مقدمة
يكتب الصديق راتب شعبو على صفحته الشخصية – بعد صدور كتابه، قصة حزب العمل الشيوعي في سورية – أخيراً صدر كتابي، الكتاب الذي استهلك الكثير من الجهد والوقت، عن التجربة التي لم تأخذ نصيبها من الدراسة ( 7 شباط 2020)، بعد صدور الكتاب مباشرةً.
سوف نجد في مستهل كتابه:
” الكتابة عن تجربة سياسية مهزومة بالقمع، وتوثيق هذه التجربة هي مساهمة في حمايتها من الضياع.. فيما تذهب إلى العدم رواية المغلوبين و نسختهم من التاريخ، من الإنصاف للتاريخ والأجيال القادمة أن يتولى المغلوبون أيضاً (روايتهم).
الانحياز لرواية المغلوبين وصوتهم الغائب، كان ” الدافع لإنجاز هذا الكتاب عن تجربة رابطة العمل الشيوعي – الحزب.
عن تجربة تعرضت بعد أشهر وجيزة من إعلانها لحملة اعتقال شرسة (حملة آذار 1977)، عن فصل خاص من تاريخ القمع والديكتاتورية لنظام لم يستثنِ أحداً من معارضيه.
سوف يقف الكتاب بمقدمته التاريخية، عند هزيمة حزيران 1967- هزيمة الأنظمة الشعبوية الناصري والبعثي، ومشروعهم الانقلابي الثوري – ” بوصفها الصدمة الكبرى، التي خلفت ارتدادات سياسية في سوريا، من بينها نشوء ظاهرة الحلقات الماركسية ”
علينا أن نعترف في البداية، أنه من الصعوبة بمكان التأريخ لتجربة سياسية سرية معارضة – كما حال تجربة الرابطة، الحزب – حيث القمع المعمم كما حال نظامنا السوري، ما يتداعى من أهمية ” الوثيقة المكتوبة “، أقصد هنا غياب محاضر الجلسات خاصة للمؤتمر التأسيسي الأول (أب 1981).
استطاع أن يحصل على الأرشيف الكامل للتجربة (كراسات الخط الاستراتيجي، أعداد الجريدة السياسية ” الراية الحمراء “كاملة، إضافة للبرنامج السياسي الانتقالي والاستراتيجي المقدم للمؤتمر التأسيسي، إضافة لوثائق الاجتماعات الموسعة)، مما جعل الكتاب يحمل الكثير من المصداقية التوثيقية.
اعتمد راتب شعبو بالكثير من ” شهادات ” الأشخاص الفاعلين والكادر القيادي الذين كان لحضورهم دوراً ريادياً في التجربة الرابطة -الحزب، لكن قد يعترض هنا القارئ – وأعتقد أنه محق – أنّ ” الشهادات ” الشخصية لها طابع الإنفعال هنا وهناك، وأحياناً كثيرة تغيب عن الشهادة الصفة الموضوعية، لجهة ” النرجسية ” التي تقل أثرها أو تزداد، على الرغم من هذه الحالة، لن يجد القارئ سردية تعتمد المظلومية، أو أحادية الإحالة، هناك الكثير من الممكنات في الكتاب تعتمد التقصي والمقاربة مع الحفاظ على المسافة.
استوقفتني كلمات الإهداء :
إلى المعنى النضالي لهذه التجربة الجسورة.
اعتدنا أن نرى في كلمات الإهداء الطابع الشخصي، إنما أن يهدى الكتاب الى تجربة كاملة، كما جرت ابتداءاً من لحظة انطلاقة الرابطة بشهر آب 1976، حتى المسار الأخير قبل نعشها المسجى في شتاء 1992، وما شهدته من درب الآلام الذي طال الأعضاء وأصدقائهم، عداك عن عائلاتهم (تراوحت مدد الاعتقال ما بين الخمس سنين كحد أدنى إلى ثمانية عشر سنة للبعض، خاصةً بعد عام 1980، كذلك أيضاً استشهاد العديد ومنهم من قضى تحت التعذيب).
بهذا المعنى يصبح الإهداء واضحاً للقارئ، مع عدم نسيان أنّ راتب شعبو أيضاً من الأشخاص الذين دفعوا الثمن غالياً (ستة عشر عاماً في السجن، وذلك لإنتمائه لحزب العمل الشيوعي).
ثم يردفُ الكاتب : إذا كان كاتب هذه السطور، غير حيادي عاطفياً تجاه تجربة الرابطة – الحزب(1) ، لأنه كان أحد عناصرها، دفع ثمناً باهظاً جراء انتمائه هذا (2) ، فإنه سعى أن يكون حيادياً من ناحية العقل والتحليل.
وأنا ايضاً لن أكون قارئاً للكتاب والتجربة من ” الخارج “، وإنما من ثنايا مفرداتها تلك التي لازمتني قرابة العقد ونيف، بين انتماء، تخفٍ، اعتقال، خروج عن التجربة والنص من داخل السور( السجن).
هل تتشابه حالتنا هذه بين سطورها – خارج الخطاب السياسي المباشر -أن نمضيَ مع ” أوليس ” و رحلته التي استنزفت عقدين من العمر بين الجحيم والأمل، كانت ” إيثاكا ” مدينته طريق العودة ( كافافي الشاعر اليوناني).
يعاودني ” الكتاب ” بالمكان والزمان حيث تلك التجربة، وتمضي بين شظايا العمر، ولمّا تزلْ، كما الحنين ” للبيت الأمومي ” حيث ولدنا، “وبينما نحن في أعماق الاسترخاء القصوى، ننخرط في ذلك الدفء الأصلي، في تلك المادة لفردوسنا الأرضي (3)
تأصيل الأصول واستلهام ” السلف الصالح ”
حيث ينوه الكاتب من بداية التعريف بالتجربة الرابطة-الحزب، أنها جمعت بين ميلين:
1-الميل الى تأصيل الفهم الماركسي للواقع والعودة الى ” الأصول “ماركس – لينين”، كراسات الخط الاستراتيجي(4)
2-الميل إلى الفعل وفرض الذات.. وهذا الميل جعل الرابطة هدفاً لحملات قمع متواصلة، واجهتها التجربة بفروسية وبروح متحدية، كانت أكبر من قدرة الجسد على التحمل . ص2
ربما سأضيف هنا، هذا التأصيل بات كما هو سائداً بالمرجعيات الإيمانية “الدينية بخاصةٍ “، أشبه بحالة استلهام ” للسلف الصالح “، وكان سمة عامة من سمات ” اليسار الجديد ” الذي تمرد على اليسار التقليدي، الحركة الشيوعية الرسمية بمفرداتها المتعددة سواء تلك التي بقيت على أطلال ” الكهنة وحراس بيت المقدس ” سوفييت الزمان وانوار العصر، أو التي نحت منحى مستقل كما ظاهرة “الشيوعية الاوربية” وبعض تداعياتها في المنطقة العربية، لم يكن أمام هذا اليسار إلا الايغال أكثر في النص، بنشوة انتصاراته الأولى( النموذج البلشفي اللينيني ).
