يبدو أنّ السلطة السياسية والمجتمع المدني في تركيا، باتا أقرب إلى خطَّين متوازيَين لا يلتقيان، وفق ما يجلّيه تعاملهما مع العدوان الإسرائيلي على غزة. إذ لم يتجاوز موقف أنقرة الرسمي، إلى الآن، سقف استدعاء سفيرها من تل أبيب لـ«التشاور»، في حين تتواصل حملة مقاطعة إسرائيل في عدد من القطاعات الأكاديمية، والدعوات إلى حملات مماثلة في بقية القطاعات التجارية والعسكرية والديبلوماسية. كذلك، يَظهر «العجز» التركي عن اتّخاذ أيّ إجراءات عملية بحقّ إسرائيل، في ما كتبه، أمس، عبد القادر سيلفي (المقرّب من السلطة)، في صحيفة «حرييات»، أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، سيبدأ «حملةً ديبلوماسية» جديدة من أجل غزة، قوامها «إجراء اتصالات مكثّفة مع معظم زعماء العالم، وإذا تطلّب الأمر، الاجتماع بهم». ومن جهته، ربط وزير الطاقة التركي، ألب أرسلان بيرقدار، البحث في مشاريع الطاقة مع إسرائيل، والتي كان إردوغان أعلن سابقاً «تجميدها»، بوقفها إطلاق النار في غزة، من دون التراجع عن مبدأ «التعاون» بين الجانبَين. وخلا ذلك، تواصل تركيا انتهاج سياسة «التفرّج»، مكتفيةً بإرسال مساعدات إنسانية مختلفة، لا يدخل منها شيء إلى القطاع، بفعل الحصار الإسرائيلي المفروض على معبر رفح.
وفي هذا الإطار، يرى الكاتب المعروف، فهمي طاشتكين، في صحيفة «غازيتيه دوار»، أن «النكبة الثانية التي تدفع إليها إسرائيل، برعاية الولايات المتحدة وتواطؤ أوروبا، أَظهرت العجز التركي عن التأثير في مجريات الأحداث في المنطقة». ويضيف طاشتكين أن «وحشية إسرائيل لا تعرف حدوداً، لأنها تعرف أن أحداً من الذين يصرخون، لا يستطيع أن يفعل شيئاً. خذْ مثلاً “مهووس القدس”، إردوغان، الذي يزمجر من أجل حماس، ولا يفعل سوى ذرّ الرماد في العيون. لم يَعُد له تأثير على إسرائيل، ولو بمقدار ذرة»، متسائلاً: «هل توقَّف تصدير النفط من ميناء جيهان إلى إسرائيل، حيث تؤمّن آذربيجان لإسرائيل 40% من احتياجاتها النفطية عبر هذا الميناء؟ أَلَم تكن إسرائيل الشريك الثالث لآذربيجان وتركيا في حرب قره باغ؟ وهل قطعت باكو الصادرات، أو أوقفت أنقرة تحميل ناقلات النفط؟ أليس فولاذ القنابل من تركيا؟ هل قالت تركيا لإسرائيل: أريد وقْف تصدير الحديد والفولاذ إلى أن تنتهي الحرب (تركيا هي المصدّر الأكبر للحديد والفولاذ إلى إسرائيل)؟ من أين خرجت نظرية أن العلاقات الاقتصادية أمر منفصل عن السياسة؟ وهل كان ثراء عائلة إردوغان من ميناء أسدود قليلاً؟ أَلَم تتواصل العلاقات التجارية، رغم مسألة دافوس بين إردوغان والإسرائيليين؟».
والجواب على كلّ تلك الأسئلة، وفق الكاتب، هو أن «بنيامين نتنياهو واثق جدّاً ممّا يمكن أن يفعله إردوغان. حتى سحب السفير التركي الشكلي للتشاور، وضغط القاعدة الإسلامية، لم يفعلا فعلهما في اتّخاذ أيّ إجراء عملي ضدّ إسرائيل. لماذا لا نفتح النار أبعد من استدعاء سفير؟ حتى التظاهرة أمام قاعدة إينجيرليك ووجهت بقنابل الغاز المسيلة للدموع». ويتساءل طاشتكين: «لماذا لا يستجيب إردوغان لقاعدته التي تطالب بقطع العلاقات مع إسرائيل؟ يقول (إردوغان) إنه لا مكان لقطع العلاقات في العلاقات الدولية، ولكن ماذا أبقى الحريق سوى الرماد؟ إن دعاة الإسلام السياسي دائماً ما كانوا يغطّون خطاياهم بورقة فلسطين، (لكنهم) لا ينتفضون ضدّ الجرائم والمجازر والفساد والكوارث. إنهم فقط يثرثرون، وحروبهم في سوريا لم تَخدم سوى إسرائيل (…) ويقولون إنهم يحبّون حماس!».
