلمة المرشد الأعلى علي خامنئي الذي اتهم أميركا صراحةً بأنها المسؤول الأول عن إيقاف هذه الحرب.
وبذلك تكون عمليات إطلاق الصواريخ من جانب جماعة الحوثي اليمنية أو مناوشات “حزب الله” في المناطق اللبنانية الجنوبية المحتلة أو استهداف مُسيرات الفصائل للقوات الأميركية، الهدفُ منها هو ممارسة الضغط على الولايات المتحدة لتقوم بدورها وتضغط على إسرائيل لإيقاف هذه الحرب؛ وليس التوجه نحو توسيعها خارج غزة كما توقع البعض من خطاب نصر الله.
بل حتى أن نصر الله لخص سياسة إيران ومحورها نحو غزة في هدفين معلنين، الأول: وقف العدوان على غزة. والثاني: عدم القبول بهزيمة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لما له من انعكاسات سلبية على التوازن الإقليمي وكذلك على محور المقاومة الموالي لإيران، وهو ما دفع نصر الله لتأكيد هذه النقطة لدول جوار فلسطين المحتلة، بأن ضَعف وضع الفلسطينيين في الداخل يضر بإدارة هذه الدول لملفات مثل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وحق عودة الفلسطينيين النازحين.
 
مطلب مشترك
ربما كان التقييم الإيراني لموقف دول عربية من أزمة غزة بدا أمراً مستفزاً وأشبه بمحاولة فرض وصاية عليها؛ لكن في الحقيقة فإن إيران متفقة مع هذه الدول على عدم اتساع الحرب، وأيضاً على عدم خسارتها مكتسباتها السياسية التي بدأت منذ مصالحتها مع السعودية، ولا يمثل تقييمها هذا سوى استعراض وحشد للمنطقة من أجل الضغط على إسرائيل لإيقاف تلك الحرب، فقد طالب خامنئي، الأربعاء 1 تشرين الثاني (نوفمبر)، الدول الإسلامية بوقف تصدير النفط إلى إسرائيل، وبأن على الدول الإسلامية أن تطالب بوقف العدوان على قطاع غزة، وهذا المطلب نفسه تكرر على لسان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والأمين العام لـ”حزب الله”، الجمعة الماضية؛ لأن إيران تدرك أن القوى الإقليمية متفقة معها في هذا المطلب، فلا أحد يرغب في توسيع دائرة الحرب.
وإذا نظرنا إلى الجولات الخارجية التي أجراها وزير الخارجية الإيراني حسين عبد اللهيان، نجد أنها أيضاً كانت من أجل ممارسة الضغط لإيقاف الحرب في غزة وليس من أجل إدارة بريد رسائل عسكرية كما يُخيل أو يتخيل البعض؛ فقد اختتم عبد اللهيان الخميس 2 تشرين الثاني (نوفمبر) جولة إقليمية شملت قطر وتركيا، ليس بوصفهما دولتين على خط الجبهة مع “حماس” كما أشاع الإعلام الإيراني، لكن بوصفهما محطتين للتواصل السياسي مع حركة “حماس” لإدارة عملية التهدئة بالتنسيق معها؛ فهناك دول مثل تايلند ذهبت إلى طهران مباشرة من أجل إدارة عملية تحرير رهائنها لدى “حماس”، وهذه المسألة أمر تشترك فيه الدول المعنية كافة بمساعي وقف إطلاق النار وإعلان الهدنة وإطلاق سراح الرهائن.
ولذلك قال عبد اللهيان فور عودته من جولته الإقليمية التي التقى خلالها في الدوحة رئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية: “نأمل أن نشهد تحقيق الجهود للوقف الفوري لجرائم الحرب الصهيونية ضد المدنيين في غزة”.
 
