وقت ظهور هذه الكلمات تكون الرياض قد جمعت شمل العالم العربي، في قمة استثنائية غير اعتيادية، وبما يتوافق مع الحدث الجلل الذي تجري به المقادير في غزة.
لم تضع الجهود العربية طوال الشهر المنصرم سدى؛ فقد نجح العرب في إنشاء قاعدة دبلوماسية مكّنت من التواصل الفاعل مع الأطراف الدولية والإقليمية؛ الأمر الذي أدى إلى تغير في المشهد العام تجاه أزمة غزة.
اليوم، تنطلق القمة، وفي الطريق لتحقيق أهدافها مساران، الأول تكتيكي، والآخر استراتيجي.
يبدو الهدف التكتيكي متمثلاً في العمل السريع على وقف النزف الإنساني الحادث على أرض قطاع غزة، وهو ما لا يُقبَل عقلاً أو عدلاً، من العرب أو العجم، بل مِن كل مَن لديه ذرة من التعاطف الوجداني مع جنس البشر، والصورة هناك خير من ألف كلمة.
وفي السياق نفسه، تبقى هناك حاجة عاجلة إلى إرسال الوقود، والمساعدات الغذائية والطبية، والإسراع بمداواة الجرحى، وتفعيل دخول العون والمدد من المعابر.
على أن الهدف الاستراتيجي يتمثل ورغم الظروف الصعبة الحادثة على الأرض، في وضع إسرائيل أمام العالم، عبر التأكيد العربي – العربي، على إحياء مسار التسوية النهائية، وذلك من خلال الإقرار بحل الدولتين كهدف استراتيجي نهائي.
هنا يتساءل البعض: وهل يجوز الحديث عن السلام وسط بحور الدم الفلسطيني؟
للذين يتساءلون في الحق ألف حق، أن يستنكروا أو يستهجنوا الطرح، لكن الحقيقة المؤكدة هي أن الأحداث الجِسام، هي القادرة على تحريك المياه الراكدة في أجواء السياسة الدولية، فعلى سبيل المثال، كانت حرب أكتوبر (تشرين الأول) من عام 1973، وحلحلة الصراع المصري – الإسرائيلي، بداية طريق السلام والتوصل إلى اتفاقية كامب ديفيد.
من هذا المنطلق، ربما يتوجب على القمة العربية في الرياض، أن تبعث لا إلى إسرائيل فحسب، بل إلى العالم كله، وفي مقدمه الولايات المتحدة، الراعي الرسمي في الحال والاستقبال للدولة العبرية، برسالة مفادها أن الارتكان إلى القوة العسكرية أمر غير مأمون العواقب، سيما في ضوء تغير التقنيات التكنولوجية وتسارع وتيرتها، وتبدل الاستراتيجيات العسكرية، وظهور المثير والخطير منها، على المستويين الإقليمي والعالمي؛ ما يعني أن فكرة البقاء مرة وإلى الأبد في ظل النار والدمار، باتت فكرة تهدد دولة إسرائيل، ما دام الرحمُ الفلسطيني قائماً وقادماً.
الرسالة في الوجه الآخر من العملة يتوجب أن توضّح للإسرائيليين قبل أي شعب آخر حول العالم، بأن السلام مشروط بحق الفلسطينيين في دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
هل يتوجب على قادة العرب في الرياض تذكير العالم بمبادرة السلام العربية التي طرحها الملك عبد الله بن عبد العزيز – يرحمه الله، في القمة العربية عام 2002؟
تبدو إسرائيل هذه المرة، وعبر عِقدين من الزمن، دولة الفرص الضائعة، وللمرء أن يتخيل كيف كان للوضع أن يتغير عربياً وشرق أوسطياً، لو قبلت إسرائيل وقتها بإنشاء دولة فلسطينية، والانسحاب من الجولان المحتل، وعودة اللاجئين.