أهمية السجن كمكان للتأمل والمراجعة
يتطرق الكاتب إلى مسألة في غاية الأهمية، إنها السجن ( خاصة أنّ هذه التجربة لم تسترحْ إلا قليلا خارج الجدران )، حيث يقول :
“ليس مفاجئاً أنّ الخلافات الداخلية بين رفاق الحزب الواحد، وجدتْ بنيتها المناسبة للظهور في السجون، رغم قسوتها أعطت للمعتقلين فرصة للتأمل والمراجعة.. لكن لابد من الاضافة انّ السجن ليس مكاناً طبيعياً لتبلور الخيارات السياسية الحرة، ثم يضيف لظروف السجن دوراً قسرياً في تحديد الموقف والرأي السياسي للأشخاص ..” ؟!
كفكرة عامة وعمومية لا خلاف عليها، خاصةً أنه سيكون من السهل رشق صاحب النقد بالحجارة تحت العنوان المألوف (الرخاوة النضالية مع مرافعة لماذا الآن ؟!).
أعتقد أنه في ظروف العمل السري وفي مناخ الاعتقال المديد الذي قد يبدأ بحد أدنى خمس سنوات، ولا ينتهي بخمسة عشر أو ثمانية عشر سنة سجن، في ظل هكذا معطيات وقراءة معمقة للخطأ والصواب، يصبح السجن المكان الأكثر نضجاً لمجمل الآراء بما فيها تناول قدسية ” الأصول “، هو المكان الذي يتيح لك ممكنات التفكير إن أردت وعملتَ على ذلك، خاصة بتوفر الكتاب خارج ” البرنامج التثقيفي الحزبي “.

وضمن التسلسل الزمني لتاريخ الظاهرة (الرابطة – الحزب)، تنطلق المحطات تباعاً

الحلقات الماركسية
” نشأت الحلقات الماركسية تحت ضغط الهم الوطني، أكثر مما تحت ضغط الهم الاجتماعي..خاصةً ما بعد هزيمة المشروع الحاكم “التقدمي “، هزيمة حزيران 1967..”ص13
يغيب عن الكاتب عدم تساؤله عن الهم الديمقراطي؟؟
على الرغم من أنّه سيرد لاحقاً اقتباس عن لا ديمقراطية تلك الانظمة :
(أنظمة البرجوازية الصغيرة بمفردات الحلقات آنذاك)، ” كانت الهزيمة بسبب جبن البرجوازية الصغيرة ولا ديمقراطيتها (5) ”
لربما الكاتب محق هنا عن تغييب الهم الديمقراطي بالمعنى الذي يُطرح آنذاك “الديمقراطيات الشعبية ” أو الديمقراطيات الثورية، حيث الاعتقاد كما هو السلف ” الماركسي اللينيني “، وحدها البروليتاريا واحزابها تاريخياً مؤهلة لهذه الديمقراطية.
” ..وإذا كان الواقع المهزوم ذا لون قومي.. فسوف يتخذ رفض هذا الواقع منحى إسلامياً، ومنحى ماركسياً إلى اليسار، ذلك أنّ الخانة الماركسية..كانت البيئة الوحيدة المناسبة لمن ضاقت بهم تلاوين الفكر القومي المهزوم..” ص14
ضمن هذا المسار باتت الحلقات الماركسية، ظاهرة موضوعية بمعنى أنها استجابة لضرورة تاريخية، هكذا حاولت التعبير عن نفسها، يعني بداهة من المألوف الماركسي – اللينيني أنّ هناك تصدع وغياب للحزب الثوري، وماتمثله الحركة الشيوعية المحلية بفرعيها /بكداش، رياض الترك/، ليس إلا تناوب بين الانتهازية اليمينية (بكداش) والإصلاحية (المكتب السياسي رياض الترك).
هل يمكن القول في البدء كان حلم الرهان على ” مدينة فاضلة “، قوامها الحراس الذين عبروا المأثور التقليدي اليساري، حراس ينبغي أن يتحلوا بثقافة ما تجعلهم لا يجترون مما ألفته الأحزاب السائدة آنذاك.
“..بين الأسباب التي ساعدت في نشوء ظاهرة الحلقات، انتشار الفكر الماركسي في سورية، بسبب الانفتاح الذي أبدته السلطات البعثية (حكومة 23 شباط)، على الفكر اليساري العالمي..”
لا ينسى الكاتب هنا ذكر الحلقات واماكن تواجدها، ثم الاعضاء المشاركين، والانتقال من الحالة المناطقية إلى الحالة المركزية، مع التوضيح لسلسلة ما كان يسمى بعرف الحلقات بالاجتماع الموسع /1974، 1975، 1976/.
رابطة العمل الشيوعي
وبدأ خريف 1976 بعد صيف دمويٍ ملتهبٍ (انطلاقة الرابطة، مغادرة الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي جبهة النظام ومجلس ” شعبه “،إعادة لملمة تنظيم 23 شباط بعد اعتقالات آذار من العام نفسه، هذا على سوريا، أما الوضع الفلسطيني وتداعياته، فقد بدأ يتسارع بالتشظي، خاصةً بعد حطام تل الزعتر، تزامناً مع الوضع القلق للحركة الوطنية اللبنانية وحليفتها الفلسطينية.
كان الصدى يغور أعماق الذات الجمعية، أنه النزيف الفلسطيني، استبطاناً للنزوح النرجسي للذات النضالية العربية، كما الأنا عند المحلل النفسي الفرنسي ( جاك لاكان)، في سعيها الدائب لتشكيل أنا مثالية.
تظهر الرابطة مع شهر آب بجريدة سياسية (الراية الحمراء) الناطق السياسي للمنظمة الوليدة. سوف تغدو علامة فارقة في اليوميات السياسية المتعارف عليها، على صعيد المواجهة مع السلطة السياسية، أو العلاقة بشتى الطيف السياسي الموالي والمعارض.
في العلاقات التنظيمية الداخلية / الهامش الديمقراطي النسبي /
من الأهمية بمكان وتأكيداً مع ” الكتاب “، قدمت الرابطة مثالاً فريداً في الساحة السورية، من حيث العلاقات التنظيمية والنظام الداخلي، الذي تميز بالقيادة الجماعية فعلاً لا قولاً، ثم وهذا الاهم مجلة (البروليتاري) التي كانت منبراً داخلياً، شكلت حالة ما من الندوة البرلمانية الديمقراطية، تعكس الآراء السياسية المعارضة التي لها تحفظات هنا أو هناك (مثلاً بين عامي 1980-1981 المرحلة التي شهدت تقرير آب – سوف يتم التطرق إليه بالفقرة التالية – وايضاً مشروعات المؤتمر التأسيسي الأول المزمع عقده شهر آب 1981، استطاعت المجلة هنا أن تشكل المنبر الحر الحقيقي لكلا وجهتي النظر).
