بعد أن استقرّت الحربُ الباردة نظامَ ردعٍ، حقّق ضربًا من التوازن الصامت بين المُعسكريْن الشّيوعي والرأسمالي، وبعد أن أسفرت عن سنوات من الازدهار الاقتصادي والتحولات الاجتماعيّة الإيجابيّة، ظنّ العالَمُ في شيء من البراءة أنّ الحروب الكبرى ولّت بلا رجعة وأنّ مشاهد الدّمار العاتية لن تعود أبدًا، بعد أن هيمنت آلهة الحبّ، فينيس، على العلاقات الدولية وأقامتها على التعاون والانسجام واحترام حقّ الاختلاف.

كان هذا التصوّر صرحًا من خيالٍ، شيّدَه ساسةُ ذيْنِك المعسكرَيْن وبعض المُفكرين مثل الفيلسوف الأميركي فرنسيس فوكوياما الذي صاغ مقولة: “نهاية التاريخ”. فجأةً، هبّت على هذا التاريخ المحتضِر خلال تسعينات القرن الماضي، رياحُ الحَرب، أطلقها من بوقه إله الوحشية آريس في أوروبا فلم يهدأ أوارُها حتى يومنا هذا، إذ أكّدت الحرب الروسية-الأوكرانية أنّ إغراء الدم والدمار أقوى من نَسمات الحب والإعمار.

هذا التحول الدرامي هو ما عاد إلى تحليله الأكاديمي اللبناني والدبلوماسي المخضرم غسان سلامة في كتابه الجديد “إغواء آريس: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين”، الصادر عن دار فايار منذ أسابيع. وفي فصوله، عالج الكاتب انحسار ظاهرتيْن كادتا أن تقضي على النزوع الحربي لدى البشرية، وهما الازدهار الاقتصادي والتسارع الديمقراطي لدول ما بعد الحرب العالمية الثانية، نزوعان أسفرا عن سلام شاملٍ، كاد أن يكون دائمًا…

إذ ما هي إلا أن بدأ هذا الوضع في التآكل، منذ مطالع الألفية الثانية، وظهرت هشاشة حُلم زوال الحروب بعدما عادت الديكتاتوريات الصينية والروسية إلى الصعود ولجأت دولُ “العالم الثالث” في إفريقيا وأميركا اللاتينية إلى ممارسة العنف الدامي ضاربةً عرض الحائط بالديمقراطية بدعوى أنها مجرد نموذج استعماري كاذب؛ وهو وضع غَذّاه عجز الديمقراطيات الغربية ذاتها عن تجديد القيم التي دعت إليها وعن احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان، فقد كشفت الحملات العنيفة التي قادتها ضد الشعوب المستضعفة أنّ تلك القيم مجرد شعارات واهية، لا تصمد أمام المَصالح الضيّقة والتحديات العابرة. واتضح أنّ “اقتصاد السوق” الذي قادته هذه البلدان الغنية قد يدهس، ومن دون أدنى تردد، هذه القيم لفائدة الربح والهيمنة؛ وهو ما جعل الشكوك تخيِّم على ترابط الديمقراطية والمساواة الاجتماعية والازدهار.

وقد خصص غسان سلامة جزءًا من كتابه لدراسة أسباب انحسار التساؤل الفلسفي المعمق ومظاهره؛ ذلك التساؤل الذي كان ينهض به كبار المفكرين لصالح وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين فيها، وهم الذين استحوذوا على عناوين القضايا الرئيسة في الوجود المجتمعي من دون امتلاك الأدوات التحليليّة والنقديّة اللازمة لاستجلاء مضامينها العميقة.

ومن جهة ثانية، عادت “الهويات الثقافيّة المميتة”، كما وصفها أمين معلوف، سواء في دول الغرب المتقدم أو في “بقية العالم”، كما كان سماها المفكر السوري مطاع صفدي، وسيطرت على السياسات والعقول حتى صارت المرجع الرئيس الذي قضى على كل سؤال كوني يتعلق بالقِيم الكبرى ويدفع نحو رؤية إنسانيّة منفتحة، حيث انتصرت الانتماءات الضيّقة ذات المرجعيات الحزبية على أنساق الفلسفة التي كانت تغذّي تحرّر البشرية وتَصحَبُه.

فعلى سبيل المثال، أجَّجَت التوجهات الحزبيّة الضيقة حزب “المحافظين”(الجمهوري) في أميركا فكانت وراء اندلاع حربَيْ العراق وأفغانستان وما ارتُكب فيهما من جرائم واستعمال مفرط للقوة ضد شعوب عزلاء وما أسفرتا عنه من فظاعاتٍ بُرّرت باسم “مكافحة الإرهاب” والقضاء على “الشر المطلق”.

