بعد مرور أقل من أسبوعين على الحرب الإسرائيلية على غزة، اقتحم متظاهرون يهود مبنى الكونغرس للتنديد بها والمطالبة بوقفها، ويمكن القول أن هذه المظاهرة من ضمن أحداث ساهمت في تغيير ما كان مهيمناً على الرأي العام، وكذلك على مجمل الخطابات الرسمية الغربية إثر صدمة هجوم حماس. لقد شجّعت المظاهرات اليهودية، انطلاقاً من الولايات المتحدة كقائدة للغرب، يهوداً وغير يهود في مدن الغرب على الاحتجاج على الثأر الإسرائيلي بلا خوف من أن توجَّه لهم تهمة العداء للسامية. ولو لم تمنع الشرطة الإسرائيلية المظاهرات المعادية للحرب لنزل إلى الساحات يهود يرفضون الحرب، ولو أنهم أقلية ضمن الخارطة السياسية الحالية.
اليهود المناهضون للحرب على غزة بعضهم فقط قد يكون ضد وجود دولة إسرائيل، لكن نسبة كبيرة منهم تدعو إلى السلام على أساس حل الدولتين، ويمكن القول أنه لدى نسبة معتبرة منهم غيرة حقيقية على صورة الدولة اليهودية، ولا تريد “تشويهها” بأمثال نتنياهو وصحبه من متطرفي الحكومة الحالية. ومما لا شكّ فيه أن هؤلاء جميعاً غير متعاطفين مع حماس، ولا يؤيدون عمليتها الأخيرة حتى إذا اعتبرها البعض منهم نتاجاً لواقع غزة البائس.
يُستحسن بالتأكيد رؤية هؤلاء اليهود خارج “الاستعمال” المعتاد على النمط الذي يحتفي بالتعدد كمظهر فحسب، أو على النمط الإعلامي العربي الذي يقتصر معظمه على التهليل من مبدأ: وشهد شاهد من أهله. ما هو أبعد تأثيراً ويمكن ملاحظته بدءاً من يهود أمريكا، بوصفهم أيضاً الكتلة الأكبر لليهود خارج إسرائيل، هو تراجع العصبية اليهودية المؤيدة بالمطلق لإسرائيل وحكوماتها، وهذا سياق متواصل من المرجّح أن يؤثر على إسرائيل وحلفائها.
كمثال على حرب إبادة قريبة، لم تنتهِ بعد، يمكن القول أن السوريين حُرموا من وجود موالين على شاكلة اليهود الذين ينتقدون إسرائيل اليوم، سواء كانوا داخلها أو خارجها، بما أن الأخيرين لهم “حق العودة إليها” والبعض منهم يحمل جنسيتها من دون العيش فيها. نعني بذلك تحديداً عدم وجود موالين “ناطقين” وقفوا ضد حرب الإبادة التي شنّها الأسد على الثائرين عليه، حتى إذا كانوا قلّة لا تُقارن بنسبة شبيحته الداعين إلى مزيد من الوحشية، والمقارنة تتوقف هنا فلا تشمل الشريحة الصامتة من الموالاة سواء كان الصمت ينطوي على الرفض أو على القبول. ولا علاقة لهذه المقارنة باتهام الأسد من قبل بعض المعارضين بالعمالة لإسرائيل على سبيل الشتيمة، والأساس هنا هو المشترك لجهة وجود من يرون الصراع صراع وجود، لذا هو إبادي بطبيعته، أو تهجيري في حال يبدو أرأف من الإبادة.
قبل يومين من عملية طوفان الأقصى ثم الحرب على غزة، هناك حدث سوري بدأ باستهداف حفل تخرّج دفعة من قوات الأسد في الكلية الحربية في حمص، أعقبته غارات لطيران الأسد وحليفه الروسي، والأخير أعلن عن 230 غارة لطيرانه وحده منذ بدأت الهجمة. قُتل في الغارات أطفال ونساء وكبار في السن، ولم يظهر صوت واحد لا غير من أهالي ضحايا الكلية الحربية، أو من أقاربهم حتى، ليقول أن قتل المدنيين الأبرياء ثأراً لضحايا الكلية الحربية مرفوض. لم يصدر حتى صوت واحد من المؤيدين للأسد، وهم كثر في الغرب، لينتقد قتل المدنيين، أو ليعبّر عن أسفه، أو حتى ليعترف بمقتلهم ويقول أن المسؤولية تقع على جبهة النصرة التي تحتمي بهم!
