تنتقل إسرائيل في حروبها من سياسة فشلت إلى سياسة يصعب أن تنجح. الأولى عنوانها “جز العشب”، مارستها في لبنان ضد منطمة التحرير ” على مدى سنوات قبل أن تجتاح الوطن الصغير وتصر على إخراج الفصائل المسلحة منه، وفي طليعتها حركة “فتح”. ومارستها أيضاً ضد “حزب الله” الذي قاد “مقاومة إسلامية” ضد الاحتلال الإسرائيلي ومارستها في خمس حروب ضد حركة “حماس” في غزة منذ عام 2005، لكن العشب يعود إلى النمو بعد الجز، “منظمة التحرير” ركزت على العمل داخل فلسطين المحتلة بعدما صارت الجبهات الخارجية مسدودة أمامها. كانت “انتفاضة الحجارة” حدثاً مهماً قاد حكومة إسرائيل إلى “اتفاق أوسلو” وتبادل الاعتراف مع منظمة التحرير. وتمكن “حزب الله” من خلال قتال خاضه بمواجهة الجيش الإسرائيلي من دفعه إلى الخروج من الجنوب اللبناني في عام 2000 بلا قيد ولا شرط ولا اتفاق، حيث أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها إيهود باراك أنه ينفذ القرار الدولي رقم 425 الذي رفضت إسرائيل تنفيذه على مدى ثلث قرن. لا، بل إن “حزب الله” خاض قتالاً واسعاً مع القوات الإسرائيلية وأفشل خططها في حرب عام 2006 التي انتهت بالقرار الدولي رقم 1701 وتعزيز القوات الدولية في جنوب لبنان التي سميت الـ”يونيفيل”. وهو يقوم اليوم بعمليات مضبوطة ضد القوات الإسرائيلية في الجليل ومزارع شبعا وتلال كفرشوبا دعماً لحركة “حماس ” في حرب غزة.
وسياسة إسرائيل الثانية عنوانها “قلع العشب”. وهي تحاول ذلك في حرب غزة رافعة شعار “القضاء على حماس”، لكن الحرب الدائرة بكل الأسلحة المتطورة براً وبحراً وجواً تتعثر أمام مقاومة حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. فلا تهجير أهل غزة من القطاع ممكن، ولا القضاء على “حماس” ممكن بعدما كانت سياسة نتنياهو قبل عملية “طوفان الأقصى” هي الحفاظ على “حماس” لإبقاء “حل الدولتين” خارج الطاولة. الممكن هو تحويل حرب غزة إلى فرصة تفتح “الأفق السياسي للتسوية على أساس حل الدولتين”، وهذا ما تدعو إليه أميركا والصين وروسيا وأوروبا والدول العربية. وقال وزير الخارجية الصيني وانغ يي إن بلاده تؤيد “عقد مؤتمر دولي واسع النطاق يتمتع بصلاحيات وفاعلية أكبر في أقرب وقت ممكن لإعادة القضية الفلسطينية إلى مسار حل الدولتين”.
لكن عقد المؤتمر الدولي ليس سهلاً في ظروف الانقسام الدولي البارز حول حرب أوكرانيا، بصرف النظر عن رغبة الرئيس جو بايدن في رؤية مفاوضات إسرائيلية مع السلطة الوطنية الفلسطينية، ودعوة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى “مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية”. والمشكلة في رأي صحيفة الـ”إيكونوميست” البريطانية هي كون “الحاجة إلى سلام لا يمكن تحقيقها ما دامت (حماس) تحكم غزة”. كذلك الأمر مع بقاء نتنياهو في قيادة السلطة. وإذا كانت الانتخابات النيابية في إسرائيل تقود إلى خسارة نتنياهو، فإن حرب غزة لن تؤدي إلى القضاء على “حماس” ويستحيل القضاء على الشعب الفلسطيني الذي لا ينسى أي فرد فيه قضية بلاده، والقادر على حماية “حماس” وخلق أكثر من “حماس”، فضلاً عن أن الفظائع الوحشية التي ترتكبها القوات الإسرائيلية في غزة أحدثت زلزالاً شعبياً في عواصم العالم وجامعاته ودفعت إلى الشوارع جيلاً جديداً متعاطفاً مع قضية فلسطين ورافضاً للتطرف اليميني الديني والعلماني في إسرائيل، وناقماً على سياسة “التمييز العنصري” واستمرار الاحتلال الإسرائيلي للشعب الفلسطيني في القرن الـ21. حتى البيت الأبيض الذي دعم إسرائيل بكل شيء، فإنه صار يعترف ببدء “تآكل الدعم” للدولة العبرية وحربها التي تجاوزت كل الخطوط الحمر في “الدفاع عن النفس”.
الواقع أن إسرائيل و”حماس” في ورطة، لكن “حماس” قادرة على الخروج منها، مهما يكن حجم الدمار والقتل على يد القوات الإسرائيلية. وليس من السهل على إسرائيل الخروج من الورطة من دون دفع ثمن استراتيجي في السياسة والجغرافيا.