حاولت هذه التجربة الرابطة – الحزب تأسيس عاداتها بالتمايز عن كل المأثور السياسي عالمياً ومحلياً، غياب ماسمي موقع الأمين العام (مشروع الزعيم الطاغية الذي يَسألْ ولا يُسألْ)، لا شك أنّ هذا النمط الجديد لاقى صعوبات لجهة تحقيقه بالشكل الأمثل، حيث حملات الاعتقال المتتالية بما تعنيه من استنزاف للكادر الرئيس، فكان من الطبيعي أن ينبري للقيادة الأكثر حضوراً وأوفر حظاً
بعيداً عن قبضة الأمن .
رفع ثم تجميد شعار إسقاط السلطة
يستطرد الكاتب بروح نقدية صحيحة، “مدى التهافت النظري والسذاجة المفهومية العامة، لما كان يطرح من شعار إسقاط السلطة، قبل تقرير آب 1980 (6) عدم التمييز بالطرح بين الشعار التكتيكي القابل للتنفيذ الفوري وفق موازين قوى تفرض نفسها على الأرض، وبين أن يكون شعاراً للتعبئة الإستراتيجية (مهمة دعاوية برنامجية تعبر عن الثورة الاجتماعية المنشودة)، وأحياناً أخرى التداخل بشعار إسقاط الدكتاتورية البعثية، وشعار إسقاط سلطة الطبقة السائدة لبناء جبهة شعبية متحدة (7) ”
هذا الرجحان هنا وهناك، سوف يتوقف مع تقرير آب، وهنا سوف نجد الاستفاضة بالمسوغات والظروف التي دفعت الى شعار إسقاط السلطة .
تقرير آب
” التقرير عبارة عن 24 صفحة، تقدمت به لجنة العمل (بمثابة المكتب السياسي عند التنظيمات الاخرى )، أقرته الهيئة المركزية ( اللجنة المركزية ) بالأغلبية، وهو التقرير الوحيد الذي جرى توقيعه بأغلبية الهيئة المركزية، للدلالة على وجود رأي مغاير ضمن الهيئة نفسها، قبل أن ينشر ويعمم ..” ص88
استفاض التقرير بالعوامل والظروف الموضوعية التي دفعته إلى رفع شعار إسقاط السلطة :
” إننا لم نأخذ في حينه، إمكانات الرجعية المحلية التقليدية، إمكانات تصعيد طرق ووسائل حلها لصراعها مع النظام، وكانت الحركة الوطنية السورية أقل تمزقاً وتشرذماً، الأمر الذي كان يسمح لنا بالأمل والعمل لأن نكون قطباً ثالثاً ؟؟!..فلا نرى الآن أنه يجب علينا أن نساهم في إسقاط هذه السلطة لحساب البرجوازية التقليدية..”
وسوف تتلخص الكلمات بجملة واحدة : ” الجذر الثوري والمد الرجعي في كامل المنطقة العربية.. تم تجميد الشعار، استعيض عنه :
دحر الحلف الرجعي الأسود، شعار آخر يقابله دحر الدكتاتورية والظفر بالحريات السياسية (8) ”
حاول ” الكاتب ” تقديم بعض الإنتقادات وهي محقة، أنّ هذا التقرير بما معناه لم يجلب إلا سوء الفهم والاعتبار، خاصةً وان المتهم الرئيسي للآن ( التقرير والمنظمة بشكل عام )، أنه بداية الرقص حنجلة، بمعنى وإشارة واضحة أن الرابطة بدأت خطواتها الاولى كي تقترب من ” جوقة ” النظام وجبهته.
لم تقتصر الاتهامات والانتقادات من أطراف صديقة ( التجمع الشيوعي الثوري في لبنان )، إنما أيضا من داخل التنظيم ( منظمتي دير الزور والسلمية )، حيث هددت بمغادرة التنظيم وحصل مع بعض الحالات (9)
وكان موقف التجمع الوطني الديمقراطي -الذي بدأ بالحضور خاصةً بعد بيانه اليتيم في آذار 1980- أكثر تحريضاً وعدواةً بين صفوفه والآخرين، علماً أنّ ذلك الموقف أخذ طابع ” الشوشرة والأزقة الضيقة “، أقصد كما هي العادة ، غياب أي كلام أو موقف مكتوب وذا أهمية.
في طيات التقرير ومابين تقديم الحجج، لجأ الى التراث البلشفي (عود على بدء) كي يقنع ” الرفاق ” قبل الآخرين حول أهمية المقاربة التاريخية بين الأسوأ (السلطة الأسدية) والأشد سوءاً أو الأكثر خطراً على المجتمع والوطن (الحلف الرجعي الأسود)،
/ ثورة شباط الروسية 1917( أطاحت بالقيصر، حكومة كيرنسكي ممثلاً عن الديمقراطيين الثوريين )، تعرضت لمحاولة انقلابية من الجنرال كورنيلوف في شهر آب من العام نفسه (عودة للقيصرية)، حينها وقف لينين وقال كلمته الشهيرة :
إننا سنقف مع كيرنسكي ضد الجنرال كورنيلوف
هنا باتَ واضحاً عما يحاول التقرير ” استلهامه “، (حافظ الأسد كمثل كيرنسكي، عصام العطار – كان حينها الرمز الفصيح لحركة الإخوان المسلمين – مثله كمثل الجنرال كورنيلوف، لذلك من الطبيعي أننا سنقف (الرابطة) مع الرئيس ممثلا عن البرجوازية البيروقراطية اللا وطنية والديكتاتورية، التي تقف حجرة عثر أمام المشروع التسووي الإمبريالي الرجعي (الحلف الرجعي الأسود وضمناً عصام العطار)، بما يعني ذلك إعادة السلطة للبرجوازية التقليدية وهكذا دواليك، حيث الصعود المحتمل للفاشية الدينية.
تجري الرياح بما لا تشتهي ” الرؤى والتراث “:
على الأرض لم يحصل ” كورنيلوف “سوري (العطار)، لذلك شهدت تلك المرحلة حالة من الفصام بين التقرير والخطاب السياسي للرابطة بالعموم (الراية الحمراء، مجلة الشيوعي، وأخيراً البيانات السياسية)، سنرى اللغة السياسية نفسها – كما قبل التقرير – ركز على الطبيعة اللا وطنية والدكتاتورية للسلطة مع عدم النسيان أنّ هناك سمات طائفية، يعني ذلك بداهة الاستمرار بفتح المواجهة والتصعيد مع السلطة (النظام الأسدي)، يعني ذلك أيضاً استمرار حملات الاعتقال .
