فارس خشان
تختلف ظروف إطلالة الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصر الله، اليوم السبت، عن تلك التي سبق أن أطّل في ظلّها، يوم الجمعة الواقع فيه الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري، إذ إنّ ما كان مرتجى من الحركة الدبلوماسيّة الكثيفة قد انتهى إلى نتائج مخيّبة لآمال “محور المقاومة”.
في ذاك اليوم، كان العمل جارياً على كل المستويات، من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزّة، من أجل صون حياة المدنيّين الذين يتعرّضون لمجزرة مرعبة، ولكنّ هذا الهدف لم يتحقق، إذ إنّ المفاوضات التي جرت في الدوحة وضمّت الطرف القطري مع المخابرات المركزية الأميركية والموساد الإسرائيلي، انتهت إلى التوصل إلى اتفاق على “هدنة إنسانيّة يوميّة” في شمال غزّة.
أثار هذا الاتفاق غضب “محور المقاومة”، إذ اعتبره ضوءاً أخضر للجيش الإسرائيلي من أجل أن يُكمل ما بدأه، من جهة أولى، وتحريضاً للمدنيّين على إخلاء منازلهم ومآويهم وترك مقاتلي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” من دون حماية مدنيّة، من جهة ثانية، وتخفيف ضغط الرأي العام العالمي الغاضب من إسرائيل والولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها من الدول الحليفة للكيان العبري، من جهة ثالثة.
وتفيد التقارير الاستخباراتيّة بأنّ الجيش الإسرائيلي مرتاح إلى مسار عملياته داخل قطاع غزّة، وهو يُنجز أهدافه المرحليّة بخسائر لا تزال حتى تاريخه أقلّ ممّا كان متوقعاً، على الرغم من دخوله إلى نقاط صعبة في وسط مدينة غزّة، كما أنّه نجح في توحيد القوى السياسيّة المتناحرة حوله، الأمر الذي حرّره من ضغوط كثيرة تتقدّمها، بطبيعة الحال، ضغوط المستويات الاقتصاديّة في البلاد وضغوط الحرص على سلامة الرهائن الذين تأسرهم “حماس” منذ السابع من تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي.
وعلى الرغم من الإطلالات شبه اليوميّة للناطق باسم “كتائب القسّام” أبو عبيدة، فإنّها تركّز على الخسائر التي تُلحق بالقوات الإسرائيليّة المتوغلة داخل قطاع غزة، من دون أن تصل إلى مستوى نفي صحة الكثير من الوقائع التي يُعلن عنها، على مدار الساعة، الناطقون باسم الجيش الإسرائيلي.
وكان نصر الله، في إطلالته السابقة التي أعقبت صمتاً استمر أكثر من أربعة أسابيع منذ عملية “طوفان الأقصى”، قد تحدّث من منطلق أنّ مقاتلي “حماس” هم في وضعية التفوّق الميداني، وهو في وضعية المنتظر لصدور قرار يقضي بوقف إطلاق النار.
لكنّ إطلالته اليوم ستأتي في ظل معطيات مختلفة، فلا وقف إطلاق النار حصل ولا “حماس” مرتاحة إلى مستوى الضغوط الميدانيّة التي تتعرّض لها، في ظل نزوح كبير للسكان المدنيّين.
والأهم من ذلك أنّ إطلالة نصر الله السابقة أتت متناغمة مع “التهدئة الدبلوماسيّة” التي اعتمدتها إيران، بحيث حاولت أن تهدد بـ”أصابع” تنظيمات “محور المقاومة” التي “على الزناد”، حتى تحقق أهدافها، أي وقف إطلاق النار وفتح مفاوضات لإطلاق الرهائن، واحتلال موقع مهم في دائرة المفاوضات. وقد أتت مواقف نصر الله متناغمة كليّاً مع هذا النهج الدبلوماسي الإيراني.
لكنّ إطلالة نصر الله اليوم تأتي في ظروف مختلفة، فإيران، في ضوء طبيعة “الهدنة الإنسانيّة” التي توصلت إليها اجتماعات قطر المخابراتيّة، صعّدت موقفها إلى مستوى إعلان وزير خارجيّتها حسين أمير عبد اللهيان، مساء الخميس الماضي، أن “توسيع نطاق الحرب الآن أصبح أمراً حتميّاً”.
وإذا ما اعتمد المحلّلون على مقياس التناغم الدائم، في كثير من المحطات الأساسيّة السابقة بين مواقف نصر الله ومواقف القيادة الإيرانيّة، فهذا يعني أنّ الأمين العام لـ”حزب الله” سوف يذهب، في إطلالته اليوم، إلى مستويات أكثر حدّة من المستويات التي اعتمدها في إطلالته السابقة.
في الواقع، إنّ إطلالة نصر الله السابقة لم تكتسب أهميّتها الشعبيّة والسياسيّة من المعطيات الواقعيّة، بل من التمهيد لها، من خلال “بروباغندا” تشويقيّة، فيما إطلالته اليوم، على الرغم من الخمود “الدعائي”، هي المهمّة، إذ إنّها سترسم فعلاً، في ظل رفع مستوى التوتر على كل جبهات “محور المقاومة”، حدود التصعيد الإيراني، فهل هو مجرّد تهديد لإبقاء شعلة المفاوضات متقدة؟ أم هو وعد لحركة “حماس” بتفعيل “وحدة الساحات” حتى تساعدها على مزيد من الصمود؟ أم هو تمهيد حقيقي لتوسيع الحرب من أجل أن تحتل إيران مقعداً على طاولة مفاوضات لا يبدو أنّها تمكنت بعد من الجلوس إليها؟
من المؤكد حتى الساعة أنّ “محور المقاومة” يمكنه أن يتحمّل كل أنواع الكوارث، ولكنّه لن يغامر بترك ملامح أيّ هزيمة، بغض النظر عن حجمها، من فرض نفسها على الرأي العام بداية وعلى الدول العربيّة التي يهاجمها، ثانية!
ولكنّ هذا لا يعني أن الحرب ستتوسّع حتماً الآن. عملياً، يلاحظ المراقبون، بوضوح، التصعيد التدريجي في حجم المواجهات العسكرية على الحدود اللبنانية، والتي يمكن أن تزادد كلما هبّت الرياح بما لا تشتهي سفن “محور المقاومة” في غزّة.
إذا أثبت نصر الله هذا التوجه الحربي، في خطابه اليوم، فإنّ المشكلة تكمن في أن توافق الحكومة الإسرائيليّة هؤلاء الذين يدعونها إلى التخلّص “وقائيّاً” من الخطر المحدق بها من شمالها وتضرب “حزب الله” قبل أن يختار هو التوقيت الذي يناسبه لضربها، وهي المرفقة حالياً على أوضاعها نسبيّاً، إذ لم يدخل من جيشها إلى قطاع غزّة، في هذه المرحلة، سوى ثلاثين ألف عسكري.