القضية الفلسطينة هي أكثر قضايا الأرض قاطبة تعاسة وألماً، فالتضحيات ضخمة والدماء غزيرة، عبر العقود الأخيرة تمضي قوافل إنسانية تتحدث عن حقوق الإنسان وعن حركات التحرير الوطني، كما صدرت عشرات القرارات الأممية تدين الاحتلال الإسرائيلي، وتطالب باحترام الشرعية الدولية والتعامل مع الشعب الفلسطيني بما يليق بشعب له تاريخه ومكانته.
لا بد أن نعترف هنا أن العالم المعاصر الذي يكيل بمكيالين ويطبق من دون خجل سياسة ازدواج المعايير هو المسؤول الأول عن سلسلة المواجهات الدامية بين الفلسطيين وإسرائيل، وذلك على رغم أن الشعب الفلسطيني قد حصل خلال السنوات الأخيرة على نوعية جديدة من التأييد الدولي والتعاطف الإنساني.
لكن ذلك كله لم يشفع لحكام اسرائيل أن يعتمدوا صراحة حل الدولتين، الذي يعطي الفلسطينيين حقهم في إقامة دولتهم المستقلة على أرضهم وعاصمتها القدس الشرقية، ولنا هنا عدد من الملاحظات المرتبطة بهذا التصور وأهمها:
أولاً: الصراع العربي الإسرائيلي والنزاع الفلسطيني اليهودي هو تركيبة معقدة تتداخل فيها العوامل السياسية والأحداث التاريخية والدعاوى الدينية بما يجعله نزاعاً ينفرد بأبعاد تختلف عن نزاعات أخرى في عالمنا المعاصر، إذ تقف معظم النزاعات المعاصرة عند حدود الجغرافيا والتاريخ.
لكن الوجود الصهيوني في الأراضي الفلسطينية هو خروج عن القاعدة وحشد لمجموعة من العوامل المتداخلة في ذلك الصراع الذي يمتد عمره لأكثر من ثلاثة أرباع قرن، وهو صراع يحتوي على كثير من الأبعاد التي تجعله صراعاً ثقافياً اجتماعياً قانونياً، فضلاً عن الجوانب السياسية والدينية التي أشرنا إليها.
وضع القدس على سبيل المثال يمثل تداخلاً شديداً بين الدين والسياسة، وبين الماضي والحاضر، وبذلك يكون من الطبيعي أن تتشابك فيه مجموعة عوامل من اتجاهات مختلفة، لذلك تعددت أشكال المواجهة وألوان المقاومة ويكفي أن نتذكر هنا أن “حماس” هي حركة المقاومة الإسلامية في فلسطين، التي تقف إلى جانبها حركات أخرى للمقاومة تلتقي معها في الهدف والأسلوب، ولكنها تختلف عنها في الخلفية الفكرية والأساس النظري.
ثانياً: لقد مرت القضية الفلسطينية بأحداث دولية كبرى وتطورات إقليمية مهمة، بحيث اكتسب الصراع مدلولاً أوسع بدخول البعد العروبي في المواجهة منذ حرب فلسطين الأولى عام 1948، والتوجه الدولي والعربي الموجه بعد ذلك، فلم تعد القضية مجرد خلاف داخل فلسطين بين العرب واليهود، لكنها أضحت صراعاً شاملاً بين جانبين يرفع كل منهما أسبابه التاريخية في مواجهة الآخر.
إسرائيل تحولت من عصابات صهيونية إلى كيان سياسي معترف به ويملك غطاءً قانونياً في ظل حماية دولية تغفر لها كل خروقات القانون الدولي ضاربة بالشرعية التي تتمثل في قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة بذلك الصدام المزمن الذي لا يقف عند حدود معينة، ولقد توالت المواجهات العسكرية بين العرب وإسرائيل وأخذت شكل الحرب الشاملة بين الجيوش النظامية في أعوام 1948 و1956 و1967، إلى أن كانت الحرب الظافرة عام 1973 التي لم يهزم فيها العرب لأول مرة والتي بدأت في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973.
لعلي أضيف إليها في ثقة أن المواجهة في السابع من أكتوبر 2023، بين حركة “حماس” والجيش الإسرائيلي هي علامة فارقة أخرى على بسالة المواجهة الفلسطينية على رغم قوة النيران الإسرائيلية، التي فاقت التصور وعبرت بشدة عن غياب الحل السياسي، الذي يمكن أن يعطي الشعب الفلسطيني الأمل الغائب في مستقبل مجهول وفي ظل دعم غربي شديد يبدو منحازاً بقوة للطرف الإسرائيلي مكتفياً بعبارات صماء من التعاطف الإنساني الذي لا يجدي في اقتحام جوهر القضية.