إن حاولنا الآن قراءة تلك المرحلة وضمن سياقها وبعدة معرفية يفترض أن تختلف، سنجد أنّ التقرير وتداعياته غرقَ في النص – على العكس مما تعاود القول الرابطة، التحليل الملموس للواقع الملموس أمانة منها للنظرية الماركسية اللينينية ، أي حاول الركون لحالة طبقوية متخيلة تفترض وجود شريحتين تنتميان للطبقة البرجوازية الكبيرة ( البيروقراطية، التقليدية ) :
1- برجوازية البيروقراطية تشكلت تاريخياً مع صعود البرجوازية الصغيرة للسلطة ( انقلاب آذار 1963 )، من خلال القطاع العام الذي تحول إلى قطاع دولة كبقرة حلوب لهذه الشريحة.
2- وأخرى تقليدية هُزمتْ تاريخياً، بعد الإنفتاح الاقتصادي وتدفق أموال النفط بعد حرب تشرين 1973، بدأت البرجوازية التقليدية تستعيد بعض مواقعها، ممثلة بكبر التجار وبعض الكومبرادور ( أصحاب الوكالات الأجنبية )، عند لحظة الاصطدام العنفي لحركة الإخوان المسلمين والنظام، بين عامي 1979-1982، حاولت ركوب الموجة -وفق ما يرى التقرير -بمعنى حلم العودة لاستلام السلطة السياسية ( ترتيب البيت الداخلي )، لكن ليس بتمثيل سياسي مباشر، إنما بالوساطة عبر التحالف مع الإخوان المسلمين وامتداداتها الرجعية العربية ( الحلف الرجعي الأسود )؟؟
/ هنا التشريح ” القولبة الذهنية “أو ( سرير بروكست ) كمسطرة قياس انطلقتْ من صورة ذهنية مجردة، تحاول الاستنباط من المأثور الماركسي ( وفق صيرورة الصراع الطبقي )، وعلى قاعدة ” فقهية قياس الغائب على الشاهد”.

العلاقة – الحوار المستعصي – بين الحزب الشيوعي السوري / المكتب السياسي / والرابطة – حزب العمل الشيوعي.
” العلاقة المريضة ” بتعبير المؤلف
يروي الكاتب بعض الشهادات على لسان فاتح جاموس، العضو القيادي في الرابطة – الحزب، أن الرابطة سعت بعد تشكلها الى اقامة حوار مباشر مع قيادة الحزب الحزب الشيوعي السوري /المكتب السياسي /، لكن عبثاً دون جدوى، وكان الامتناع والصد دائما يأتي من قيادة الحزب (المقصود هنا رياض الترك شخصيا)، وحسب الشهادة المعنية : ” ناقشنا جدياً داخل قيادة الرابطة فكرة الانضمام للحزب / المكتب السياسي/، ولم يكن ذلك بدافع الخوف من التوقف عن النشاط السياسي، وإنما يرتكز على رؤى سياسية محددة ..تجلى ذلك بقبولنا بشروط الحد الأدنى (الاكتفاء باستلام نشرة داخلية، من خلالها نستطيع الحوار حول قضايا الخلاف (10) ).

لا بد هنا من كلمة سواء تحاول تفسير مما كان وليس مما يجب أن يكون، أي على الباحث والقارئ محاولة المقاربة التي تعتمد قراءة الطرفين ومنظومة التأسيس والتفكير التي تنبني عليها المواقف، أو ثقافة الحوار؟
من المفيد هنا التذكير بمنظومة اليقين و ” الفرقة الناجية “، إحدى أركان ” الإيمان ” اللامفكر بها عند معظم أصحاب الرسالات الارضية، هنا ” النموذج اللينيني البلشفي “، وعلى الرغم من أنّ الجناح الآخر / المكتب السياسي ” يزعم خروجه على النص الأصلي بدلالة انشقاقه عن المركز /السوفييت ومندوبها الدائم خالد بكداش /، ومحاولة اقترابه من النسخة الشيوعية الاوربية مع تعريبها عند بعض المفكرين الماركسيين العرب( الياس مرقص، ياسين الحافظ)، إلا أنه يعتبر نفسه الوريث الشرعي والثوري لحزب تأسس عام 1924، يعني بداهة على الآخرين حلقات أو مجموعات أن تنتسب إليه دون شورط وبشكل إفرادي.
لسان حاله يقول : من هم هؤلاء الذين يحاولون إعطاء الدروس ؟
أما الحلقات الماركسية ومحطاتها خاصة بعد تحولها الى حزب سياسي ( حزب العمل الشيوعي )، إحدى أهم مبررات وجودها غياب هذا الحزب المعني، ومن اللحظات الاولى- رغم الرهان عليه- كانت تعتبره حزباً إصلاحياً ينحو منحاً شعبوياً خاصة بعد بعد مؤتمره الخامس ( كانون الأول 1978)، ثم يبتعد شيئاً فشيئاُ عن المفهومية الماركسية- اللينينية، بأدوات تحليلها المحددة والدقيقة..
الحلقات/ الرابطة/ الحزب، أتت من أرضية مختلفة، في سياق تكونها كانت تحمل في ممكنات وجودها، طرح الأسئلة، مستلهمة بذلك المأثور الماركسي-اللينيني بما يعني ذلك الماركسيات المتعددة (جورج لوكاتش، غرامشي، مدرسة فرانكفورت، وليس انتهاءاً ببعض البنيويين الماركسيين/ نيكوس بولانتزاس، التوسير)، مع المغضوب عليهم والضالين / تروتسكي وأمميته الرابعة /..
سيتراجع منسوب القراءة مع الانخراط أكثر في المواجهة السياسية، مع آليات الإعتقال لصالح الروح الكفاحية، الشرط اللازم للعمل السري.
ولكن القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقال، كانت مع الموقف الضبابي للصراع الجاري بين النظام الأسدي وحركة الإخوان المسلمين، خاصة بعد مجزرة المدفعية التي كانت بمثابة ساعة الصفر للجناح الأكثر تشدداً ( الطليعة المقاتلة ) في حزيران 1979.
المكتب السياسي أعلن موقفه عبر رسالة داخلية خاصة بالأعضاء :
أنّ من قام بالعمل ضابط بعثي ( ابراهيم يوسف ) وهو ضابط أمن الكتبية المدفعية حيث وقعت المجزرة.
اعتبرت الرابطة هذا الموقف تمييع للحدث وعدم تسمية المجرم الحقيقي ” الطليعة المقاتلة “، لغايةٍ في نفس يعقوب؟!
