شكلت الإطلالة التلفزيونية للأمين العام لـ”حزب الله” نصرالله في الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي منعطفاً مهماً في مسار الصراع الدائر في غزة، الذي ألقى بظلاله على منطقة الشرق الأوسط في الشهر الماضي. فمنذ شنت حركة “حماس” هجومها الدامي على غلاف غزة في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، وحتى عشية خطاب نصرالله، خيم شبح التصعيد على المنطقة برمتها، مهدداً بانطلاق شرارة الحرب في أي لحظة. كان الترقب سيد الموقف قبيل ظهور نصرالله التلفزيوني لإعلان موقف حزبه وقراره تجاه الانخراط في المعركة، وهو قرار كفيل بتغيير مآل هذا الصراع: فإما تكتفي إسرائيل بتدمير القطاع، أو يتحول الصراع إلى حرب شاملة بين إيران ووكلائها من جهة والجيش الإسرائيلي (والولايات المتحدة كما يفترض) من جهة أخر
ولكن حتى نبرة التهديد والوعيد التي استخدمها نصرالله كاستعراض قوة أيديولوجي لم تخف نيته خفض التصعيد. فعلى رغم إعلانه الدعم الكامل لهجمات السابع من أكتوبر، فإنه حرص على تأكيد أن عملية “طوفان الأقصى” كانت فلسطينية 100 في المئة، في إشارة واضحة إلى أن “حزب الله” وإيران من خلفه لا علاقة لهما بالصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الدائر في غزة. ورداً على التساؤلات بشأن انضمام “حزب الله” إلى الحرب، دافع الأمين العام لـ”حزب الله” عن نفسه بإعلانه أن حزبه قد انخرط في الحرب بالفعل، إذ قصف مواقع إسرائيلية عدة في منطقة مزارع شبعا المتنازع عليها، مشيراً إلى أن هذه المناوشات الحدودية قد تبدو متواضعة نسبياً ولكن لا يجب التقليل من أهميتها وأثرها. وكان هذا التشديد على عدم انخراط “حزب الله” خارج إطار الاشتباكات الدائرة على الجبهة الحدودية جنوب لبنان بمثابة إعلان خروجه من المشهد، بحجة أن الحرب في غزة شأن محلي صرف لا يخص “حزب الله” أو عرابه الإيراني.
وسرعان ما ترجمت الرسائل التي تضمنها خطاب نصرالله إلى واقع على الأرض. فالأيام التي تلت الخطاب اتسمت بهدوء نسبي مقارنة بالهجمات الكثيفة التي كانت تشنها المجموعات المدعومة من إيران من الأراضي اللبنانية أو العراقية أو اليمنية في الأيام التي سبقت الخطاب، مما يؤكد أن نصرالله لم يكن يتحدث باسم “حزب الله” فحسب، بل أيضاً باسم راعيه في طهران.
قد يكون خفض التصعيد من قبل نصرالله مؤشراً إلى أن هجمات “حماس” في السابع من أكتوبر وردود إسرائيل في غزة لن تؤول في نهاية المطاف سوى إلى جمود استراتيجي، يكون فيه لكل من الطرفين فائدة موقتة في الأقل تتيح له الاستفادة من انتصاراته وتقبل خسائره.
كبش المحرقة
فمن جهة، أتاحت هجمات السابع من أكتوبر وما تلاها لإيران ووكلائها فرصة تعزيز سيطرتهم وقدرتهم على التصعيد في كل أنحاء المنطقة، من العراق إلى سوريا واليمن، وحتى في إيران نفسها. وكبش المحرقة هنا كانت “حماس”، فالحركة التي يحسب لعديدها وعتادها الحساب يرجح أن تقتلع من جذورها أو تسحق قوتها في غزة، من دون أن تحقق أي هدف استراتيجي مهم. فكأن نصرالله في خطابه عرض أمام أعين الجميع شهادة وفاة “حماس” – شهادة وقعها بنفسه وختمتها إيران.
من جهة أخرى، تشوهت صورة إسرائيل كقوة رادعة جبارة (وهي صورة كثيراً ما تباهت بها)، أولاً بفعل هجمات السابع من أكتوبر نفسها، ثم بعدم قدرتها، ولو ظاهرياً، على الرد على إيران المعروفة بتمويلها وتسليحها وتدريبها لمقاتلي الحركة التي شنت تلك الهجمات. ولكن إسرائيل أيضاً حققت في المقابل ميزة استراتيجية، فهي ستتمكن أخيراً من “القضاء” على “حماس”، نظراً إلى انخفاض الكلفة الإقليمية التي قد تتكبدها لتدمير الجماعة الإرهابية المدعومة من إيران. وهكذا، تحرم إسرائيل الإيرانيين من أحد أهم الأذرع التي يمكنهم استخدامها ضدها في أي صراعات مستقبلية محتملة.
