قد تبدو ضربًا من المزاح، لكنها بعض حقيقة من زمن الغرائب، أن أكثر الشعوب التي فازت فرقها في منافسات كأس أوروبا لكرة القدم الجارية حاليًا في ألمانيا (من 14 حزيران/ يونيو حتى 14 تموز/ يوليو)، هم السوريون الذين فرحوا كأنهم ينتزعون من أرواحهم الهزائم التي لحقت بهم على مدار عقود حياتهم، جلسوا أمام الشاشات كأنهم يمتحنون انتماءاتهم الحديثة إلى جنسياتهم الجديدة، ربحوا مع فريقهم (الألماني أو التركي إلى الفرنسي والإسباني والنمساوي والإيطالي والإنكليزي والهولندي والروماني والسويسري والسلوفاكي والبلجيكي والأوكراني والبرتغالي وغيرهم من المشاركين بلا نتائج حتى اليوم)، كأن أفراحهم محاولة لبناء ذاكرة انتصارات يمسحون بها انكساراتهم الوطنية بكل مستوياتها، من السياسي إلى الثقافي والفني والرياضي.
لا شيء يعزّز الانتماء إلى الدولة أو الوطن كما الحلم الذي يتحقق بالحصول على حياة آمنة، بحقوق مواطنة كاملة، لا حدود قانونية أو اجتماعية أو دينية تمنع من مساواتك بالآخر ومع الحاكم، ربما هذا ما يحصل عليه الأوروبيون الجدد مع اختلاف الجنسيات، وهو ما عزّز اندماجهم في المجتمع حقوقيًا وعاطفيًا، فبدأت الأسماء العربية أو من الدول العربية، تطرق أبواب البرلمانات والمناصب الحكومية، والمجتمع الثقافي، والفرق الرياضية.
ولا شك في أنهم اليوم يعبّرون عن انتمائهم إلى فريق الدولة التي يعيشون فيها من خلال نسب فوزه إليهم، أو الحزن والتعاطف لخسارته، في الوقت الذي يصعب ملامسة تلك المشاعر عند ذات السوريين خلال حضور الفريق السوري “الوطني” في أي نشاط دولي، وهو ما ينعى الارتباط العاطفي المبني على أساس “جنسية المصادفة” بمكان الولادة التي نوه لها إيهاب حسن، الباحث المصري منظر ما بعد الحداثة، عندما قال عن موضوع جنسيته المصرية الأميركية: “مولدي في مصر مسألة صدفة، وليس مصيرًا، صدفة تحفل مع ذلك بالذكريات”.
التنازع الذي يشعر به السوريون بين هويتهم الجديدة كاملة الحقوق، وبين تبعيّتهم لسوريتهم بما تحمله من قهر سياسي وانتقاص حقوقي، وإسقاط ذلك العداء مع النظام على كل ما يتعلق بالمؤسسات المرتبطة به، وهو ما يفسره لنا (أي حال الانفصام عند السوريين) المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة في حديثه عن إشكاليات الهوية، وتمظهراتها، إذ يرى في المجتمعات الحديثة والأكثر تعقيدًا أن “انتماءات الفرد تتعدّد بطريقة قد تبعده عن الجماعة العضوية التي وجد نفسه فيها كالعائلة أو القبيلة أو المكان الذي ولد فيه، وفي نفس الوقت قد تتولد لدى الفرد صراعات داخلية تنجم عن التناقض بين هذه الفئات مثل صراع الشخص بين انتمائه لقبيلته وانتمائه لوطنه”.
ويتابع بشارة قائلًا: “قوة الهوية الوطنية وهشاشتها تتوقف على طريقة تعامل مؤسسات الدولة مع الفرد، فإذا كانت تعامله على أساس من كونه مواطنًا فستصبح الهوية الوطنية متينة، وعلى العكس من ذلك إذا كانت ستعامله على أساس انتمائه القبلي، أو المناطقي، أو العرقي، أو الديني، أو الطائفي، أو المذهبي، أو أي انتماء آخر، وفي هذه الحالة التي تكون فيها الهوية الوطنية هشة… المجتمع يكون عرضة للتشرذم في حالة تعرضه لهزة قوية حيث سينحاز كل فرد لهويته الأولية بحثا عن الأمان” (من موقع منتدى التفكير العربي، 6-1-2023).