ذلك يعني مع الصيف الدامي (1979) وما تلاه خاصة بعد تقرير آب من قبل الرابطة، أنه من الاستحالة بمكان حتى التفكير في الحوار، بات الطلاق بينهما ( الربطة- المكتب )طلاقاً بائناً.
وسيزداد توتراً بعد وثيقة التجمع الوطني- الديمقراطي، حيث المكتب السياسي يكاد يكون الفاعل الرئيسي في الصياغة الأخيرة ( الكتاب هنا قام بالتوضيح والتفاصيل ص 111 ).

اليقين عند الرابطة و ” الفرقة الناجية ”
يمكننا القول وتعقيباً على الخلاف المستعصي بين المكتب السياسي والرابطة -الحزب، أو بلغة الكاتب ” العلاقة المريضة “، أنها خرجت عن ” الاخوة في المنهج ” لصالح الإقصاء المتبادل.
لربما يقال هنا، كان على قيادة المكتب أن تغادر ” المدرسة البكداشية ” في تناول أي جديد أو اجتهاد خارج السرب، خاصة وانها تعرضت للكثير من الاتهامات عند اول مبادرة بالتفكير خارج ” الصندوق ” وذلك بين عامي 1969-1972 .
بل على العكس من ذلك استمرت قيادة المكتب في رشق الاتهامات هنا وهناك دون الحجة والدليل، واحياناً كثيرة إنكار دائم حتى لوجود الظاهرة (الحنين للتفكير الاستبدادي – البيروقراطي يعتمد الفرمانات من الأمين العام).
لا يعني ذلك عدم ذكر سمات المدرسة الجديدة (الحلقات، الرابطة، الحزب)، بما هي ممارسة سياسية سجالية بإمتياز (لينينية الطابع)، تنطلق من أنها الوحيدة صاحبة الحق والحقيقة، بعد إيقاني قد يستمد جذوره من لا شعور ديني -سياسي ” الفرقة الناجية “، وكأنه الوحيد القابض على الجمر، ممارسة ذات طابع بالعموم “الاستاذ الملقن “إعطاء الدروس والنصائح وفق : ينبغي ويجب أن يكون .
المؤتمر التأسيسي الأول للرابطة وولادة حزب العمل الشيوعي (11)
أعتقد أنه المؤتمر الوحيد للرابطة – الحزب، قبله كانت هناك اجتماعات موسعة (ذكرت سابقا)، وكان من المفترض أن يعقد مؤتمر آخر بعد أربع سنين – النظام الداخلي الجديد -لكن كما هو بات معروفاً أن التنظيم تعرض لحملات عتقالات متتالية، خاصة عام 1987، وكانت شبه الضربة القاضية، ذلك مما يفيد أنّ هذا المؤتمر هو الوحيد.
استفاض الكاتب بما سمي داخل أروقة المؤتمر وجلساته، بالتيارات السياسية التي تشكلت أثناء نقاش الموضوعات، ثم الاصطفافات التي توزعت، حيث يريد الكاتب القول وبناءاًعلى شهادة من كامل عباس (أحد أعضاء المؤتمر، عضو لجنة مركزية) :
” كان يمكن تمييز ثلاثة تيارات في المؤتمر :
الأول : تيار تروتسكي متماسك وموحد قدّم نقداً لأطروحات الحزب من منظور الأممية الرابعة ( 15 عضو رفضوا الترشح والانتخاب بنهاية المؤتمر).
الثاني : تيار عقلاني إذا صحت التسمية مفكك وضعيف، يزيد أو ينقص تبعاً لهذه النقطة أو تلك، ينسجم مع تقرير آب، يضبط إيقاعه السياسي على إيقاع الحركة الشيوعية العالمية.
الثالث : تيار اليسار الجديد/ الأصولية اللينينية، والاسقاطات الميكانيكية التاريخية ، قدم برنامجاً سياسياً ( انتقالي واستراتيجي ) مفعماً بالجمل الثورية.
سوف أختلف مع هذه الرواية، خاصةً تسميته وتوصيفه للتيار الثاني والثالث، فيها الكثير من الالتباس، واقع الحال يقول ومن داخل المؤتمر، أنّ الصيغة العامة هي صيغة تميل للنصوص، وحين الخلاف أو الاختلاف كان دائماً الاحتكام للنص بمفرداته ” السلف الصالح “، وقلة قليلة من استطاعت العبور من النص الى العيان.
أما وأنّ هذه التقسيمات واضحة وجلية، هذا ما يحتاج للكثير من التدقيق.
نعم كان هناك بعض ” العقلانيين “، لكن صوتهم كان يذهب أدراج الإجماع الآخر، حيث ترى التكاتف والتضامن حتى بين ماسيعرف بالأقلية، وبقية الأعضاء ( قدم مشروع تغيير الأسم من رابطة إلى حزب – علماً أنه كان مشروعاً شخصياً من قبل فاتح جاموس ” مروان المؤتمر “، اعترض عليه فقط بضعة أعضاء ولم يكن الاصطفاف سياسي أو ” تياراتي ” بين الأقلية والأكثرية )،
كذلك ينطبق هذا الوضع على المشروع الآخر – أيضاً مشروع شخصي -حول إمكانية قيام بعض العمليات ذات الطابع المسلح في الجولان المحتل، أو في الجنوب اللبناني حيث كان محتلاً أيضاً، تحت ذريعة أنها أعمال وطنية تحررية، ولا خشية من النظام من أن يوصفها تحت خانة ” الإرهاب “.
تلك الأصوات العقلانية المتناثرة، هي من سيعترض على هذا المشروع الانتحاري (لم يطوَ المشروع، إنما أخذ صيغة التوصية، على أن يتم ذلك فقط في الجنوب اللبناني).
عند العودة للتيارات، نعم كان التيار الأول الذي عُرف لاحقاً بالأقلية، والذي سمي بالتيار التروتسكي ( الكاتب يسميه التيار اليساري) -وهو محق بالتسمية – كان الأكثر تماسكاً لربما لخصوصية تشكله، أو أنه بات ينتمي لآليات دفاعية، مثله كمثل أي شعور أقلوي، يحتمي بهذا ” التشكيل الجديد “.
كانت الكلمة المفتاح لدى الأكثر فاعلية ضمن التيار (منيف ملحم)، أنّ الموقف والتحليل السياسي للرابطة – بعد تقرير آب – بات في حالة غزل وتملق من السوفييت من غير مبرر (إنها عودة الابن الضال كي ينال الثقة والاعتراف من الأب).