وقد أدّت هذه الوضعيّة الجديدة إلى تقلص النموذج الغربي وانحسار تأثيره الرمزي بعد أن انخفضت نسبة حضور أوروبا في العالم من 80% إلى 30% فقط، وذلك بسبب بروز أقطاب أخرى بدأت تطالب بفرض رؤاها الذاتية مزيحةً آثار هذا المثال الغربي الذي حكم طيلة الحقبة الاستعمارية أو “الامبريالية”، فارضًا رؤيته المركزية ومدعيا امتلاك الحقيقة للاستئثار بخيرات السوق.
وأما الخيط الناظم لفصول الكتاب فهو التأكيد على غياب “تحالفات دائمة” أو “صداقات آلية”، فما بين الدول من علاقات هو تشابك مصالح، بل رقصٌ على تناقضات صارخة لا تنتهي، تُديرها كل دولة على حدة حتى وإن اقتضى الأمر المواءمة بين التحالفات المستحيلة والتوفيق بين أهداف متعارضة؛ وهذا ما يجعل إغراء الحرب حاضرًا والنزوعَ إلى استخدام القوة المفرط واردًا في كل لحظة، حسب الكاتب، بعد أن فَتَرت فكرةُ “تقادُم الحرب” وظهر خَطَأها. فليس هناك في المشهد الجيو-سياسي المعقد اصطفافٌ أكيد أو حتى تعارضات متوقَّعَة، بل مواقف تُولَد وقد تتلاشى على إيقاع الظروف والمستجدات؛ الأمر الذي ولّد حالة من عدم انضباط القوة مع العَجز التام عن التحكم في مساراتها ومآلاتها. أليست حرب روسيا في أوكرانيا مرشَّحَة وفي كل لحظة إلى أن تنفجر صراعًا كونيّا شاملاً، لا يُدرى مَن سَيَصطفّ فيه ضدَّ مَن!
وخصّص الدبلوماسي المخضرم القسمَ الأخير من كتابه لرسم ملامح عالَم الغد، مشدّداً
على تنافس نموذجيْن متقابليْن: نموذج “القرية العالميّة” التي تتماثل أحياؤُها حدَّ التماهي والتي تعيش ضربًا من التشابه المطلق، ونموذج “إعادة مَنْطَقَة العالم” وتقسيمه إلى جهاتٍ متغايرة متنافسة، ترفع كلّ واحدة منها راية الهويّة الضيقة، وتؤول في مواقفها وخطابها الى إيديولوجيتها الثقافية. إلا أن غسان سلامة يؤكد أنْ لا نموذجَ منهما بقادر على أن يفرض ذاته ويزيحَ الآخَر، فهما خطان متقابلان يسعى زعماء كل واحد منهما إلى فَرضِه لخلق معادلات جديدة، مما يسفر عن عالم لا يمكن وصفه بسهولة، فلا هو “أحادي القطب”، كما كان طيلة العقود الثلاثة الماضية، ولا هو “متعدد الأقطاب”؛ علاوةً على أنَّ التجارب الأخيرة قد أبانت أنّ صراع القوى والتكتلات لم يصل بعد إلى تحقيق التوازن المنشود ولا إلى القضاء على الانتهاكات الجسيمة.

وحتى لا تكون خاتمة الكتاب استنتاجات قاتمة، عبّر سلامة عن آماله في أن تظهرَ وجوه سياسيّة وزعامات حقيقية تعي جوهرَ هذه التناقضات وتقدم حلولاً لوضع العالم، راجيا أن تكون مادة كتابه هذا التي صاغها اعتمادًا على تجاربه الذاتية ومسافته النقدية كدبلوماسي وكوزير، أن تكون مادة لتفكير هؤلاء الزعماء حتى يفهموا العالَم على حقيقته ويعوا ما فيه من تناقضات وتغييرات. ولعل أن يكون ذلك أولى مراحل الاستقرار المنشود.

وهكذا، فالكتاب دعوة للتصدّي العاجل لإغواء الحروب، بعد أن مدَّت الايديولوجيات الانطوائيّة عنقَها، وقد ظُنت ميّتة، وبعد أن فشل التبادل التجاري العالمي “السَّلِس” في تحقيق ازدهار متجانس وعامٍ، وبعد أن أصبحت الثقافة أداة تفريق وانقسام عوض أن تكون عامل تقريبٍ وإثراء. في طيَّ التحليل ثمة وصفٌ دقيق لوضع العالَم ونداء ملحٌّ لإدراك ما ينخره من مشاكل بنيويّة، في انتظار ما قد تسفر عنه التحالفات الجديدة، كتلك التي أُعلن عنها يوم الخميس الماضي (04/07) في آستانا إبان اجتماع “قوى الجنوب” التي تسعى إلى التصدي للقطبيّة الأحاديّة.
increase
حجم