قوة الردع الأميركية تضررت هي الأخرى بشكل كبير، فإيران وظفت أحد وكلائها لسفك دماء أحد أبرز حلفاء الولايات المتحدة، وضربت كذلك مجموعة من القواعد العسكرية الأميركية في هجمات مباشرة نتج عنها عشرات الجرحى في صفوف الجنود الأميركيين، وكل ذلك من دون أي رد عسكري مهم. ولكن يبدو أن تعاطي الدبلوماسية الأميركية البارع مع الأطراف الإقليميين وإبقاء الرد الإسرائيلي تحت السيطرة سمح للولايات المتحدة تجنب الانجرار إلى حرب إقليمية والدخول في دوامات التصعيد اللامتناهية. لقد برهنت واشنطن، أقله على المدى المنظور، عن حنكة سياسية مسؤولة تخولها تحقيق أهدافها المعلنة.
اتضحت إذاً ملامح المرحلة الثانية من الصراع، التي تمثلت حتى الآن باستمرار إسرائيل في هجومها على قطاع غزة. أما المرحلة الثالثة، فسترسم ملامحها عوامل عدة، منها كيفية تعامل إسرائيل مع الخسائر البشرية في صفوف المدنيين جراء حملتها العسكرية، والتي ستحدد مع غيرها من العوامل أي من الطرفين سيكون قادراً على تحويل انتصاراته وخسائره الموقتة إلى نجاحات استراتيجية طويلة الأمد.
مساران لا ثالث لهما
سبق أن كتبت في مقال لصحيفة “واشنطن بوست” في التاسع من أكتوبر أن الحرب الدائرة بين إسرائيل و”حماس” تضع المنطقة أمام مسارين لا ثالث لهما للمضي قدماً: مسار تفضله إيران، ويقوم على إزالة إسرائيل من الخريطة عبر شبكة من الجماعات الإرهابية التي تسعى إلى تقويض النظام الإقليمي والدول القائمة فيه، ومسار تسعى إليه السعودية ويقوم على الاستفادة من نفوذ المملكة الدبلوماسي وقدرتها على الجمع بين الأطراف الإقليميين للعمل على تحقيق السلام الدائم في المنطقة بدلاً من تركها رهينة الأحقاد المتوارثة وأخطاء الماضي.
ولكن أياً من هذين المسارين يبقى مشروطاً بخيارات الأطراف الإقليميين الآخرين – والولايات المتحدة أيضاً – في التعامل معهما.
فلنأخذ على سبيل المثال التقارير الأخيرة التي أفادت بأن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يدرس إمكانية إعلان “هدنة إنسانية” موقتة نتيجة ضغط أميركي على الأرجح، رداً على الهجمات الإيرانية الأخيرة على القواعد العسكرية الأميركية، وانطلاقاً من رغبة واشنطن في تحرير الرهائن الأميركيين في غزة. قد يكون إعلان نتنياهو وقف إطلاق النار خطوة حكيمة، أو في الأقل ضرورية، ولكن تصويرها على أنها تراجع في وجه التصعيد الإيراني بدلاً من تقدم نحو مسار السلام السعودي يدل على غياب البراعة السياسية. فعبر إعطاء الزخم للعدو بدلاً من دعم صديق محتمل، يحول الإسرائيليون هذه الخطوة الضرورية من إنجاز محتمل إلى إخفاق مؤكد.
مع دخول حرب غزة مراحلها الأخيرة ميدانياً، يجب على إسرائيل والولايات المتحدة والأطراف الإقليميين الآخرين، بما في ذلك السعودية، التصرف بحكمة وبعين على المستقبل إن أرادوا المحافظة على المزايا الاستراتيجية التي اكتسبوها وتبرير الثمن الباهظ الذي دفعوه ودفعته معهم شعوب المنطقة.
السعودية أعلنت موقفها بصراحة: هي مع السلام، ومع إنشاء نظام أمن وسلام دائم في المنطقة يحمي شعوبها ويرسي أسس النمو والازدهار الاقتصادي المستدام. وبنسفه محادثات السلام السعودية – الإسرائيلية – الأميركية من خلال تصرفاته في السابع من أكتوبر، أعلن محور الحرب موقفه بصراحة أيضاً.