اجتمعت معظم نقاط التيار اليساري (الأقلية) على نقد المشروع الانتقالي والذي كان بمثابة مرحلة وسيطية (حكومة مؤقتة ذات توازن قلق)، تمهيداً للبرنامج الاستراتيجي (الثورة الاشتراكية)، إنهم يصرون على طرح الصيغة الاستراتيجية بما هي ثورة اشتراكية عبر جبهة شعبية متحدة؛ يعاودون هنا ما قامت به الرابطة في شهر نيسان 1978، وعلى غفلة من الجميع – تغيير مفهوم طبيعة الثورة القادمة بسورية، حيث الاجماع اليساري أنها ثورة وطنية ديمقراطية، الى ثورة اشتراكية.
سوف يزعم هذا التيار (اليساري، التروتسكي بأعضائه 15)، أنه الوحيد الذي يمثل الخط الثوري؛ ” الأغلبية ” تتراوح بين الاصلاحية والرقص على حبال المدرسة الستالينية.
سوف يصنفون الأغلبية (أعضائها 40 ضمن المؤتمر) إلى تيارين :
– تيار وسطي : يشكل الاكثرية ضمن الأغلبية، كان بمثابة بيضة القبان بين الانجرار يساراً أو يميناً، ( أصلان عبد الكريم ممثلاً للتيار ).
– تيار يميني : يريد جر الرابطة إلى مواقف أكثر يمينية، تناغماً مع المشروع السوفييتي بالمنطقة، ولم تكن هناك إشارات أنّهم سوف يذهبون إلى تجاوز الخطوط الحمراء ( الحوار أو التحالف مع النظام )، يسمون فاتح جاموس الركن الرئيس هنا .

بعض النهفات، استراحة مع الكاتب في الصفحة 116:
عن انسحاب التيار (اليساري-التروتسكي)، من الترشح والانتخاب للجنة المركزية، يقول :
أنّ أصلان عبد الكريم -أحد وأهم الفاعلين قبل المؤتمر وأثنائه وبعده – عبر عن حزنه بالقول أنّ المركزية الجديدة المنتخبة ، قد خسرت بعدم مشاركة الأقلية، أو على الأقل ” رفيقين منها “.
من خلال مشاهدتي الشخصية أقول – نعم حصل ذلك – بينما كنا نحضر أنفسنا كأعضاء جدد للجنة المركزية، بعد أن غادر الجميع، لحضور اجتماع؛ انتخاب المكتب السياسي، بعض اللجان الاخرى، توجه إلي بالقول ( أصلان ) وكان حزينا جداً، بصوت متهدج وكأننا في قاعة ” المدرسة ” :
هذه مركزية يا ” وليم ” اسمي الحركي، ليست لجنة منطقية ( يقصد هنا أنني لازمت اللجنة المنطقية لمنظمة دمشق على مدى ثلاث سنوات )، هززتُ رأسي بابتسامةٍ ساخرةٍ : ” الله بيعين “؟!

في سياق فقرة الاختبار الأول بعد المؤتمر التأسيسي (12)
سوف أقف هنا عما حصل بذاك الاستفتاء الشهير، الصادر عن المركزية إلى الحزب / الاستفتاء حصل كحالة طارئة إثر اجتماع للمركزية، نتيجة انكشاف المؤتمر عند الجهات الأمنية، حيث بعض الاعتقالات حصلت، ثم إرسال الأمن رسالة أمنية – سياسية مع ( نزيه نحاس ) عضو المكتب السياسي آنذاك، فحواها عليكم إما الحوار أو الاعتقال /،.
يورد الكاتب هنا : ” تجنب المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب اتخاذ قرار بهذا الشأن، وفضلا العودة إلى القاعدة الحزبية، عبر صيغة استفتاء داخلي، بين مناورتين تنظيمية وأخرى سياسية “.
واقع الحال أنّ اللجنة المركزية اجتمعت بمن حضر، وكان العدد (12 ) من أصل ( 15 )، ولم يكن بالامكان إيجاد بيت لهذا الاجتماع الطارئ، لذلك كان الاختيار نوع من ” السيران ” بالتعبير الدمشقي، في عين الخضرة أو الفيجة.
جرى نقاش مطول وكيف السبيل للخروج من هذا ” المأزق “، حيث طرحت صيغة المناورة بشقيها التنظيمي – السياسي، بعد طول انتظار تم التصويت، كانت الأصوات متعادلة / 6 مقابل 6 )، مما اضطر الحضور لقبول اقتراح الاستفتاء على قواعد الحزب / أن تتم الرسالة بكل شفافية، انها فقط ” مناورة ” وكلا الفريقين متفقين أنه لا حوار مع النظام، منعاً لسوء التعبير، مع عدم التجاهل أن الوضع التنظيمي لا يتحمل الآن أية حملة اعتقال عامة وواسعة /.
وكانت النتيجة العامة للقاعدة الحزبية، علينا فقط القيام بمناورة تنظيمية دون تداعيات سياسية.
تعقيباً لما بعد هذا الشواش:
عاد الحزب لسابق عهده بشدة النشاط التحريضي، ” غزارة في إنتاج البيانات السياسية ” تكثيف التحريض على السلطة ( لسان حال البعض من المكتب السياسي للحزب، أنّ النظام لن يقوم [اية حملة اعتقال، تحت حجة أنّ الصراع يحتدم بين الاخوان والنظام، والمعركة بينهما هي معركة كسر العظم، بما يعني ذلك أنّ النظام فقط سيوجه كل بنادقه وأجهزته لهذا الخطر القادم من الحلف الرجعي الأسود).؟!
حملة شباط – آذار 1982 على حزب العمل الشيوعي
قبل الحملة بقرابة الشهر جرى اجتماع للجنة المركزية بكامل أعضائها (15)، وكان من أهم البنود، تقويم وتقييم للأشهر الماضية خاصة بعد التهديد الأمني ( الاستفتاء )، وكان الميل العام أنه علينا المزيد من النشاط والخروج من هذا الخوف و ” القوقعة “!
ازدادت الرغبات عنفواناً
أتتْ مجازر حماه بعد هذا الاجتماع بيومين بتاريخ 2 شباط، و كسر العظم يزداد توغلاً، وكما هو معروف خرج النظام منتصراً بجبروته العسكري والأمني.
بنهاية هذا الشهر الدامي وقبل بضعة أيام وبعض السويعات، شنتْ الفروع الأمنية ( العسكري، أمن الدولة ) حملتها تلك، كانت من أنجح الحملات بالتعبير الأمني ( العدد الاجمالي بين فرعي الأمن العسكري وأمن الدولة 45، بينهم 16عضو مؤتمر 8 أعضاء لجنة مركزية، ورأس القائمة فاتح جاموس عضو المكتب السياسي ثم مطبعة الحزب ).
