رفع “رجل الأعمال” السوري محمد قبنض شعار “لنجعل سوريا عظيمة من جديد” أثناء حملته الانتخابية لعضوية مجلس الشعب السوريّ، وكأنه يسخر من مخاوف السوريين تجاه الديمقراطية والمشاركة في الحياة السياسية.

نصب أحد مرشحي مجلس الشعب خيمة وطاولات تشبه خيام إفطار شهر رمضان، في موقف الصوفانية قرب ساحة باب توما، واستأجر فرقة رقص “عراضة” شامية لتحمله وترقص به بين الحاضرين والمارة، يغنون له كلما دخل وخرج، وحين لا يغنون، يشغلون أغاني “وطنية” من تلك التي ألفها الموسيقيون الموالون لبشار الأسد، تقول إحدى الأغنيات ” منحبك بشار” والثانية تهتف “نحن رجالك بشار”.

أتعجب كيف يمكن للانتخابات أن تتحول إلى شكل من أشكال التهريج، وضرورة اقترانها بالهتاف للنظام، مع أن البرلمان ومجلس الشعب يُعدان (نظرياً) سلطات مستقلة، بل يمتلكان صلاحيات حجب الثقة، لكنهما في سوريا، ليسا سوى واجهة يستخدمها النظام كما يشاء، مثل عملية الانتخابات الخالية من “الديمقراطية”، التي تترك السوريين يشعرون وكأن الانتخاب ليس من حقهم، أو ليسوا مؤهلين لممارسته.

انتخابات مجلس الشعب هذه المرة
في كل عام أتجاهل الأعراس الوطنية “الانتخابات”، كوننا كسوريين فقدنا الاهتمام بكل أشكال الديمقراطية الشكلية، التي يستعرضها النظام أمام العالم، ولكن انتخابات مجلس الشعب هذا العام مهمة للغاية، وهذا في رأي كثيرين يعود لعدة أسباب، منها: قمة البحرين الأخيرة، ووثيقة “خطوة بخطوة”، والانتخابات الأميركية، وقانون “مناهضة التطبيع مع الأسد” .

مرشحو مجلس الشعب في سوريا، لا يخرجون في مناظرات عامة ليستعرضوا مشاريعهم أو ليشجعوا الناس على انتخابهم، ناهيك بفقر حملات الكثيرين منهم بسبب الوضع الاقتصادي، الذي لا يسمح للمرشحين بالإنفاق على الحملات كما يجب.

عادة يكتفي المرشحون بملصقات إعلانات طرقية وألكترونية، أو لقاءات تلفزيونية ما تيسّر لهم، وأما الأثرياء منهم فيقيمون المآدب للشعب الفقير الذي يعرف بأن الطريق إلى قلبه يعبر معدته أولاً.

راقبت ملصقات الطريق لأنها السبيل الأسهل بالنسبة إلي لقراءة المرشحين، أعينهم وألقابهم والشعارات التي ينادون بها، أسماء عائلاتهم ومهنهم تعطي لمحة جيدة عمن يكون هذا المرشح، فأنا لن أُتعب نفسي في مشاهدة قنوات النظام الإعلامية، التي لا تبثّ إلا السيناريوهات المتفق عليها.

استوقفني عدد الاقتصاديين والصناعيين والتجار المرشحين هذا العام، لعلها بادرة نحو سرقات أقل واقتصاد أفضل؟ وكالعادة كانت مشاركة النساء خجولة للغاية، مرّت بعض الأسماء الشبابية التي جعلتني لوهلة أشعر بالدهشة، لكن نزعة التشاؤم التي تلازم هويتي السورية جعلتني أضحك، لطالما حلمت بكوتا شبابية في مجلس الشعب، قرصت نفسي لأعي أنه يجب أن أحلم بداية، بمجلس شعب لا يكون دمية في يد نظام، ولا يكون منصّة لتمرير ما شاء وما أراد هذا النظام.