ومن ثم أصبح بإمكان صناع القرار الإقليميين اليوم إعلان مصالحهم المشتركة بصراحة، عبر تأطير وتنسيق أفعالهم ضمن سياق أحد المحورين المضادين اللذين برزا في أعقاب السابع من أكتوبر: محور يدعم السلام ويرفض الحرب العالمية الثالثة، بقيادة دول تؤمن بالنظام العالمي القائم والمستند إلى قواعد معروفة، ومحور متعطش لحرب عالمية ثالثة، يضم أعداء السلام المستعدين على ما يبدو للاستمرار في تكريس أحقاد الماضي وبشاعته مهما كلف الثمن.
مبادرة السلام العربية
بطبيعة الحال، لا مبرر لوجود محور إقليمي داعم للسلام إن لم توجد عملية سلام حقيقية أصلاً، مما يقتضي عملياً أن تعترف إسرائيل بمبادرة السلام العربية التي أطلقتها السعودية منذ 20 عاماً كنقطة انطلاق موثوقة للمفاوضات. وبالطبع، لا يمكن فهم تلك المبادرة بشكل كامل من دون وضعها في سياقها الزمني، ولكنها مع ذلك تبقى وثيقة السلام الوحيدة الموقعة من جميع الدول العربية، وهي تشكل إذاً نقطة فريدة وضرورية يمكن أن تنطلق منها أي توافقات إقليمية أوسع نطاقاً.
تؤكد مبادرة السلام العربية إمكانية حشد الدول العربية والشارع العربي خلف محور إقليمي داعم للسلام والتنمية ما دام يوجد إطار عمل موثوق للمفاوضات في شأن المسألة الفلسطينية، التي دائماً ما يحاول محور الحرب المعادي للغرب التعتيم عليها عبر تظهير معركته كنضال لنصرة القضية الفلسطينية والدفاع عنها بوجه الاستعمارية الإسرائيلية. ولكن الزمن ولى على هذه التسميات والتصنيفات الصارمة، فعديد من دول أوروبا والشرق الأوسط وكذلك الولايات المتحدة لم تعد تندرج اليوم تحت هذا التصنيف أو ذاك.
لا يمكن تجاهل واقع أن المنطقة منقسمة اليوم ما بين محوري السلام والحرب. وإذا اختارت إسرائيل السير باتجاه مبادرة السلام العربية، فستتمكن من البناء على التقدم الدبلوماسي الذي أحرزته أخيراً مع الدول الخليجية وقلب هذا الصراع رأساً على عقب بعد أن طبع المنطقة ووجود إسرائيل نفسه لعقود.
أما أميركا، فهي أيضاً أمام خيار حاسم في المنطقة. فعبر تمويل إيران وتسهيل طريقها نحو النووي، أسهمت أميركا في زعزعة الاستقرار ليس في إسرائيل فحسب، بل في دول عديدة أيضاً من اليمن إلى العراق مروراً بلبنان، وحتى في الدول الخليجية. فبعد أحداث السابع من أكتوبر يبدو أن المنطقة لن تستطيع تقبل أو تحمل هجمات مشابهة من وكلاء إيران في المنطقة، سواء استهدفت هذه الهجمات إسرائيل أو غيرها من الدول التي تراها إيران ووكلاؤها كعدوة أو خصمة. ومن المؤكد أن أي هجمات تنفذ في ظل حصانة قوة نووية لا يمكن أن تسهم في مساعي إحلال السلام في المنطقة.
لقد برهنت استراتيجية “التوازن” الإقليمية التي اعتمدها باراك أوباما عن كفاءتها، ولكنها لم تعد صالحة بعد اليوم. فقد حان الوقت لوضع حد للميل الأميركي لإيجاد “توازن” بين حاجات الحلفاء ورغبات الأعداء في محاولة لدرء كارثة دموية في الإقليم. ففي حال فشل محور السلام ستعود دوامة التصعيد الدامي سريعاً لتضعنا من جديد على مشارف حرب إقليمية، أو حتى عالمية.
في نهاية خطابه، قال نصرالله: “معركتنا لم تصل إلى مرحلة الانتصار بالضربة القاضية. ما زلنا نحتاج إلى وقت، حتى نكون واقعيين. ولكننا ننتصر بالنقاط. ننتصر ونغلب بالنقاط”.
قد يربح محور الحرب هذه الجولة بالنقاط وقد لا يربح، ولكن المؤكد أن الوقت قد حان لتقرر إسرائيل وأميركا خطوتهما المقبلة: فإما الاستمرار في خدمة أعداء السلام، أو سلوك مسار السلام السعودي وتوجيه ضربة قاضية لمصلحة التقدم والاستقرار في المنطقة.