لا أعتقد أنّ هؤلاء ” المتفاؤلون ” سألوا أنفسهم عن تلك ” الرخاوة ” والاستهتار بالتوقعات.
تمرد يسار فتح عام 1983 وموقف حزب العمل الشيوعي (13)
يحاول الكاتب هنا بيان مكامن الضعف والتهور وراء هكذا قراءات لواقع الساحة الفلسطينية- انشقاق أبو موسى وخالد العملة عن فتح ياسر عرفات – الذي سيتبين لاحقاً أنها مواقف لم تأخذ بعين الاعتبار هوية وماهية ” المنتفضين “، خاصة لجهة علاقتهم بكلا النظامين السوري والليبي، ولاينسى المؤلف أنّ الحزب كان لديه التخوف تجاه هذه العلاقة مع النظام السوري، لكنه على العكس تماماً من التحالف مع النظام الليبي، باعتباره نظاماً وطنياً بتقييم الحزب آنذاك ؟ّ!
النص في العدد ( 82 ) من الراية الحمراء جريدة الحزب المركزية :
” تمرد يسار فتح خطوة صائبة على الطريق..هذا التمرد فرصة تاريخية لوضع حد للقيادة الفلسطينية اللا وطنية..”
ثم نقرأ ” رفع الحزب شعارات : لنناضل من أجل الإطاحة بالقيادة اللا وطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية ( القيادة الخائنة )..”
أعتقد أنّ هذا الموقف ” الرغائبي ” من الحزب، إن دلَّ على شيء إنما يدل على مدى ضحالة التقويم لخصوصية وضع منظمة التحرير الفلسطينية وعمادها الرئيسي حركة فتح، ومدى الاستغراق بالمسطرة الايديولوجية، التي لاترى إلا ممثليها هم أصحاب الحقيقة ( الماركسية -اللينينة ) وهم من يقود حتى معركة التحرر الوطني، بهذا المعنى ظنّ البعض أنّ ” المنشقين ” لمجرد إعلانهم عن تبني الايديولوجية، هذا مايجعلهم هم ” المصطافون “؟؟

في الفقرة المعنونة: التمرد والبحث عن هوية وانتماء (14)
” يمكن تلمس خيط غير سياسي في تجربة الرابطة – الحزب، خيط تمرد اجتماعي يشكل قاسماً مشتركاً للشباب الباحثين عن معنى غير تقليدي لحياتهم ..وبشكل ما ترجمة للشعار الذي كتبه الطلاب في باريس على جدران جامعاتهم أيار 1968 :
“اركض يارفيق، العالم القديم وراءك ”
يلامس الكاتب هنا الكثير من الحقيقة، وأعتقد أنها كانت من القوة والتأثير بمكان مما جعل الكثير من الشباب والصبايا للانخراط واختيار هذا الحزب بعينه، رغم الخطورة المدمرة للشخص وعائلته، إنها تنتمي عن معنى وجود للذات خارج مألوف القيم والممارسة الجمعية، تحاول تزويد حياتها بمتخيل ما عن ” الحرية ” ربما تحققت عند بعض التجارب المماثلة، هكذا كانت التصورات والتمثلات اللاشعورية السياسية، عن ” يوتوبيا ” مستقبل ما لكل البشرية، حيث لا استلاب ولا مظلوميات ولا اغتراب ( الإنسان اللاعب الحر والسعيد وفق الحلم الماركسي ).

التركيبة الاجتماعية للحزب (15)
” ..إنّ نسبة الأقليات المذهبية والدينية كانت لها النسبة الغالبة ( حوالي الثلثين ) في صفوف الحزب، يمكن رد انخفاض السنة إلى حقيقة أنّ الأحزاب الإسلامية بتنوعاتها، تمتص نسبة الشباب السنة الذين لديهم استعداد للعمل السياسي المعارض.. لاتجد أصحاب الميول السياسية من أبناء الأقليات سوى الأحزاب العلمانية..”
محق الكاتب في قراءته تلك، إنها إشكالية عامة قد تجدها هنا وهناك بين شتى صفوف اليسار العربي التقليدي والجديد، هناك بعض الاستثناءات حصلت في فترة الخمسينات من القرن الماضي ( الحزب الشيوعي السوري، قد اخترق نسبياً ذلك الجدار بين حواضر المدن في دمشق وحلب وحمص ).
ويمكن اختزال الإشكالية كما ارتأى البعض، نتيجةً للتعالي بين اليساريين وجموع أهل ” الدين “خاصةً وأنّ السنة تشكل الغالبية الساحقة، والبعض الآخر ارتأى أنّ هناك ممارسة تاريخية مزمنة ( في صفوف اليسار )، ترى في الدين محض ” أفيون الشعوب ” كما هو متعارف عليه لدى النص، بمعنى إشهار الإلحاد على مرأى من الجمهور المتدين، ( سيكتشف الماركسيون العرب متأخراً أن تلك العبارة الماركسية – الدين أفيون الشعوب – هي مجتزأة، إنما الدين هو تنهيدة الإنسان المضطهَد، قلب العالم الذي لا قلب له ” شهقة المكلوم “، إنه أفيون الشعوب) (16) .
أعتقد أنّ تلك الآراء هي تلامس الصواب بعض الشيء بظاهرها، وليس بباطنها، علينا أيضاً أن نرى عوامل أخرى لا تقل أهمية، عامل الاستبداد المرتكز على أنظمة شمولية، أنظمة زعمت أنها ” تقدمية “، منظومة الدول الاشتراكية وهزالة ” المحاكاة “( النظام السوري مثلاً )، عملت على تأسيس منظومة إلغاء وإقصاء لكل المجتمع، زعمت لنفسها أنها النموذج الذي يحتذى ” للعلمانية “، مما سيعزز لدى ” المؤمن ” الهروب من هكذا ” أحزاب “.
أمام هذه المحنة العامة (نظام الإدارة بالعنف، برهان غليون) (17) ، جراء التغول الاستبدادي، سيجد المؤمن في ” أماكن العبادة ” ملاذه الحر ، يستمد عناصر توازنه بالولاء والطاعة فقط ” لرب العالمين “, إنه سينتمي لجماعة جديدة ” جماعة الإيمان “.

/ ننحت من صخرٍ كما ” الفرزدق “، و ” شيخنا الجليل ” يغرف من بحر كما ” جرير” /
سأذكر مثالاً بسيطاً عن رجل الدين الدمشقي ” محمد عوض “- و درسه الأسبوعي الثلاثاء من كل أسبوع في جامع زيد بن ثابت في دمشق، قبل اشتداد الصراع الدموي بين الإخوان المسلمين والنظام بين عامي 1978-1979- ما كان يلفت انتباهنا ونحن المشاة عبر الرصيف، هذا الحشد الشعبي من دمشق وريفها خاصةً دوما وحرستا، تجد ” الحشد ” يمتد إلى المدخل الخارجي، لدرجة أنّ شرطة المرور تضطر أن تكون حجاباً أمام هذه ” الخطب العصماء “، مما لاشك فيه انّ الأجهزة الأمنية كانت تراقب، لكنها لم تصل بعد لتعاقب.