ومن جهته، يكتب ندرت أرسانيل، في «يني شفق»، قائلاً إنّ «المشاعر المعادية للغرب والإمبريالية في تصاعد منذ ثماني سنوات. وهذا أمر طبيعي؛ فالولايات المتحدة لم تقدّم أبداً ما يدفع إلى الطمأنينة. لقد ذهب المتظاهرون إلى إينجيرليك احتجاجاً على إسرائيل، وبالتالي على الولايات المتحدة، لأن القاعدة تحوّلت إلى رمز للقباحات الأميركية». ويلفت أرسانيل أن «هناك تبايناً حول بقاء تركيا في حلف شمال الأطلسي من عدمه، ولكن، حتى الآن، الأطلسي يمنح تركيا هامش مناورة استراتيجياً لمصلحتها. وأنقرة لا تفكّر في الانسحاب منه». كما يشير إلى أن «مجلّة “دير شبيغل” (الألمانية) ترى أن “حرب غزة ستكون المسمار الأخير في نعش الهيمنة الغربية على العالم”… إنّ التحليلات كثيرة، لكن المسمار الأخير سيكون بيد تركيا. والمسمار هو الظروف التي نشهدها. إنّ تركيا تَعرف مصلحتها، وأين ومتى وكيف تتحرّك لتحقيقها». ويتساءل عمّا «إذا كان من المناسب لتركيا إغلاق القواعد التي يستخدمها الغرب؟وهل تخدم هذه القواعد وظائفها؟»، ليجيب بأنه «ليس كما في السابق. لذا، فإن الحديث يقترب شيئاً فشيئاً من مصير هذه القواعد. ونحن الآن في مرحلة جديدة من “شيئاً فشيئاً”. لذلك، فإنّ عدم تقبيل حاقان فيدان، وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، والاستقبال البارد الذي ووجه به الأخير في أنقرة، يجب ألّا يُقرأ ارتباطاً فقط بالوضع في غزة، لأنّنا قبّلنا، على امتداد 75 عاماً، بما فيه الكفاية».كذلك، حظيت الأحاديث عن احتمال أن تَقبل تركيا استقبال مليون لاجئ فلسطيني على أراضيها، باهتمام العديد من الأقلام؛ ومنها عبد القادر سيلفي، الذي كتب في «حرييات» أن «الذين أرادوا نشر الفوضى في تركيا عبر إثارة قضية اللاجئين السوريين فيها، يريدون اليوم فعل الشيء نفسه عبر نشر إشاعة أن تركيا ستستقبل مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين على أراضيها، بل في مقابل حصولها على 30 مليار يورو». ويصف سيلفي كلّ ما يُقال في هذا الإطار بأنه «كذب متعمّد، ولا هدف لهذه الدعاية سوى تخريب جهود تركيا لوقف إطلاق النار. تركيا تريد بقاء الفلسطينيين في أرضهم، لا ترحيلهم». ويوضح أنّ هذا هو أيضاً ما أبلغه فيدان لبلينكن في أنقرة، ناقلاً عن الأوّل قوله للثاني، في لقائهما الأخير، إن «ما يجري في غزة يسيء إلى صورة أميركا، ويُلحق بها الضرر الكبير، ويجعلها في نظر العالم حامية إسرائيل»، فيما اعتبر فيدان، في اجتماع مغلق لـ«حزب العدالة والتنمية»، أنّ «انحياز الغرب إلى جانب إسرائيل يضع قيمه الروحية في بئر لا قعر له».
في هذا الوقت، اتّسعت دائرة الجامعات المقاطِعة للتعاون الأكاديمي مع نظيراتها في إسرائيل؛ إذ أعلنت جامعة «بوغازتشي»، إحدى أهمّ جامعات تركيا، التوقّف عن التعاون الأكاديمي مع الجامعات الإسرائيلية، «إلى أن يتوقّف إطلاق النار في غزة»، فيما أكد رئيسها «(أنّنا) إلى جانب فلسطين». وكذلك الأمر بالنسبة إلى جامعة «إسطنبول» التقنية، وثلاث جامعات في مدينة أسكي شهر، وجامعة «29 أيار»، والتي أعلنت منع بيع أيّ منتجات إسرائيلية في حرمها. وكانت قرّرت رئاسة البرلمان التركي منع تقديم ضيافة تحوي أيّاً من منتجات الشركات الداعمة لإسرائيل في حرم البرلمان، ومنها شركتا «نستله» و«كوكاكولا». لكن تكتّل «أكاديميو السلام الأتراك» طالب الدولة، في بيان، بقطع كلّ العلاقات العسكرية والتجارية والديبلوماسية مع إسرائيل بسبب عدوانها على غزة. وجاء في البيان، الذي بلغ عدد الموقّعين عليه 192 أكاديمياً، أنّ وجود «حماس» مجرّد ذريعة لممارسات إسرائيل التي بدأت قبل نشوء الحركة، وهدفها تهويد فلسطين.