لنجعل سوريا عظيمة من جديد
لفت نظري شعار”لنجعل سوريا عظيمة من جديد” وهو شعار الحملة الانتخابية الخاصة برجل الأعمال السوري محمد قبنض، أرفقها بوصف صوتنا (الناخبين) بالصوت الجريء، وبدا لي كأن قبنض يسخر بوصفه هذا، من مخاوف السوريين تجاه الديمقراطية والمشاركة في الحياة السياسية.

محمد قبنض لمن لا يعرفه هو صاحب شركة “قبنض للإنتاج الفني” الشهيرة، وعضو مجلس الشعب، وعلى ما يبدو أنه يجدد حملته باستخدام شعار حملة دونالد ترامب الانتخابية، التي نصبته رئيساً للولايات المتحدة ويعيد استخدامها هذا العام أيضاً.

هذا الشعار ليس بجديد، وليس بشعار عابر إطلاقاً، بل إنه شعار جدلي للغاية، برز في الولايات المتحدة منذ عقود، أولاً على لسان الرئيس السابق رونالد ريجان، عندما كانت الولايات المتحدة تعاني من ركود اقتصادي، ثم عاد واستخدمه دونالد ترامب في حملته عام 2016؛ وكأن أميركا قد فقدت عظمتها يوماً، كونها القطب الأقوى المتحكم بالعالم.

إذا بحثت قليلاً، فستجد أن شعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى”، برأي كثير من الصحافيين والمفكرين والأميركيين، محمل بالكراهية والعنصرية.

ترى ماريسا ميلتون وهي صحافية في جريدة “صوت أميركا”، أن العبارة تعدّ مشحونة لأنها “لا تجذب الأشخاص الذين يسمعونها كلغة مشفرة عنصرية فحسب، بل أيضاً أولئك الذين يشعرون بفقدان المكانة، حيث أصبحت المجموعات الأخرى أكثر تمكيناً”، أي بما معناه “استحضار الخيال الأميركي الذي كان موجوداً، قبل أن يحصل السود والمثليون والأجانب على الحقوق ذاتها، التي يحصل عليها الأميركي الأبيض”.

وصف الصحافي الأميركي نيكولاس غولدبرغ وهو كاتب عمود في “لوس أنجلوس تايمز”، أن “هذا الشعار هو الأسوأ على الإطلاق”، والأكثر روعة تحليله للشعار: “لقد كان غامضاً بما يكفي لجذب المتفائلين بشكل عام، بينما يترك مجالاً للناخبين المستائين ليستنتجوا بأننا (الأميركيون) سنعود إلى الأيام التي كانوا يحكمون فيها؛ يقصد القوميين البيض”. يُعيد ترامب استخدام هذه العبارة في حملته هذا العام، مع إضافة بعض التألق إليها، إذ أصبحت: “Make America great and glorious again” أي “لنجعل أميركا عظيمة ومجيدة مرة أخرى”مما جعل الكثيرون يسخرون منه.

وجدت دراسة أُجريت عام 2018 استخدمت التنقيب عن النصوص، وتحليلات الشبكة الدلالية لشبكات “تويتر” النصية و”الهاشتاغز” أن هاشتاغ:#let’s make America great again كان يُستخدم بشكل شائع من قبل مدّعي التفوق الأبيض والقوميين البيض، وتم استخدامه كخطاب تنظيمي في فضاء المتعصبين البيض.

الأميركيون يدركون اليوم، أن هذا الشعار ذو وجهين، أنا عن نفسي استطعت فهم ما يُلمّح إليه، من خلال نظرة عابرة على تاريخ الولايات المتحدة، ولا أظن أن رجلاً مثل قبنض، الذي عاش في بريطانيا كصاحب ملهى ليلي، سيغفل عن معنى شعار كهذا، بل سينتبه بالطبع لدلالاته وأبعاده، وسيُسقطه على المجتمع السوري ما بعد الأزمة وسياق المرحلة الجديدة، التي على ما يبدو أن مؤسسات النظام السوري وشبكاته، بدأت تغير ملامحها وتحدد توجهاتها الجديدية، ولو بشكل خفي.