ثالثاً: العلاقات الإسرائيلية- الأميركية ذات خصوصية متزايدة، وهي تعطي الدولة العبرية دعماً مطلقاً على الصعيدين السياسي والاقتصادي حتى أن أمين عام الأمم المتحدة وهو أكبر موظف دولي، عندما أبدى تفهماً للأوضاع اللا إنسانية بين إسرائيل والفلسطينيين قامت الدنيا ولم تقعد، وهاجمت إسرائيل الأمين العام وهو دبلوماسي برتغالي صاحب تاريخ سياسي عريق، وبذلك مارست إسرائيل نوعاً من القمع الفكري الذي يسكت كل أصوات المحتجين وأصحاب الضمائر اليقظة في أنحاء العالم حتى وصلنا إلى المشهد المأسوي لمحرقة كبرى في غزة وغلافها، بل في حرب مفتوحة في أنحاء الأراضي الفلسطينية كافة.
رابعاً: لقد مرت الحركة الصهيونية بتاريخها الذي يمتد قرنين من الزمان بمحاولات مختلفة لإيجاد مفاتيح للشرق الأوسط تسمح لليهود بتحقيق حلمهم التاريخي في وطن قومي، مستغلين في ذلك تواصلهم مع البلاط العثماني ثم دولة محمد علي المصرية، بل وديوان نابليون وسلطته الفرنسية حتى استحال عليها الأمر فكان التركيز على أرض فلسطين مسرحاً للأحداث ونواة لدولة إسرائيل الكبرى التي يريدونها ممتدة من الفرات إلى النيل.
لقد استغلت إسرائيل كل ركائز التراث اليهودي والأدب العبراني واستخدمت جاليتها على امتداد العالم كله لتحقيق الحلم الذي راود الآباء المؤسسين للحركة الصهيونية، ولا شك أنها لا تخلو نسبياً وتأثرت كثيراً بالسياسات العنصرية والتوجهات التوسعية التي لم تهدأ أبداً على امتداد العقود الأخيرة حتى أصبحت في مقدمة الصراعات المعاصرة.
خامساً: العجيب في الأمر كله وفي مسيرة دولة إسرائيل أنها في الوقت الذي بدأ فيه القبول العام لدولة إسرائيل من جانب جيرانها العرب ونجاحها في تحقيق التطبيع مع عدد من الدول العربية، التي بدأت تتصرف بواقعية على اعتبار أن ذلك سيدفع إسرائيل إلى التسليم بحقوق الشعب الفلسطيني ودولته المستقلة على أرضه، إلا أن الأمر جاء عكسياً.
في الوقت الذي فتحت فيه الأبواب أمام إسرائيل في عدد من دول الخليج والمشرق العربي والشمال الأفريقي، اكتشفنا أن المردود كان عكسياً وأن إسرائيل لا ترعوي، بل هي ماضية في طريقها مهما كانت التغييرات حولها والقبول الضمني لوجودها في المنطقة.
ركزت الحكومة الإسرائيلية على النظام الإيراني في تأكيد المخاوف المصطنعة والتنصل من كل التزامات السلام في المنطقة، فضربت باتفاق أوسلو عرض الحائط وخرجت تماماً عن النص ومارست سياسات أحادية الجانب تقوم على قتل الفلسطينيين من دون أن تمارس نمطاً سياسياً مقبولاً يشجع على السلام ويفتح أبواب الأمل أمام الجميع.
سادساً: لا شك أن دول الجوار العربية مع إسرائيل وهي الأردن وسوريا ولبنان ومصر تدفع ثمناً للحدود المشتركة وضريبة دائمة للصراع المستمر، حتى جاءت أحداث غزة الأخيرة لتلقي على عاتق تلك الدول خصوصاً مصر والأردن أطماعاً إسرائيلية جديدة في تصفية القضية الفلسطينية على حساب أراض عربية جديدة، سواء في الضفة الغربية أو في جنوب غزة أو في سيناء المصرية، فازدادت حدة المواجهة وأصبح القلق من المستقبل والمخاوف مما هو مقبل مشاعر مسيطرة على دول المنطقة، بينما يرفض “حزب الله” اللبناني ما يجري ويقوم حساباته لمعرفة دوره في الاشتباكات الأخيرة وما يمكن أن تؤدي إليه من توسيع لدائرة الحرب وتحويلها إلى مواجهة إقليمية شاملة.
دعونا نتأمل مسيرة الكيان الإسرائيلي في إطار الحركة الصهيونية لكي نفكر في الأجيال الجديدة من الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وتوقعنا للتعايش المشترك في ظل الأحداث الأليمة التي شهدتها المنطقة أخيراً، والتي تدعو إلى معالجة جذرية وشاملة للقضية الفلسطينية في ظل الشرعية الدولية ومواثيق حقوق الإنسان لأن العالم قد تغير، والدنيا قد تطورت.
القهر الذي تعرضت له بعض الشعوب وفي مقدمتهم الشعب الفلسطيني، لا يمكن أن تمضي في الظلمات إلى الأبد ولا بد من ظهور الحقائق إذا كنا نريد التعايش المشترك لشعوب المنطقة في ظل السلم والأمن الدوليين، وهو السبب الأسمى لجميع الجهود الدولية المخلصة من أجل العدالة واحترام الحقوق وإعطاء الشعوب بلا استثناء حق تقرير المصير.