في صيف 2013 وجّهت الممثلة السورية المقيمة في مصر رغدة رسالة إلى بشار الأسد، تقول من ضمنها: “سيدي الرئيس لا نريد بيوتنا بل نريد سوريتنا، لا نريد عقاراتنا بل نريد إنقاذ حضارتنا، لا نريد أنجاساً يبكيهم البعض لأنهم من الشعب السوري، لا نريد خونة بين صفوف الشعب السوري، أسقِطوا الجنسية السورية، علقوا المشانق في الساحات نريد قصف كل منطقة فيها إرهابي، ولو مات آلاف المدنيين، كل من بقي من المدنيين في المناطق تلك، هو حاضن ومتواطىء، لن تنتهي الحروب بدون دم وقتل وتنكيل. يكفي صبراً أحرقوا الأرض بمن فيها لتتعمد سوريا بالدم كي تجتاز أزمتها.. لا تهادنوا مع القتلة ومن احتضنهم! لا ترحموا كل من قدم طعاماً أو ماءً أو ضماداً أو مأوى أو سلاحاً لخنازير الزنا وزعران النكاح وحثالة المتأسلمين.. أما آن للكيماوي أن يستشيط؟!”. ننوّه بأن رغدة من أصل حلبي سُنّي، كي لا يقفز إلى الأذهان التفسير الطائفي بمفرده.
ومن المؤسف أن رسالة رغدة تمثّل على أكمل وجه ما قاله ويقوله موالو الأسد، وهذه الرسالة على سبيل المثال لم تستفزّ نسبة ولو ضئيلة منهم ليزايدوا عليها بالقول ولو كذباً أنهم ضد قتل المدنيين، وأن رئيسهم لا يفعل هذا. وبالطبع سيكون من الشطط القول أن المذكورة لم تواجه المحاكمة في مكان إقامتها لتحريضها على استخدام سلاح محرَّم دولياً بغرض الإبادة، ولم تواجه حتى عقاباً مهنياً من خلال النقابة المعنية أو على نحو غير ممأسس من قبل المنتجين والمخرجين.
بالعودة إلى استهداف الكلية الحربية وما تلاه، كانت هذه بمثابة فرصة جيدة لظهور أصوات موالية تدين الهجوم على الكلية والقصف اللاحق الذي “على الأقل” لم يستثنِ المدنيين. هي فرصة لأن شعبية الأسد لدى مواليه في أدنى مستوى لها منذ وراثته السلطة، بل هناك حالة من النقمة عليه لدى معظم الموالين، ولا مبالغة في القول أن النقمة بدأت تغزو معسكر شبيحته. وكنا بالفعل قبل شهور قد شهدنا تعبيراً عن الاحتجاج من بعض الشبيحة، إلا أنهم سرعان ما تراجعوا عنه مع التأكيد على أن مآخذهم لا تتلاقى أبداً مع “الإرهابيين” الذين ثاروا على الأسد عام 2011، أو الثائرين عليه في السويداء الآن.
بالمقارنة مع المحتجين اليهود على الحرب، نفترض نظرياً أن لا شيء يمنع بعض موالي الأسد من التحلّي بالقليل من الإنسانية تجاه الخصوم، وأن هذا البعض مع احتفاظه بموقفه السياسي لا يجد نفسه مضطراً إلى التماهي المطلق مع ممارسات السلطة، ويرى من واجبه تجاهها أن يحثّها على المحافظة على صورة أفضل لها، لأنها بذلك تراعي أولاً إنسانيته وكرامته. وعلى الصعيد السياسي، كان لمثل هذه الأصوات “لو وُجِدت” أن تمنح أملاً “مهما كان متواضعاً” بإمكانية التعايش مستقبلاً على أرضية وجود تيار غير إبادي في النظام نفسه، وفي هذه الحالة يجوز “أكثر من الاستخدام الدارج” أن نسمّيه نظاماً، ويجوز الحديث عن إعادة تأهيله بالاعتماد على تيارات منه ومن المعارضة لا تراه صراع وجود.
ليست المسألة بالتأكيد أن نمتدح اعتباطاً أولئك اليهود المحتجين، لأنهم امتلكوا حسّاً من الإنسانية والعدالة ينبغي تعزيزه وتعميمه. ثم إن الأمر برمته لا يقتصر على تصور إنساني أو إنسانوي؛ إنه في قلب السياسة، وإذا أمكن اليوم أو غداً للضغوط الدولية أن توقف الحرب على غزة فإن تنامي تيارات اليهود المناصرة للسلام في عواصم القرار سندٌ أكثر ديمومة لسياسات تلك الدول، أما الأهم فهو تنامي هذه التيارات بلا رجعة في إسرائيل، وهذا ما تحتاجه المنطقة عموماً.