مع موجة الحر الشديد التي تجتاح مختلف مناطق إقليم كردستان العراق، تزداد المخاوف الحكومية والشعبية من احتمال أن تؤدي عمليات القصف الجوي التركي على نقاط تمركز مقاتلي حزب “العمال الكردستاني” في المناطق الجبلية الحدودية إلى اندلاع حرائق لا تمكن السيطرة عليها.
الهواجس بدأت منذ أسابيع، بعد التهام حريق في “جبل متينا” في محافظة دهوك مئات الدونمات من الغابات في المنطقة، إثر اشتباكات بين الجيش التركي ومقاتلي “العمال الكردستاني” في قرية سارحال في المنطقة الجبلية الوعرة.
غابات في مناطق صعبة
المشاهد المصورة التي نقلتها وسائل الإعلام عن واقعة الحريق، أظهرت موجة نيران واسعة طالت المزارع والمنازل، في وقت كان السكان وأهالي القرى المجاورة يهرعون إلى إطفاء الحريق بوسائل بدائية، إذ لم تستطع فرق الإطفاء والمساندة المدنية الوصول إلى تلك المناطق التي هي أشبه ما تكون بمحميات طبيعية، مغطاة بغلاف شجري كثيف، في منطقة جبلية شديدة الانحدار.
منطقة جبل متينا الواقعة في محافظة دهوك شمال غربي إقليم كردستان هي واحدة من عشرات المناطق الجبلية التي ينتشر فيها مقاتلو “العمال الكردستاني”. فالقوس الجبلي الممتد من المثلث الحدودي العراقي – السوري – التركي، وصولاً إلى المثلث الحدودي العراقي – الإيراني – التركي، وعلى مسافة تتجاوز 400 كلم من الحدود البرية الجبلية الوعرة بين تركيا وإقليم كردستان، في جبال متينا وآفشين وخواكورك وقنديل، تشهد صراعاً مسلحاً بين تركيا و”العمال الكردستاني” منذ عقود عدة. لكن التبدلات المناخية خلال السنوات الماضية، وزيادة مستويات الجفاف، أدت إلى اندلاع حرائق واسعة إثر الاشتباكات أو عمليات القصف الجوي.
بحسب منظمة “فرق صناعة السلامة” الأميركية، شنت القوات التركية 833 هجوماً جوياً على المناطق الجبلية من إقليم كردستان خلال الشهور الخمسة الأولى من هذا العام، وهو أكبر عدد من الضربات الجوية منذ بداية الصراع. المنظمة التي رصدت خلال العام الماضي 1586 ضربة جوية، تتوقع أن تتجاوز هذا العام الـ2000 ضربة جوية، خصوصاً خلال الشهور الثلاثة المقبلة، قبل قدوم فصل الشتاء المبكر في هذه المنطقة، حيث تنخفض الهجمات بشدة.
استهداف ممنهج
تستهدف الهجمات عادة كل المناطق الجبلية بشكل شبه منتظم وممنهج، وأقلها تكون في المناطق السهلية غير المشجرة، مثل منطقة سنجار غرب محافظة نينوى الموصل، إذ استهدفتها 10 هجمات فحسب من أصل 833.
ويتهم النشطاء الحقوقيون والمنظمات المدنية الكردية تركيا باستهداف البيئة الطبيعية الكردية، معتبرين أن تركيا تشعر بحنق شديد من هذه الغابات والبيئة الجبلية المشجرة، التي تعتبرها حصناً طبيعياً لحماية المقاتلين الأكراد منذ عقود. النشطاء الأكراد يذكرون أن تركيا لا تستجيب لكل النداءات بشأن ضرورة أخذها المسألة البيئية في الاعتبار أثناء حربها، الأمر الذي قد يتطلب إجراءات بسيطة، مثل تغيير نوعية الأسلحة المستخدمة وأوقات استخدامها بكثافة، ومثلها أيضاً رفد قواعدها العسكرية الحدودية بحوامات وأدوات لإطفاء الحرائق.
لكن الناشطين الأكراد يشيرون إلى عدم مبالاة تركيا بالحرائق المندلعة في المناطق الكردية ضمن تركيا ذاتها، موردين مقاطع مصورة لجنود أتراك خلال السنوات الماضية وهم يتوعدون البيئة الكردية أثناء إطلاق القذائف على المقاتلين الأكراد، أو حملات إزالة الأشجار عن الكثير من الغابات في المنطقة الجبلية جنوب شرقي البلاد، إما بحجة فتح الطرق أو التمركز على القمم الجبلية أو منع المقاتلين الأكراد من الاستفادة من الكثافة الجوية.
كان القرويون الأكراد خلال السنوات الماضية، خصوصاً خلال شهور فصل الصيف من العام، يهرعون مباشرة إلى أماكن الاستهداف، لحصر آثار عمليات القصف مباشرة ومنع تحولها إلى حرائق واسعة النطاق. لكن العمليات الحربية التي تمركزت خلال السنوات العشر الماضية في كامل القوس الحدودي الجبلي بين تركيا وإقليم كردستان، دفعت عشرات الآلاف من القرويين إلى إخلاء قراهم التي تقول حكومة إقليم كردستان إنها تجاوزت 500 قرية، ثم تصفية كل ممتلكاتهم وأنشطتهم الاقتصادية والزراعية، التي كانت تحمي البيئة الطبيعية في تلك المناطق.
الناشط المدني الكردي زريان مصطفى شرح في حديث إلى “النهار العربي” ما سمّاه “الظرف الطبيعي للإبادة البيئية وفقدان مسؤولية المتصارعين بشأنها”، وآثار ذلك على المدى البعيد، مضيفاً: “ربما ليس من حالة شبيهة بهذه على مستوى العالم، إنها حرب مستمرة منذ نصف قرن تقريباً، من دون هوادة وخطوط حُمر وأفق لأي إمكان لحلحلة الأمر. مع تلك السمات كلها، فإن المتصارعين، بالذات الجيش التركي، يعتبر البيئة وكل شيء آخر شبيه بها قضايا لا قيمة ولا معنى لها، مقارنة بما يسميه ’الأمن القومي التركي’. إذ لا تشهد تركيا، حتى على مستوى المثقفين أو المنظمات البيئية والحقوقية أي إشارات أو تقارير أو كتابات بشأن هذه المسألة. حتى بعض الجهات الدولية المنشغلة بقضايا البيئة، وحينما تورد أرقاماً ومعلومات في ذلك السياق، عادة ما ترفض تركيا تقاريرها وتعتبرها مؤيدة لحزب العمال الكردستاني. كل ذلك يضاف إلى النزعة القومية الشديدة لدى الجيش التركي، الذي يعتبر بيئة المناطق الكردية جزءاً من الشخصية الكردية نفسها”.
وبحسب آخر التقارير التي أصدرتها “مجموعة الأزمات الدولية”، أدت الحرب بين الطرفين خلال السنوات التسع الماضية إلى مقتل 4639 مقاتلاً من “العمال الكردستاني” من كل التنظيمات والتسميات التي قد يعمل بها مقاتلو التنظيم، بما في ذلك مجموعات “صقور كردستان” وغيرهم من الذين قتلتهم تركيا. خلال الفترة نفسها، قُتل 1481 جندياً تركياً، من بينهم فقط 130 عنصراً من تنظيمات حراس القرى، والبقية كلهم جنود وضباط من الجيش التركي.