المراقب المتابع لن يتوقف ببساطة عند هذا الشعار أو غيره، ويعتبره “كليشيه” انتخابي، ذلك لحساسية هذه المرحلة بالنسبة لمؤسسات النظام، التي تحاول أن تصدّر نفسها للعالم على أنها ليست شكلية.

الأمجاد المسلوبة والحنين
يعود من جديد شعار “إجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” إلى ساحات السياسة العالمية، باستخدام دولة المجر له بعد فوزها برئاسة الاتحاد الأوروبي هذا العام، وبحسب بيان للرئاسة المجرية، فإن شعار المكعب المقدم إلى جانب الشعار الأميركي، مستوحى من “الاختراع المجري المشهور عالمياً ـ مكعب روبيك”، الذي يُحتفل بذكراه الخمسين هذا العام، ويتميز المكعب بالعلم المجري على وجه واحد وعلم الاتحاد الأوروبي على الوجه الآخر.

استخدم رئيس وزراء دولة المجر فيكتور أوربان هذا الشعار في خطابه الافتتاحي في بودابست بعد الفوز، وأيّد فيه إعادة انتخاب ترامب واستخدم الشعار، قائلاً: “إجعل أميركا عظيمة مرة أخرى، واجعل أوروبا عظيمة مرة أخرى”.

وأرسل ترامب رسالة فيديو مسجلة مسبقاً إلى المؤتمر، وصف فيها أوربان بأنه “رجل عظيم”، وأشاد “بالكثير من الوطنيين في المجر، الذين يقاتلون بفخر على الخطوط الأمامية في المعركة، لإنقاذ الحضارة الغربية”.

لم يعد يخفى على أحد أساليب اليمين الغربي للصعود إلى السلطة من جديد، ولا يخفى على أي مراقب أيضاً، نقد حركات اليسار العالمي العنيف، واتهامها بالإساءة إلى الحضارة الغربية.

نذكر جميعاً خطابات جورجيا ميلوني وحملتها الانتخابية قبل فوزها برئاسة مجلس الوزراء في إيطاليا، حين نادت بعودة العائلة الإيطالية التقليدية الملتزمة، وإيقاف أفواج المهاجرين الأجانب، وشهدنا أيضاً صراع اليمين واليسار في الانتخابات الفرنسية، مما دفعني إلى السؤال، هل هناك موجة حنين إلى الأمجاد تحرّك العالم اليوم؟ أم هي فقط حملة كراهية مباشرة وصريحة من الغرب ضد الشرق؟ لكن لم أستطع منع نفسي من إقحام سوريا في هذه المعادلة، وسألت: ما هي الأمجاد التي قد يحنّ إليها الساسة السوريون أمثال قبنض؟ وأين هم من موجة الحنين في غياب ممارسة سياسة حقيقية وموقف واضح لسوريا من اليسار واليمين؟

ادّعت الحكومة السورية يساريتها لعقود، بحجة محاربة إسرائيل وسياسات الغرب الرأسمالية، إلا أنها في الممارسة تقع في أقصى يمين الاقتصاد وأقصى يمين التحفظ والسلطوية، ومن الصعب أن تلاحق تحركات اليسار السوري اليوم، في غياب التمثيل الحقيقي له، وغياب التنظيم الذي يجمع الناشطين والأحزاب والحراكات السورية المتناثرة حول العالم، والمختبئة في الداخل السوري.

كون سوريا اليوم مقيدة بعقود مع إيران وروسيا وميليشياتهما، وزادت قيودها مؤخراً نزولاً عند مطالب دول عربية على رأسها السعودية، قد نفهم حنين قبنض وأمثاله من أمراء الحرب، إلى أمجاد السيادة الأسدية التي كانت تؤمّن لانتهاكاته الشرعية المطلقة والحماية، وعلى ما يبدو أن الأمور هذه المرة لن تعود إلى ما كانت عليه بالنسبة لأعوان النظام، فالتغيرات التي تحصل في الساحة السورية غريبة ولا يمكن التنبؤ بها، من مرض السيدة الأولى (أسماء الأسد) إلى مقتل السيدة الثانية (لونا الشبل) وصولاً إلى أصغر مواطن سوري بدأ يمعن النظر في الانتخابات ويراقب الأحداث بانتظار التغيير.