“عزمي بشارة: “قوة الهوية الوطنية وهشاشتها تتوقف على طريقة تعامل مؤسسات الدولة مع الفرد فإذا كانت تعامله على أساس من كونه مواطنًا فستصبح الهوية الوطنية متينة””
ويمكن أن نضيف أن ما أصاب المجتمع السوري أكثر من ذلك، إذ إن سلطة النظام/ الدولة الاستبدادية وقفت في مواجهة الشعب، وعلى الضد من محاولته فرض حقوقه في المواطنة، وهو ما يعمّق من مفهوم الاغتراب الهوياتي عند السوريين، ورجوعهم إلى هوياتهم الأولية الأصغر، ومن ثم انتسابهم إلى الهويات الجديدة لتجاوز واقع هويتهم السورية المؤلم.
السوريون هم أبناء الحياة، أي أبناء العالم، ولا يقلّل من سوريتهم، على تعدّديتها، الإثنية والطائفية والمذهبية والمناطقية والجندرية، انتماءاتهم الجديدة، وتمظهرها في اندماجهم الكامل التي خلقتها الظروف لهم، بل إن ذلك قد يغني تلك التعددية، ويخصّبها.
إذ لا توجد هويات مخلّدة، عبر التاريخ، فالهويات تنشأ وتنمو وتتطور وتأفل أو يتم تجاوزها، إلى هويات أكثر نضجًا، إضافة إلى أن الإنسان في ذاته، يحمل أكثر من هوية، وهذا ينطبق على كل سوري، فهو يحمل، مع هويته السورية، هويته القومية والدينية، كما يحمل هويته المناطقية والمهنية والثقافية والأيديولوجية، مع الأخذ في الاعتبار، أيضًا، أن الهويات عند كل فرد متحركة، بمعنى أنه قد يولي هويته الوطنية حينًا مقابل الهويات الأخرى، أو القومية أو الدينية أو الأيديولوجية… إلخ.
ولعل هذا هو معنى الهويات المتخيلة كما أتى عليها المفكر الأيرلندي بندكت أندرسون في كتابه اللامع “الهويات المتخيلة”، إذ يرى أن فكرة “الأمة والهوية حديثة نسبيًا. الأمة مجتمع سياسي متخيل، محدود بطبيعته وذو سيادة”.
لا ضير إذًا أن يلحق السوريون بهوياتهم الجديدة، باحتفائهم بها، وحماسهم لها، فهذا هو العالم اليوم، حيث تتقاطع الهويات في كل شيء، وهو مسار بات يتصاعد ويتوسع، برغم الاستقطابات الدولية، هذا ينتشر باضطراد مع نمو وسائل الإعلام والاتصال الجماهيرية، ومع تطور تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات، ومع تطور العلوم والحاجة إلى الاعتماد المتبادل.
ومع الثقة أن الهوية الوطنية قد تأخذ مكانها من جديد بين السوريين، عندما تتوفر شروطها الواجبة، كما حدث عندما ساد الشعور بالفخر بالهوية العربية، بعد طول احتفاء بالهويات “الحدودية” على حسابها، إلا أنها عادت وأخذت مكانها في حدث رياضي كبير سابق، في بطولة كأس العالم 2022 في قطر، والتي صارت أمثولة للتعريف بالحياة المعاصرة في الدول العربية، بما حملته من نجاحات باهرة في التنظيم والنقل والبنى التحتية، وهو ما سيبقيها دائمًا معيارًا للنجاح يقاس عليه أي تنظيم لاحق لها، وهو ما نشاهده اليوم في نقل مباريات “اليورو”، وتعليق الإعلاميين العرب جميعهم عليها، ومقارنتها بما كان في قطر، وبما يمكن أن يكون في أي حدث على أرض عربية لاحقًا.
*كاتبة سورية.