نحن الواقفون على خط العمل السري، كنا نختار الشارع للتواصل وحركة المواعيد التنظيمية، كنا نتساءل – واعتقد لم يزل البعض يتساءل -كيف لهذا ” الشيخ الجليل ” حشد المئات إن لم نقل الآلاف بساعة صخب واجترار ” أحاديث ومرويات العنعنة “.؟؟!!
نعم كنا ننحت من صخر، وشيخنا يغرف من بحر .
/ هل كان بمقدورنا قرع الأجراس / ؟؟
خاتمة
في ختام هذه المتابعة والقراءة للكتاب والتجربة، لا يسعني إلا أن أقول :
الكتاب استوفى كامل المراحل التاريخية لنشوء الظاهرة ( الحلقات، الرابطة، الحزب 1976-1992) باحترافية تكاد تكون الاولى من نوعها في التأريخ السياسي السوري، خاصة أنه حافظ على مسافة من الحدث والمروي والاقتباس – علماً أنه كما ذكر في مقدمته إنه عضوا في التنظيم – مع ذلك انطلق من الموضوعية وليس الانحياز كما هو مألوف من يتكلم عن تجربة هو جزءاً منها.
لربما سنجد أنه الكتاب الأول في سورية، في صياغته ومفرداته – صادر عن تجربة سياسية حزبية ولكاتب انتمى للحزب – سنجد لغة سياسية حميمية تجذب القارئ بعيداً عن ” جفاف وغلاظة الكتابة السياسية “، كذلك غياب المفردات ذات الطابع الانتماء لهوية مغلقة ترى نفسها ” الفرقة الناجية ” .
من نافل القول أنني وقفت عند بعض المراحل والمحطات الرئيسية في الكتاب والتجربة، لكنني لم أفِ الكتاب كامل تفاصيله، خاصةً الوقوف أمام أشرس حملة اعتقال تعرض لها الحزب ( 1986-1987) حيث شلَّ الحزب تقريباً، بقي يحاول النهوض حتى عام 1992، لكن عبثاً حيث غياب الكادر وشدة الحصار الأمني على من تبقى ( هم قلة قليلة )، وكانت النهاية مع شتاء ذلك العام .
كذلك كان من الملفت في الكتاب ذكره لتلك التظاهرة النسائية (تظاهرة أمهات المعتقلين)، وذلك في شهر آذار 1990، حيث تمكن حزب العمل الشيوعي بعد جهود وترتيبات طويلة، من تنظيم تلك المظاهرة، اجتمعت 300 امرأة من أقارب المعتقلين ( أمهات، زوجات، أخوات )، حيث تم الاجتماع أمام قصر المهاجرين في دمشق، وهتفنَ يطالبنَ بالإفراج عن أبنائهن..
هناك في آخر الكتاب، ملحق مهم يضم جميع أسماء من اعتقلوا ( 815 ) معتقل من تاريخ أول اعتقال آذار 1977، الى آخر من اعتقل في 1993.
………………………………………………………………………………………………………………………………………………………….
الهوامش:
1- أختصاراً لرابطة العمل الشيوعي – حزب العمل الشيوعي سوف أستخدم الرابطة – الحزب.
2-أعتقل الكاتب راتب شعبو من عام 1983 إلى 1999, أيّ 16 عام.
3-بتصرف من كتاب غاستون باشلار – جمالية المكان – ترجمة غالب هلسا.
4-المقصود هنا كراسات رابطة العمل الشيوعي ( 13 ) صدرت في عام 1977 (ملامح الصراع الطبقي العالمي، المسألة الأممية والحركة الشيوعية العالمية، مسألة أشكال النضال والأنتقال إلى الإشتراكية، الوحدة العربية والثورة العربية، المسألة الفلسطينية، البرجوازية الصغيرة، الطبقة العاملة، الحركة الشيوعية المحلية..).
5- صفحة 13 من كتاب قصة حزب العمل, نسخة إلكترونية. التقرير السياسي والمهمات البرنامجية الصادر عن الإجتماع الثالث الموسع.
6-المقصود به التقرير السياسي الذي صدر في آب 1980 عن أغلبية الهيئة المركزية لرابطة العمل الشيوعي.
7-صفحة 82 من المرجع نفسه: العدد 36 من الراية الحمراء أيلول 1979. يأتي الشعار بصيغة إسقاط سلطة الطبقات السائدة. العدد 38 من الراية الحمراء تشرين الأول 1979. يأتي الشعار بصيغة إسقاط الحكم الدكتاتوري البعثي.
8-المرجع نفسه ص 89، تقرير آب, الصفحات 9 – 12.
9-من منظمة دير الزور (عبد الملك عساف، فواز القادري، جابر أحمد..) من منظمة السلمية (حسن زهرة أبو عصام، علي صبر درويش أبو الصبر).
10- صفحة 93 المرجع نفسه : لم يستطع الكاتب التمكن من الحصول على رواية الطرف الآخر (الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي).
11- ص 116 المرجع نفسه : عقد المؤتمر في لبنان بين 1 و6 آب 1981، بحضور 55 مندوب. هناك بعض التفاصيل تتعلق بتصحيح بعض أسماء اللجنة المركزية المنتخبة، سيعمل المؤلف على تلافيها في صدور الطبعة الثانية المزمعة للكتاب.
12- ص 129 – 130 المرجع نفسه : يشير الكاتب هنا إلى الأعتقال الذي جرى للبعض أثناء عودتهم من بيروت بعد إنتهاء المؤتمر لدى فرع التحقيق العسكري.
13- ص 143 المرجع نفسه. يشير الكاتب هنا إلى التمرد أو ’الأنتفاضة’ الذي جرى في صفوف حركة فتح أيار 1983 بقيادة نمر صالح أبو صالح (عضو لجنة مركزية في فتح)، أبو خالد العملة (عقيد في حركة فتح)، سعيد موسى أبو موسى ( ضابط سابق في الجيش الأردني). وضع التمرد نفسه ضد سعي عرفات للتخلي عن الكفاح المسلح.. وضد النهج التسلطي والتسووي لقيادة منظمة التحرير.
14- ص 169 المرجع نفسه.
15- ص 185 – 187 المرجع نفسه.
16- كارل ماركس، مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيجل 1844 (في مقدمته الموجزة).
17- برهان غليون، عطب الذات، وقائع ثورة لم تكتمل، ص 269 ضمن فقرة شهقة المكلوم.