قبنض والساسة الغربيون
قلت لنفسي بعد التفكير: يا سيدي إذا أردنا ألا نظلم السيد قبنض، المنحدر من حلب، والمقرب من النظام، الذي لا يملك حتى مؤهلات عضوية مجلس الشعب، ومع ذلك يترشّح عن دائرة ريف دمشق بتزكية من بعض الأفرع الأمنية، ولنفترض أنه يطمح بالفعل إلى سوريا عظيمة كما كانت، دعنا نسأل فقط: عن أية سوريا عظيمة يتحدث؟ عن سوريا حافظ الأسد والحركة التصحيحية؟ أم عن سوريا خلايا الأمن والاستخبارات؟ عن سوريا الأسد التي جعلته يمثل الشعب، بينما هو لا يمثل سوى مافيا تبتز الفقراء ليهتفوا لبشار؟.

أثناء قراءتي عن تاريخ قبنض الحافل المشرّف ما بين سجن حلب وبريطانيا ومجلس الشعب، شعرت بالإشمئزاز من أن هذا الرجل هو ممثلي أمام ما يُدعى دولة، تذكّرت أنه حين كنا مراهقين كانوا يقولون لنا: هم يفهمون في السياسة لإسكاتنا، لكن كيف يصدق العقل أن هذا الرجل يفهم في السياسة؟ ما نوع السياسة التي كان يتحدث عنها الكبار وقتها؟ حينها أقسمت أنني أكثر فهماً في السياسة منه، بل وربما أكثر من بشار الأسد نفسه، فضحكوا كثيراً، ذلك أن السوريين يتناقلون في مجالسهم أن بشار جاء بديلاً لشقيقه “الشهيد” باسل الذي كان يتم تدريبه من قبل الأسد الأب لتولي منصب الرئاسة.

وفي تمعّني العميق في صور قبنض ومقابلاته، استنتجت أنه يشبه دونالد ترامب! فهو بالفعل فظّ المظهر ثقيل الكلام غليظ اللسان مثله، وهو مثله تاجر، ترامب يتاجر بالشعارات والشتائم، وقبنض بقصص الناس في المسلسلات.

استوقفتني هذه الفكرة وشردت، شردت في كل ما يحدث حولنا من صراعات ونزاعات، تديرها حفنة من المتطرفين والإرهابيين والداعمين للإبادة والطامعين بثروات الأرض، ومن يدعون أنهم يفهمون في السياسة! في هذه المرحلة التي يتصارع فيها ترامب العنصري الفظّ مع بايدن العجوز للفوز بحكم القطب الأعظم في العالم والتحكم بمصير شعوب الكوكب كلهم، وكلاهما لا يصلح لهكذا موقع!

أما قبنض، فهو الآخر يمثل في مسلسل من إنتاج عائلة الأسد، التي لعبت بمصير السوريين لخمسين عاماً من دون توقف، وغداً سيعود ليحتل مقعداً في مجلس الشعب مع آخرين مثله يدّعون تمثيل الشعب.

وهنا بدأت قليلاً أفهم لماذا يرقص الناس في الانتخابات، لأنه كما يقال: “إذا ربعك جنّوا، عقلك ما بينفعك”، وهكذا ستمر الانتخابات العالمية، وقد يمر العديد منها، قبل أن تستطيع الشعوب الأسيرة يداً بيد مع الشعوب التي تظنّ نفسها حرة، الحصول بالفعل على حق تقرير المصير، وقد لا يحن أحد إلى زمن الإقصاء والتطرّف، ولنأمل أن تنتهي موجة نوستالجيا اليمين العالمية هذه من دون حرب طاحنة!