خطاب احتواء!
أيضاً فإن تأكيد عبد اللهيان المشاركة في القمة الإسلامية الطارئة في المستقبل القريب في السعودية، وترويجه لأن طهران هي الداعية إلى هذه القمة وأن الرئيس الإيراني قد بذل الجهود والاتصالات مع الدول الإسلامية لعقد هذه القمة؛ هو مؤشر إلى أن إيران جادة في المصالحة للحفاظ على مصالحها مع دول العالم العربي والإسلامي.
وهذا كان واضحاً من مستوى الخطاب الإعلامي والسياسي تجاه دول العالم العربي الذي كان سابقاً يقوم على توجيه الاتهامات وتخوين الحكومات، بينما اليوم يقوم على احتواء الأزمة وعدم التصعيد بما يضر بالعلاقات السياسية؛ فالمصلحة هي ما حددت طبيعة الخطاب هذه المرة وليست وحدة القضية.
وإذا نظرنا إلى خطاب المحور الإيراني الموجه إلى الغرب بداية من لقاءات عبد اللهيان الإعلامية خلال وجوده في نيويورك وصولاً إلى خطاب السيد حسن نصر الله، نجدها تحمل رسالة طمأنة للغرب بأن إيران تشارك القوى الإقليمية الرغبة في إيقاف الحرب ولا نية لتوسيعها.
لكن كانت رسالة عبد اللهيان واضحة للأميركيين أيضاً خلال حواره مع صحيفة “نيويورك تايمز”، بأن عليكم أن تتحملوا مسؤوليتكم أيضاً للضغط على إسرائيل من أجل إيقاف هذه الحرب، بخاصة أن المخاوف الغربية لا تتعلق بمستقبل إسرائيل فحسب، بل تمتد إلى الخشية من الحضور الروسي في مشهد غزة، بما يشغل الأوروبيين عن الحرب في أوكرانيا.
عين على الشّمال والجنوب
قد تبدو رسائل الطمأنة من جانب إيران تجاه الغرب، أنها استجابة للتحذيرات الأميركية من اتساع دائرة الحرب؛ لكن واقعياً فإن إيران الإسلامية لا تريد الذهاب وراء فكرة مُتخيلة صاغتها في أذهان مواليها في توقيت واقعي لا يسمح بتحقيقها، ولذلك قال نصر الله الجمعة الماضية: “لم يحن بعد وقت الضربة القضية”!
وهذه كانت رسالة تعبر عن رؤية تفكير واقعية، بينما البعض كان ينتظر منه إعلان حرب نهاية العالم وظهور إمام الزمان التي خيلتها أدبيات نظام ولاية الفقيه في أذهانهم.
لكن إيران كانت عينها على مكاسبها الاقتصادية التي قد تخسرها، ولذلك هي أول الداعمين لإيقاف هذه الحرب؛ فبينما كانت الحرب تطحن غزة وشعبها، كانت عينها على جنوبها، تجري مشاوراتها مع الرياض لتفعيل الاتفاقيات المعطلة، وعلى رأسها اللجنة الاقتصادية المشتركة والاتفاقية الجوية لعام 1998، من أجل تيسير رحلات المستثمرين والانتقال إلى مرحلة متقدمة في اتفاق المصالحة السياسية بين البلدين.
وشمالاً، كانت تجري إيران أيضاً اتصالاتها في إطار نادي التنسيق لممر شمال-جنوب مع روسيا والعراق وأفغانستان والهند ودول القوقاز وآسيا الوسطى لتفعيل الاستثمارات في هذا الممر الاقتصادي والتجاري المنافس لممر الخليج-إسرائيل والمكمل له أيضاً في إطار تجارة الترانزيت.
لقد جنت إيران مكاسبها بعدم الانشغال عن مصالحها الاقتصادية وعدم السماح لقوى مثل تركيا بتنفيذ مخططاتها في ظل الانشغال بما يحدث في الجنوب، فقد وقعَ وزير الطرق الإيراني مهرداد بذرباش، خلال اجتماع منظمة التعاون الاقتصادي (ايكو) في طشقند، الخميس 2 تشرين الثاني (نوفمبر) على مذكرة تفاهم تضع إيران على ممر التجارة بين آسيا وأوروبا، حيث يربط هذا الممر بين الصين وأوزبكستان وتركمانستان وإيران وتركيا وأوروبا.
وتأتي هذه الخطوة في إطار إقناع تركيا وأذربيجان بالتوقف عن الضغط شمالاً لفتح ممر بري عبر أراضي أرمينيا، وتكون الحدود الإيرانية البرية كما هو حالياً البديل لذلك الممر، بخاصة أن أذربيجان بدأت تأخذ خطوات عملية للاقتناع بالرؤية الإيرانية مرحلياً بتوسيع الاتصال البري والسككي عبر إيران لربط حدودها مع تركيا.
 
الملف النووي!
لقد كانت نظرة إيران أكثر واقعية وبراغماتية من أنصارها الذين تخدروا بخطابها الثوري، فهي تدرك أن معركتها لنجاح مصالحها الاقتصادية والتنموية تحتاج إلى الخروج من عزلتها، فطوال الوقت توصيها الصين بالانضمام إلى معاهدة مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب (فاتف) لدعم تجارتها الخارجية، وهو أمر ما زال يرفضه دعاة الحرب داخلها، لكن إيران التي يحكمها التيار المحافظ بدأت تفكر بجدية في هذه المعاهدة لفتح تجارتها الخارجية ودعم ممراتها.
كما تدرك طهران أن حرب غزة يجب أن تتوقف في ظل تعطل المحادثات النووية مع الغرب التي بموجبها حصلت إيران على انفراجة في مبيعاتها النفطية واستعادت أموالها المجمدة في الخارج بما ساعدها على تخفيف أزمتها الداخلية، بخاصة أن ارتفاع مستوى التضخم يهدد باندلاع موجة غضب داخلية قد تقضي على النظام الإيراني برمّته إذا ما خرج الأمر عن سيطرته.
لذلك يدل خطاب نصر الله إلى أن إيران تدرك خطورة الوضع، بعدما تم سحب ملف المفاوضات النووية برعاية سلطنة عمان من جدول الأعمال؛ فهي لا تريد العيش في أجواء اقتصاد حرب، بينما المعركة تجري بعيداً من حدودها في غزة، إذ بدأت تُسمع أصوات في أميركا وأوروبا تطالب بعودتها إلى المربع الأول (تشديد العقوبات وعدم تخفيفها)، بخاصة أن الإدارة الأميركية الحالية تواجه ضغوطاً داخلية على وقع استمرار المحادثات مع إيران التي تقدم الدعم لجماعات مثل “حماس” و”حزب الله” اللبناني.
والمحصلة، فإن خطاب حسن نصر الله الذي أضحك وأبكى، مفاده أن وقوع حرب إقليمية بمشاركة إيران ما زال بعيداً، وأن إيقاف الحرب في غزة هو مطلب للجميع، سواء من داخل أو خارج الإقليم.