من الرياض، يتحتم أن تتوحد كلمة العرب تجاه المواقف المصيرية، وفي سلمها رفض كل سيناريوهات تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، والتنبه الكامل والشامل للطروحات الماورائية كافة، الهادفة إلى إفراغ قطاع غزة، وربما لاحقاً الضفة الغربية من سكانها الذين عاشوا على أراضيها آلاف السنين.
وبالقدر نفسه، ينبغي مساءلة جميع الخطط التي تتبلور في الغرف المغلقة تجاه مستقبل قطاع غزة، بعد نهاية الأعمال العسكرية الجارية هناك.
هنا، تبقى المصارحة واضحة، والمكاشفة مصيرية، سيما في مواجهة كل الأفكار التي تتناول مستقبل القطاع بعد «حماس»، ويغيب عن المبتكرين للسيناريوهات غير الخلاقة، أن «حماس» فكرة آيديولوجية، قد تكون مسكونة بالكثير من الأخطاء الاستراتيجية، غير أن السبب الرئيسي في الصراع هو الاحتلال.
نعم، قد تضمحل «حماس» وتتبخر بفعل النيران الإسرائيلية، لكن هذا لا يعني القبول بعودة الاحتلال من جديد، وهو الطرح الذي تتحدث عنه حكومة نتنياهو والقول بالبقاء هناك لضمان الأمن طوال فترات غير محددة زمنياً.
ومن جانب آخر، فإن التفكير في قيام قوات من «الناتو»، أو تسليم القطاع للأمم المتحدة، أمر يعمّق الأزمة في نفوس الأجيال الفلسطينية، ويخلق دونما أدنى شك، عشرات من الجماعات المقاومة بالسلاح، ما دامت الحقوق ضائعة والعدالة منزوية.
ليس سراً أن هناك مشاعر تداعب المخيلة العربية، لا سيما الجماهيرية، تجاه السيناريوهات التي تجري بها النوازل، وهل نحن بالفعل أمام إرهاصات «سايكس بيكو» جديدة، وعودة من الشباك للأفكار التي تم طردها من الباب، بعد نحو عقد أو أزيد قليلاً من زمن الربيع العربي المغشوش، وفي ذهن المرء أن أصحاب الاستراتيجيات الكبرى، قد تعترضهم التضاريس الجغرافية تارة، والديموغرافية تارة أخرى، غير أن الأهداف الكبرى، تبقى ماثلة أمام أعينهم؛ الأمر الذي يتطلب حذراً وحرصاً بالغين، سيما في ضوء الحشود العسكرية التي لا تواري ولا تداري نواياها صباح مساء كل يوم من حولنا.
أمر مهم للغاية بدوره، ينبغي وضعه في الحسبان من قِبل سادة العرب المجتمعين على أرض المملكة العربية السعودية، ويتصل بضرورة التعاطي مع العالم خارج الدوائر الحكومية التقليدية، والتي تبدو وكأنها تعيش حالة من الأسر التاريخي غير قادرة على مغادرته، وربما غير راغبة.
المطلوب هو التواصل مع الجماهير والشعوب، وفي الحق يلحظ المرء تغيراً واسعاً في الأوساط الأكاديمية النخبوية، وفي الأوساط الشعبوية الأوروبية والأميركية، وحتى المراكز الدينية المتقدمة، كما الحال مع حاضرة الفاتيكان، سيما في ظل وجود حَبر أعظم صديق للعرب وللمسلمين بشكل غير مسبوق، عطفاً على وسائل الإعلام التقليدية، والمحدثة كوسائط التواصل الاجتماعي.
هذه حواضن قوة، عند لحظة زمنية بعينها يمكنها أن تكون تضحى قوة تأثير فاعلة؛ الأمر الذي يقتضي وجود أكثر من خريطة طريق لأفكار الابتكار وعرض القضية الفلسطينية بما يليق بعدالتها.
وأخيراً، فإنَّ المطلوب عربياً إظهار إنسانية الشأن الفلسطيني خارج كل التصنيفات العرقية والدوغمائية، ومخاطبة صناع السلام لا الحرب حول العالم.